عبدالله السفر

يبرع القاص ضيف فهد في جعل نصوصه القصصية عامرةً بالفجوات والفراغات. يترك مساحات معلّقة تحتشد بالبياض؛ غائمة لا تفلح الإحداثيّات الجاهزة في رصدها وتحديدها. ربما يعنت معه القارئ الذي تعوّد المسار التقليدي في القص، ويربكه الانحراف الذي يعمل عند ضيف بمثابة قانون يحكم صنيعه الإبداعي. لن تعثر لديه على ما تتوقع، لن تجد عنده مرسى ملائما تفيء إليه محمّلاً بما هو صلبٌ يقينيٌّ أنه في يدك وأنه لك. ثمّة فرارٌ من المباشرة وهروبٌ من التعيّن. كأنما أنت قبالة لعبة، ومن أجل أن تستمتع بها عليك أن تتخلّى عن الشروط وتستعد للمفاجآت. كما عليك أنْ تتخلّى عن سؤال الجدوى المختبئ في البحث عن المعنى بما هو صيغة ثابتة ظاهرة وبادية للعيان يجري التوافق عليها لتمرير أو تبرير هدف الكتابة، باعتبار أنّ هذا الهدف شيء يمكن الوصول إليه بسهولة والتحكم به، وإنزاله منزلة الغاية معتمرةً قبّعة الجديّة والجهامة.
في هذا المناخ تأتي المجموعة القصصية الثانية لضيف فهد ع (نادي الجوف الأدبي الثقافي، سكاكا ـ 2012) حيث الفتنة بالحكاية التي لا تلتمّ خيوطُها إلا لتنفرط. يقعُ في الوهم أنّ هناك مركزا أو نواة ينبني عليها السرد ويظلّ مربوطاً بها كعلاماتٍ تُحدثُ تراكما، يفضي إلى وضوح الحكاية؛ بيتاً معروف المداخل والمخارج. ليس ثمّة غيرُ إغراء المتاهة وتعدّد الأضواء بخدعة الدرب السالك. ينتصبُ السّارد بعدّة الإغواء والمطاردة، يرخي خيط السرد ويجذبه في لعبة الإبداع النضرة المتجدّدة التي تنشئ عالماً افتراضيّا يضاهي العالم الواقعي ويخترقه، ساحباً إياه إلى فضاء المخيّلة والكلمة وقد فتّته إلى فسيفساء يرشقها في جدار النص لتلمعَ لمعتَها البهيّة.
في قصة خطأ الوقوع في محبة طائر أثناء ما تروي حكايته يقوم السارد بنثر شظايا مضللة عن حكاية طائر بحري في واحدةٍ من هجراته الموسمية ومحطّته قرية السارد، يحطّ على إحدى الشجيرات لبضعة أيام ثم يواصل رحلته. الغموض يلحق بتسمية الطائر الذي ما فتئ يتردد على القرية موسميّا، فيكتسب اسما هو اللااسم الطائر الذي على الأرجح أنه أحد طيور البحر. حضوره يحدث في أهل القريةِ الغبطةَ والحبور وافتقاده في موعده يعمل على إشاعة الخيبة والقلق، بما يتأدّى إلى أن هذا الطائر يصنع حياةً للقرية وتخشى غيابه فيحزّها الانتظار. وينكسر السرد أو يلتفّ مرتين؛ بحكاية موازية عن تسميات الطيور وطقوسها وندب من يحسن القيام بهذا الدور؛ وأخرى عن السارد في فتوّته ومرانه على الصيد بـ (شهوة قتلٍ طاغية) لئلا يخيّب ثقة الأب الصياد فيه بإحسان التصويب ودقّته.. ويعود مجرى الحكاية بانتخاب تحوّلٍ غريب يقصم تعلّق القرية بالطائر، إذْ ينبري أحدهم ـ والد السارد ـ لاصطياده (لم يتعب نفسه في التبرير كثيرا، سوى أنه تحدّث عن توتّره من هذا الانتظار كل عام، وخشيته من عدم عودته، وقرّرالاحتفاظ بهذا الطائر إلى الأبد.. حتّى وإنْ كان ميْتاً). وفي نهاية القصة يحصل العناق بين العنوان خطأ الوقوع في محبة طائر أثناء ما تروي حكايته وبين السارد، حين نعلم أنّ خبرَ قتلِ الأب الطائرَ لم يكن صحيحا وهو محض اختلاق لتأبيد حضور ذلك الطائر ونقله من الغفليّة والذهاب إلى المجهول. برسمِ المحبّة وقبضتِها الخانقة تجندلَ الطائر. الاستحواذ الذي يقرّر نطاق الملكيّة فيمدّده بمنطق العشق القاتل؛ هو البطانةُ التي تقوم خارج الحدث، وهو الظل الذي يتّصل بفتنة السرد؛ أن تحكي هو أن تستولي. عمليّة استيلاء إبداعيّة يمرّرها الكاتب بكثافة وعمق.
وبعمليّة في اتجاه معاكس، نقرأ قصة فكرة تدبّر لأمرٍ ما حيث السارد يناور في طرد الأفكار المزعجة العابرة غير الناضجة. يتدبّر أمرها جيّدا فيبددها أولا بأول وتباعاً، لكنّها لا تنفكّ تغزوه بما يهدّد لياقته الإبداعيّة (... يتعرّق، ويبتلّ، ويرتجف، حتّى يتمكّن في النهاية من تدبّر طريقة للتخلّص منها دون رجعة). على وقع تتابع الأفكار غير الناضجة، يشرق وعيُهُ متنبّها إلى الفخ. ذلك أن فكرة ناضجة أخذتْ تكبر وهي الآن من تتدبّر السارد نفسه وتهيّئ له حفرة؛ الابتلاع. بما يعني أن ميكانزم الإبداع لا يعمل بتمامه إلا ضمن منطق الاستحواذ؛ تأكلني فيما آكلك (أصبحت الفكرة التي تكبر الآن وتصبح ناضجة بشكل مخيف، تتعلّق بأنّ: فكرة كبيرة في مكانٍ بعيد، أرسلتْ له على مدار الأيام الماضية، هذا السربَ من الأفكار التافهة، والصغيرة، لتمتصّ حماسَهُ، ولتفقدَهُ ترقّبَهُ وحذرَهُ الدائم، وعندما يحدث هذا له/ وهو ما هو عليه بالضبط/ ستهاجمُهُ.. ستهاجمُهُ الفكرةُ الأكبر والأكثر نضجا وإزعاجاً في حياته. هذه الفكرة ستقضي عليه).
ع تجربةٌ في الكتابة وعن الكتابة في بعض جوانبها. مختبرٌ لا ينفكّ صاحبه عن الاختلاف والغرابة والإدهاش. سعيٌ لا يهدأ، ورحلةُ قنصٍ لا تنظر إلى غنيمة الإياب بقدر تسجيلها رذاذ المتعة يطيش بين الأوراق. *كاتب سعودي