لو كنت سأشعر هذه اللحظات بالشفقة على شيء، سأشعر بها نحو الزمن الماضي، ليس ذلك الماضي الذي تشعر بالحنين إليه، وتستذكر تفاصيله الجميلة مع من شاركوك إياها، بل للذي يستخدم كحصن مقدس ضد المستقبل، كتفاصيل بالغة الصدق لا تمس، ذلك النوع من الماضي متورط بنا حد التهمة، فرغم أنه أدى دوره مشكوراً قبل أن يغادر، إلا أننا نرغمه على العيش، ونجبره على الفعل رغم عجزه. نثق فيه رغم أنه لم يوص بذلك قبل موته، ووقت شعورنا بالهزيمة أو هروبنا من حقيقة نخشى مواجهتها، نكدس فوق رأسه كل ذلك حتى نرتاح. مَن الرجل الذي يبدو أنه لم يعش بيننا وقال: إن الماضي لا يعود؟ بل يعود بكل مرة نجلس بمكان يتحدثون فيه عن حكايات اندثرت قبل سنين، ولأي حد كنا جيدين، ومثال يحتذي به العالم السيء، وأنت تعلم حينها أن ذلك لن يغير من حقيقة ما نحن فيه الآن.
تعود نسخة الماضي تلك وأنت تفتش بين مئات الآلاف من الكتب عن المستقبل، فلا تجد إلا من يكتبون عن الماضي. وإن كان حظك مبتسماً ووجدت كتاباً يهتم بالقادم من الأيام، فستجده مهملاً ويحتل التصنيف الأدنى من القراءات، وكأن المستقبل سيقرر حين يأتي وقته أن يستقيل. الماضي يعود حين نجرّ التراث بكل حوار مع من يختلفون معنا، لنبرهن لهم أننا أقرب منهم للحق، وعليه فهم محكومون بناء على شيء شبع موتاً. يرجع الماضي حين نهتم بإفراط بالتاريخ، عمن كان جدنا الخامس عشر؟ ما الذي فعله؟ وبأي سنة كان ذلك؟ لأي عائلة ننتمي؟ فذلك يشكل فرقاً، عن الفخر المتطرف بـكنّا، عن الانتماء المبالغ فيه لحدث كان بجعله خارطة حياة، أليس علينا القلق بأن يكون مستقبلنا شكلاً متأنقاً من ماضينا ليس أكثر، أم إن الوقت ما زال مبكراً؟