الوسيلة الوحيدة لجذب السعوديين إلى المواصلات العامة، هي إيجاد شبكة متكاملة من القطارات الحديثة عالية السرعة، أما القطارات البطيئة والباصات فإنها لن تستطيع إقناع معظم السعوديين بترك سياراتهم

أكتب هذا الأسبوع من كاليفورنيا، حيث أقر برلمان الولاية مؤخراً ستة مليارات دولار للبدء في بناء خط قطارات سريع لأول مرة في تاريخها. ومن المقرر أن يربط الخط بين مدينتي لوس أنجلس وسان فرانسيسكو، أهم مدينتين فيها، وتتجاوز سرعته (350) كيلومتر في الساعة. وهذا المبلغ هو الدفعة الأولى للمشروع الذي تقدر تكلفته بـ (68) مليار دولار.
ولتبني هذا المشروع في هذا الوقت دلالة كبيرة، فحكومة كاليفورنيا تعيش أزمة مالية هي الأسوأ منذ 80 عاماً، ولذلك فإنها تُظهر قيادة غير عادية في تبنيه في هذا الوقت، وتؤكد أهمية التحول نحو المواصلات العامة في ولاية كانت السيارة الخاصة فيها جزءاً من ثقافتها فضلاً عن كونها وسيلة المواصلات المفضلة لدى أهلها.
والمشروع يعكس كذلك توجهاً أميركياً جديداً للاستثمار في بناء نظام قطارات سريع، إذ إن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة بين كبار الدول الصناعية التي لا تملك مثل هذا النظام.
ولكنني أكتب عن هذا الموضوع لأن له أهمية خاصة لنا في المملكة حيث ما زلنا في حوار حول فائدة وأولوية بناء نظام متكامل للقطارات السريعة، وإن كنا دخلنا على استحياء منذ فترة إلى عالم القطارات التقليدية.
وبالنسبة لكاليفورنيا، فإنها قد أقرت منذ عام 2008 مبدأ بناء نظام للقطارات السريعة، وكان حاكمها السابق الجمهوري أرنولد شوارنزنجر ممن أيد هذا المشروع. ومع ذلك، فإن التصويت الأخير على تمويل الدفعة الأولى منه أظهر استقطاباً حزبياً واضحاً، فأصوات الجمهوريون جميعهم تقريباً ضده، بعد أن استنفر الحزب قواه في أماكن أخرى من الولايات المتحدة لمعارضته.
وستقوم الحكومة الاتحادية بتقديم تمويل جزئي للمرحلة الأولى من مشروع كاليفورنيا، كجزء من مبادرة الرئيس أوباما لبناء نظام وطني للقطارات السريعة، وهو أحد أولويات أوباما منذ كان مرشحاً للرئاسة. وبعد توليه منصبه في عام 2009، سعى إلى تحقيق حلمه، ولكن مقاومة الجمهوريين قلصت الموارد المتاحة له من الميزانية الاتحادية، مما دفع إدارة أوباما إلى السعي لتمويله من قبل الحكومات المحلية والقطاع الخاص، مستخدمة مخصصات الميزانية الفيدرالية كحافز لذلك التمويل. وقد نجحت في بعض الولايات، مثل كاليفورنيا وإيلينوي، في حين لم تنجح في بعضها، مثل ويسكانسن، التي أصبحت مؤخراً مركزاً للمحافظين، مثل بول رايان، الذي اختاره المرشح الجمهوري للرئاسة ميت رومني مؤخراً كنائب له.
وعلى الرغم من الفوائد الواضحة لتأسيس نظام للقطارات السريعة، فإن الموضوع قد أصبح نقطة خلاف في الحملات الانتخابية هذا العام، حيث يرى الجمهوريون أن السيارات يجب أن تظل محور نظام المواصلات، كما هو الحال منذ عقود، ويتوعدون بحجب التمويل عن أي مشروع للقطارات السريعة، أو تحديث نظام القطارات التقليلدية القائم.
والقليل اليوم في أميركا يتذكرون أن هذا البلد كان يتمتع بشبكة متكاملة للقطارات قبل أن يُقضى عليها لمصلحة السيارات. فخلال الفترة بين عامي 1935 و1950 قامت شركات السيارات وغيرها بالقضاء على معظم نظم القطارات، عن طريق شراء أكثر من مائة نظام منها، في (45) مدينـة أمـيركية، ثم تولت تفكـيكها وبيـعها كحـديد خـردة. ولعلك شاهدتَ بعض الأفلام التي صورت هذا التطور بشكل درامي، وربما رأيتَ كذلك صور القطارات القديمة وقد تم رصها على ارتفاع عدة طبقات في محلات التشليح. وقد تقبّل الأميركيون التحول من القطار إلى السيارة كجزء من التطور الطبيعي لنظم المواصلات، وكان له ما يبرره حين كان البترول متوفراً بأسعار زهيدة وآثار التلوث غير معروفة كما هي اليوم.
ولكن الوضع تغير الآن. فهناك قلق عميق من استنزاف البترول ومن التلوث والزحام الخانق الذي تُحدثه السيارات، فضلاً عن ارتفاع أسعار البنزين التي بلغت هذا الصيف نحو (1.25) دولار لليتر الواحد، أي أكثر من أربعة ريالات سعودية للتر. ومن ناحية أخرى، فإن قطـارات اليوم أسـرع بمراحل من قطارات الأمس، وأصبحت منافساً عملياً للسيارات وللطائرات في بعض الحالات.
وقد تبنّت معظم الدول الصناعية نظماً للقطارات السريعة، أو هي في طور تبنيها. وتصل سرعة تلك القطارات في اليابان إلى (300) كليومتر في الساعة، أما في الصين فتصل سرعة قطاراتها التقليدية إلى (350) كم في الساعة، في حين تتجاوز سرعة قطار الماغلف السريع في شانغهاي 430 كم في الساعة. أما في الولايات المتحدة، فعلى الرغم من الحملات القوية لتطوير نظم القطارات وتأسيس خدمة للقطارات السريعة، ما زال الموضوع محل نقاش. والقيادة التي تُبديها كاليفورينا قد لا تستمر أو تُعمّم إلى ولايات أخرى إذا كسب الجمهوريون انتخابات نوفمبر القادم. وأسباب المعارضة بعضها اقتصادي وبعضها سياسي وثقافي، فأولاً، يشعر المحافظون بقلق مما قد يسببه إنشاء نظام جديد للقطارت السريعة من زيادة في عجز الميزانية والدين الحكومي، وهو أمر محتم لأن مثل هذه النظم يتطلب استثماراً حكومياً بالدرجة الأولى. وثانياً، فعلى الرغم من ارتفاع أسعار البنزين، ما زال كبار السن من الأميركيين مرتبـطين بسياراتهم بشكل عميق، وسيكون من الصعب عليـهم تركها لاستخدام القطارات، سواء كانت سريعة أم بطيئة.
وهناك سبب ثالث، وهو أن الشركات المنتجة للسيارات، والشركات الأخرى المكمّلة، ستقاوم بكل تأكيد أي محاولة لتقليل دورها أو انتقاص حصتها من سوق المواصلات. وقد رأينا الجهود التي قامت بها هذه الشركات في السابق للقضاء على نظم القطارات القائمة، ولذلك فإنها لن تتردد في محاربة أي محاولة لإعادة نشرها.
وهذه الأسباب مجتمعة تجعل من الصعب التنبؤ بمصير القطارات السريعة في أميركا، خاصة إذا كانت هناك قيادة جمهورية في واشنطن. والدرس الأميركي مفيد لنا في المملكة العربية السعودية، حيث ما زال من الصعب تصور قيام نظام متكامل للقطارات، داخل المدن أوبينها، ما دامت أسعار البنزين في مستوياتها المتدنية مما يجعل منافسة القطارات لها شبه مستحيلة.
ولكن التحول إلى القطارات أصبح أمراً حتمياً تمليه المصلحة الوطنية ومستقبل البلد، لعدة أسباب. أولها: أن السيارات أصبحت السبب الرئيسي للوفاة بين الشباب، وتفقد البلد سنوياً أكثر من (4000) في حوادث السيارات حسب الإحصاءات الرسمية، فضلاً عن عشرات الآلاف من المصابين. ولذلك فإن التحول إلى القطارات، وهي أكثر وسائل المواصلات أماناً، قد يقلل من هذا النزيف.
ثانياً: الحد من الاختناقات المرورية في المدن الرئيسية وعلى الطرق، الناتجة عن انعدام الوسائل العملية البديلة للمواصلات، مثل القطارات السريعة.
ثالثاً: الحد من التلوث البيئي الذي تسببت فيه السيارات، حيث تعمل القطارات السريعة بالكهرباء، ولا تُسهم في التلوث داخل المدن.
رابعاً: الحاجة إلى الحد من استنزاف البترول، بعد أن أصبح السعوديون أكثر من يستهلك البترول في العالم، أربعة أضعاف ما يستهلكه الفرد الأميركي وثمانية أضعاف الفرد الياباني، وأصبحت المملكة تستهلك نحو ثلاثة ملايين برميل من البترول يومياً.
ولكن الوسيلة الوحيدة لجذب السعوديين إلى المواصلات العامة هي إيجاد شبكة متكاملة من القطارات الحديثة عالية السرعة، التي تستطيع منافسة السيارة. أما القطارات البطيئة والباصات فإنها لن تستطيع إقناع السعوديين بترك سياراتهم.