مؤتمر القمة الإسلامي الذي احتضنته المملكة وعملت على إنجاحه، وضع كل القضايا أمام قادة العالم الإسلامي، ووضع القادة أمام مسؤولياتهم، وسوف يسألهم عنها التاريخ، الذي لا يرحم المقصرين والمتخاذلين

كما تناقلت الأخبار، نجحت المملكة في مؤتمر التضامن الإسلامي الاستثنائي، الذي عُقد في مكة المكرمة في رمضان هذا العام، فكرة وتنظيما ودعما ونتيجة، فالفكرة جاءت لحيثيات ومبررات مقنعة للوضع المأساوي الذي يعيشة العالم الإسلامي اليوم، والتنظيم جاء عالي المستوى، والدعم جاء باستعداد المملكة المساهمة مع باقي الدول في تفعيل قرارات المؤتمر وتحملها بعض النفقات، مثل تحملها أن تكون دولة المقر لـ مركز حوار المذاهب، وكل ما يدفع بنجاح تنفيذ تلك القرارات، إيمانا منها أن انعقاد هذا المؤتمر في هذه الظروف هو فرصة بالغة الثمن، ويجب استثمارها للتخفيف من معاناة المسلمين كهدف عاجل، ومعالجة مشاكل ضعف وتشرذم المسلمين وهوانهم على الناس.
الآن، انتهى المؤتمر، وخرج بـ38 قرارا مهما تتعلق بالتضامن مع الدول الإسلامية، وبالقضايا السياسة والتضامن مع الدول الأخرى، وقضايا الإصلاح، وكذلك التصدي لمشكلات الغلو والتطرف، وقضايا الحوار مع أتباع الأديان والثقافات والحضارات، والقضايا الاقتصادية والاجتماعية، ثم إبراز دور منظمة التعاون الإسلامي. واحتلت قضية التضامن الأولوية بواقع قرارين، ثم القضايا السياسية بواقع 22 قرارا تتعلق تباعا بقضية فلسطين وسورية ومالي وميانمار بتعرض جماعة الروهينغيا المسلمة للإبادة، ثم التركيز على التصدي للغلو والتطرف وأهمية الحوارات مع الذين نختلف معهم في الدين والحضارة، وتكريس التعاون الاقتصادي والاجتماعي بين الدول الإسلامية. وكان هناك شبه إجماع على كل تلك القرارات من قبل 57 دولة إسلامية مشاركة. وتابع العالم الإسلامي بأسره هذا المؤتمر، وابتهج بنجاحه الباهر الذي كشفه بيانه الختامي بقراراته الثمانية والثلاثين.
هذا على مستوى التنظير، لتأتي بعد ذلك تطلعات وآمال ملياري مسلم أن يأتي النجاح على مستوى التطبيق مساويا للنجاح على مستوى التنظير، حتى نرى عالمنا الإسلامي في وضعه الطبيعى الذي يستحقه والذي أراده الله له كنتم خير أمة...
يتطلع العالم الإسلامي ويأمل من جميع القادة المسلمين، أن يكونوا في مستوى عال من المصداقية أمام الله ثم أمام شعوبهم وأمام بعضهم بعضا، في الحرص والصدق والجدية في تنفيذ قرارات هذا المؤتمر الهام، التي لا يحتمل تنفيذها التأخير أو التباطؤ. فالتضامن الآن في وقتنا الحاضر هام يضمن وحدة الصف وجمع كلمة المسلمين ولمّ صفوفهم واستجماع قوتهم لمعالجة تلك القضايا، وتخليص الأمة من هذه الأزمات المتلاحقة، فهذه المشكلات لا يمكن حلها بالتعصبات الضيقة والولاءات الطائفية والتكتلات الحزبية.. بل يمكن حلها بأن يصبح العالم الإسلامي كتلة واحدة تتضامن وتتكاتف وتتعاون ليشد بعضها بعضا ويؤازر بعضها بعضا.
وعلى المستوى السياسي الذي حظي بـ22 قرارا في هذا المؤتمر، هناك مشكلات ملحة إلى أقصى درجات الإلحاح، فإخواننا في سورية يتعرضون للقتل وسفك الدماء، ولا بد من وقف عمليات القتل والتدمير هناك، وفي أسرع وقت. مكينة القتل وعمليات التدمير تسير بسرعة مذهلة والمعاناة هناك كبيرة، ولا يوجد أي مبرر لعدم العمل بسرعة تفوق تلك السرعة لوقفها. وفي فلسطين يتعرضون للهوان، وفي مالي وميانمار أيضا.. هذه المناطق الساخنة جدا في عالمنا الإسلامي ينظر ساكنوها ومعهم قلوب المسلمين التي تتفطر إلى قادة العالم الإسلامي ألاّ تتوقف جهودهم عند إصدار 22 قرارا تتعلق برفع معاناتهم، بل تنفيذ تلك القرارات، وألاّ يهدأ لهم بال إلا بعد رفع الظلم والقتل والهوان عنهم.
وفيما يتعلق بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية التي كان نصيبها 7 قرارات في المؤتمر فإن المواطنين، معظم المواطنين، في العالم الإسلامي يشعرون بدونيتهم وتخلفهم عن بقية دول العالم دون مبرر لهذا التخلف، وينظرون بكل التقدير إلى ما اتخذه المؤتمر من قرارات يضعون آمالهم فيها بعد الله متطلعين إلى أوضاع أفضل. الأمة الإسلامية لديها من الإمكانات والثروات والعقول ما يجعلها تتفوق على بلاد الدنيا.
ومن القرارات المهمة أيضا، ما يتعلق باختلاف أصحاب المذاهب من المسلمين وتناحرهم وتكتلهم ضد بعضهم البعض. ولعل هذا السبب هو المسؤول عن معظم ـ إن لم يكن كل ـ مشاكل المسلمين، فقد يكون سبب الفرقة وسبب عدم التعاون على كل المستويات، ولهذا كان اقتراح خادم الحرمين بإنشاء مركز للحوار بين المذاهب القرار الأبرز والألمع بين القرارت في هذا المؤتمر، إذا تجاوز المسلمون ولاءاتهم لمذاهبهم إلى ولاءاتهم للأمة بأكملها، وتجاوز المسلمون نظرتهم الضيقة لخدمة مذهبهم على حساب الأمة، وتجاوز المسلمون كيدهم لبعضهم وتآمرهم على بعضهم على أساس مذهبي، إذا تجاوز المسلمون كل ذلك فستكون لهم هيبة بين العالم، وسيكون لهم مكانة في الأرض. ستنتهي معاناتهم على مستوى التضامن وعلى مستوى السياسة وعلى المستوى الاقتصادي والاجتماعي، وسيتم الوصول إلى حلول لمشاكل الغلو والتطرف، لأن الأمة ستجتمع على كلمة سواء، ولن تجد الجماعات المتطرفة من يغذيها ويدعمها.
مشاكل الأمة الإسلامية تنطلق منها وتعود إليها. بعبارة أخرى الأمة هي سبب مشاكلها، ويجد الآخرون في تشرذم الأمة وتفرقها مجالا خصبا لاختراقها وإضعافها وهزيمتها على كل المستويات. إننا في العالم الإسلامي لا نفهم كيف يتكاتف الآخرون ونحن نفترق، وكيف يتعاون الآخرون ونحن نتحارب، وكيف يتقدم الآخرون ونحن نتخلف. مؤتمر القمة الإسلامي الذي احتضنته المملكة، ودعمته بنية صادقة، وعملت على إنجاحه بجهود مخلصة، وضع هذه القضايا أمام قادة العالم الإسلامي، ووضع القادة أمام مسؤولياتهم، وسوف يسألهم التاريخ الذي لا يرحم العاجزين والمقصرين والمتحاذلين. إننا ننتظر من قادة العالم الإسلامي أن يأخذوا هذه القرارات بالجدية.
ندرك أن في العالم الإسلامي من الاختلاف والتناقض والمشكلات ما يجعل من مهمة التضامن صعبة، وما يجعل من الصعوبة بمكان، التعامل مع القضايا السياسية والاقتصادية وكل القضايا التي تحدث عنها البيان الختامي وقراراته، لكن الأمل معقود في قادة العالم الإسلامي أن يستثمروا فرصة اللقاء، وفرصة النجاح في هذا المؤتمر، بتجاوز الخلافات واستشعار مسؤولياتهم تجاه دينهم وأمتهم، ليواجهوا قضايا العصر ومشكلات الأمة، وما لحق بالدين من تشويه وما ألصق به من تحريف.
هذا الاجتماع فرصة مواتية قد لا تعود. نسأل الله جلت قدرته أن يلمّ شمل العالم الإسلامي في وحدة يقوى بها الدين ويُعز بها المسلمون وتُنصر بها قضاياهم. نسأل الله تعالى أن يكتب التوفيق والنجاح لقادة المسلمين، ويعينهم على تنفيذ ما وصلوا إليه من قرارات ستعمل على خروج الأمة مما تعانيه من مشكلات وما ألحق بأبنائها من معاناة.