الإسلاميون سيكتسحون الوطن العربي من جديد لتبدأ تصفية المقاومة الجهادية بيد القيادات الحزبية الإسلامية التي وصلت إلى الحكم، بحجة إحراجها لهم.

إن هذا المقال لا يعني أولئك الذين لم يُفَرِّغوا أنفسهم، ولو لساعة واحدة من أعمارهم، ليطَّلِعُوا ولو بشكل عابر على الوثائق البريطانية، التي تخص الوطن العربي بما فيه من شيوخ قبائل وقيادات وطنية ورجالات دين، فمن خلال تذكرها دون تدوينها قد نتمكن من صناعة نظرية متماسكة لما يحدث حولنا، طبعاً ليس من خلالها وحدها فليست الوثائق البريطانية كل التاريخ، ولكن من خلالها نتعرف على خيوط التشكل وإمكانيات القوى العظمى. فهذه القوى في نظر كثيرين تعتبر شيئاً يشل التفكير، لتصبح على ألسنتهم مفردة رَعَّاشَة اسمها (المؤامرة الاستعمارية) وليس هناك عاقل ينكر أثر القوي على الضعيف، ولكن إلى أي مدى؟ وما هي المساحات الممكنة للقوى العظمى؟ طبعاً القوى العظمى لا يهمها سوى مصالحها، مصالحها فقط.. لا يهمها وعودها ولا مواثيقها، فلا عهود ولا مواثيق مع الضعفاء، ومن يقارن بين الوثائق البريطانية والواقع التاريخي في هرولة الشريف وأبنائه إلى أروقة أوروبا بعد نجاح الثورة العربية يدرك معنى العهود والمواثيق التي يعطيها الأقوياء للضعفاء.
العهود في السياسة يمنحها القوي للضعيف، ولكن لمصالح تخص القوي أولاً، وتتقاطع معها مصلحة الضعيف ثانياً، وما عدا ذلك أوهام البسطاء على أبواب اللئام، فدهاليز السياسة الصرفة تقرأ الأشياء من منطق قتل رجل واحد جريمة، وقتل مليون شخص مجرد إحصائية ـ قد تستثمر في البند السابع وقد لا تستثمر حسب الحاجة!ـ لن نذكر شئيا عن الوثائق البريطانية القديمة ولكننا سنأخذ الرؤية التي طرحها ديفيد فرومكين عندما تحدث عن مستقبل المنطقة بعد سقوط العثمانيين يقول: (إذا استمر زخم التحديات، لتسوية 1922 فإننا سنرى يوما الشرق الأوسط في وضع يشبه أوروبا القديمة بعد زوال الإمبراطورية الرومانية احتاجت ألف سنة كي يستقر النظام السياسي على شكل الدولة الأمة، وخمسمئة عام أخرى لتقرير ما الأمم التي تمتلك الحق في أن تشكل دولا.. لقد تبين أن أزمة الشرق الأوسط المستمرة في زمننا هي مثل موضوع أزمة أوروبا القديمة). لنعد الآن للواقع العربي الحالي، ولنطرح تساؤلات عن دور القوى العظمى في المنطقة؟ ولنحاول الإجابة عن بعض ما يمكن إدراكه، فنلاحظ أن الغرب كما نراه في صراع مع إيران، وهو فعلاً كذلك إلى حدود لا تنسينا فضيحة (إيران جيت). الذاكرة العربية المثقوبة تنسى أن الغرب في صراعه مع صدام حسين إلى حد المواجهة العسكرية في حرب الخليج الثانية تخلى فيه الغرب ممثلاً بأميركا عن آلاف الشيعة ليسحقهم صدام بشكل يتجاوز الوصف الحيواني عدا الإنساني، ثم يعود بعد ذلك بسنوات لينقذ العراقيين بكل أطيافهم من استبداد الطاغية! فلم التوقف في الفترة الأولى لحدود اتفاقية صفوان؟! فهل السبع الجريح أقل ضراوة من قبل؟! أين الأهداف المرسومة من إدخال صدام حسين نفسه في حرب وقودها الناس والصواريخ الأميركية على مدى ثمان سنوات ضد إيران، لإيقاف التوغل الفارسي على العرب؟!
بدأت الحرب الثالثة على العراق ـ أو ما سمي بحرب تحرير العراق ـ لنكتشف إيران وبشكل كوميدي أسود تتغول على الواقع العراقي وكل ذلك بوجود القوات الأميركية، وليس قبل خروجها، بل بإشرافها، وهنا النقطة التي نريد الإشارة إليها في إمكانيات القوى العظمى، إنها تعيد إلى ذاكرتنا حكايات الضباط العسكريين عن قدرات القوات الجوية وأثرها الفعال في تغيير الواقع على الأرض، ولكن ضباط القوات البرية دائماً يفاخرون بأنه لا يحتل الأرض ويرفع راية النصر عليها سوى جنود المشاة، وكذلك هي القوى العظمى ونفوذها، إنها تشبه قوات جوية ضاربة تستطيع تغيير المعطيات على الأرض، ولكن الأيديولوجية الأذكى هي من تقنع هذه القوات الجوية بأنها خير من يمسك الواقع على الأرض مع مراعاتها لمصالح الجميع مواطنين ومستعمرين! الإمام السيستاني كان رجلاً أعلم بمصالح العراقيين عموماً وهو يرى القصف من كل مكان، فهادن الأميركيين والبريطانيين بما يحفظ دماء العراقيين، وبما يُلزِم الخصم بتقاليد الاعتراف وفق واقع أنهم أهل الأرض ـ مما جعل بريمر يمتدح عقلانيته في مذكراته ـ بينما القوى الوطنية والدينية الأخرى انشغلت تماماً بمعطى القتال/المقاومة/ الجهاد ممثلة بعضها بالزرقاوي! بينما المفاوضون العقلاء استثمروا كل ذلك لصالح معطيات واقعهم على الأرض، كما حصل حتى من شيخ قبيلة يدعى عبد الستار أبو الريش رحمه الله. وأخيراً تمكنت إيران من ملء الفراغ الذي يحتاجه العراقيون، وغاب عنه العرب، فالفراغ لا يستطيع أن يملأه أي مستعمر حسب قراءته العميقة لأساليبه القديمة، ولكي لا ينجب الوطن العربي آلافاً مثل جميلة بوحيرد، ولهذا يأتي دور دول الجوار، وإيران بلد مجاور للعراق، والجار أولى بالدار، فكان الواقع على الأرض للأسف فارسيا أكثر منه عربيا. سورية تمد العراق بالمقاتلين/ المجاهدين السُنَّة ضد الأميركيين! وتقف مع إيران في حلف قوي ضد أميركا، وأميركا غير معترضة على النفوذ الإيراني في العراق، معادلة تثير الصداع، لكن قطعاً هناك ثوابت غربية لا تتغير أبداً وهي المصالح، ليتدفق النفط العراقي بشكل جيد إلى التانكي الأميركي والبريطاني، ثم ماذا أيضاً من ثوابت؟ أمن إسرائيل قطعاً، وماذا أيضاً؟ الحفاظ على تدفق آمن لنفط الخليج، ثم ماذا أيضاً من ثوابت أخرى نستطيع بعدها أن نعرف المتغيرات؟ آخر الثوابت إنهاء وتفتيت الأيديولوجية التي تخلق جيوب المقاومة التي تصنع طموحاً خارقاً كطموح ابن لادن في ضرب العمق الأميركي خصوصاً والغربي عموماً، إذاً فما الذي بقي؟ لم يبق شيء، فما عدا ذلك يعتبر متغيراً قابلاً للتفاوض، ولنسمِ المتغيرات الأخرى ما شئنا من مسميات، (شرق أوسط كبير) أو صغير فالنتيجة واحدة، ما دامت الثوابت الأميركية واحدة.
هل أميركا تفضل الاستبداد في الحكومات العربية على الديمقراطية؟ بالشكل القديم لا تحب ذلك، لسبب بسيط، أن هذا الاستبداد يشكل خطراً على أمنها من خلال خلق جيوب تمرد إسلامية تحت دعاوى جهادية تخطئ دائما في طريق تل أبيب فتظنه هنا أو هناك، بخلاف ما كان عليه الأمر أيام الخمسينات والستينات عندما نشأت جيوب تمرد قومية تحت دعاوى فدائية لم تخطئ طريقها لتل أبيب، لكن الإشكال في بعض القيادات القومية التي اكتسحت الوطن العربي في ثوب العسكريتاريا القومية، لتبدأ بعد ذلك في تصفية المقاومة الفدائية بحجة إحراجها للزعامات القومية آنذاك! واتهام الزعامات القومية للفدائيين القوميين بالغفلة عن المعطيات السياسية التي قادتنا على حين غرة إلى اتفاقية كامب ديفيد! ونظن الإسلاميين سيكتسحون الوطن العربي من جديد لتبدأ تصفية المقاومة الجهادية بيد القيادات الحزبية الإسلامية التي وصلت إلى الحكم، بحجة إحراجها لهم، ولا نعلم ما الذي ستقودنا إليه معطيات الإسلاميين من اتفاقيات، ولكن يقيناً أن روح المقاومة لهذه الأمة لن تنتهي.. الذي سينتهي هو الشعار المرفوع، فمن بعض الفدائيين المتعجرفين في القرن الماضي إلى بعض الاستشهاديين الأشد عجرفة في القرن الحالي، وإلى ما سيدركه أبناء أمتنا بكل طوائفها وأعراقها، في المستقبل، ولا نعلم هل سيسميهم الزمن آنذاك، إرهابيين يلغون في الدماء، أم أبطالا يجيدون نزع الدلاء دون قطع الرشاء، ليرووا عطش أمتهم للعدالة والكرامة والحرية؟!