عبدالله السفر*

 حياةٌ جافّةٌ متقشّرة، تتدلّى منها يدٌ فارغة لم تقبض يوما على أمل ولم يزهر فيها حلم. خواءٌ مشدودٌ إلى وتد وقتٍ تدورُ ساعاتُهُ في الفراغ الشاسع، لا شيء يعلق معها بأثر البهجةِ ولا ببقايا متعةٍ تُستعاد من محطّات العمر الغاربة. هي حياةٌ تخثّرتْ، تُعاشُ موتاً مؤجّلاً تهجسُ به الوقائع ولا تنهمر من الذاكرة إلا صورُه.
عن هذه الحياة يكتب الشاعر عبدالرحمن الشهري ديوانَهُ الثاني لسببٍ لا يعرفه (مؤسسة الانتشار العربي، بيروت ـ 2012) الذي يأتي في كنف الألم وحصادِ الحزن الممتد منذ فجر الطفولة حتّى بوّابة المقبرة. يحملُ الشاعرُ في داخله وَسْمَ الأيامِ الحارق وحُفْرَةَ عثراتٍ لم يزدها تاريخُهُ الشخصي إلا اتّساعا وطلباً بشبهةٍ مازوشيّة؛ تستعذب إيقاعَ الألم وتسعى إليه. كأنما هناك رغبة محفورة في الداخل تجدّ في نيل ما هو أبعد وأقصى متمثّلاً في الموت، يواري حياةً جفّتْ عروقُها وهجرتْها دواعي البقاء (في داخلِهِ/ ندبةٌ قديمةٌ يتجمّعُ فيها الحزن../ حزنٌ أثيرٌ على قلبه/ وكلّما صادَفَهُ في الطريق/ يحمله بلا تردّد).
إن استطابةَ الموت والنضجَ له يسري في مفاصل العمل. الموت الطالب الذي نحاول أن نفرّ منه، يغدو مطلوبا وطريدةً تُنصَب لها الفخاخ المعجّلة بسقوطها. ثمّة تصميمٌ لا ينثني ومرابطةٌ لا تهدأ. طقوس استحضار تخامر الفعلَ الذي إنْ تغشّى بالعادة غير أنّهُ مفضوحٌ يفصح عن مرماه. في نص زهرة تتجلّى الحياةُ المتروكة ينتابُ زهرتَها الذبول وإنْ أطلّت بالتفتّح المرتجى فهو في الوهم الذي يسوسُ العمرَ إلى منحدرِه الكائن في زهرةٍ أخرى؛ جمرةِ سيجارةٍ تحضن مفارقة الاسم وتنهج نحو التبدّد الساكن في الذبول. ما تيبّسَ على شجرة الحياة ينبغي أن ينطفئ على إثره الجسد؛ إزهارٌ يغري الموتَ بالاقتراب والعناق (الشجرُ وديعٌ بطبيعته/ والزهرةُ التي تركها تذبلُ على الغصن/ وتتفتّح في ذاكرته/ تلحُّ عليه من وقتٍ لآخر../ ما مِن زهرةٍ أخرى يمكنها أن تستهويه/ أو تعدلَ مزاجَهُ السيّئ،/ سوى زهرةِ سيجارتِه/ التي تذبلُ بين أصابعِهِ المصفرّة/ وتتفتّح في رئتيْه).
الشاعرُ الذاهلُ عن الحياة تجري من حوله. لا يشغلُهُ منها إلا الجثث الطافية بما هي التجسيد الأوفى لوقائع حياته وذكرياته. لا ينتبه للعمر الذي يمضي جارفا الحلمَ والأمل، ولا يشتعل في جوفِه أُوارُ الحنين. شيئيّةٌ صلبة لا تندى.. رجلُ المختبر يحدّقُ ويرصد، ولا شأن له بذاتِهِ التي عكفَ عليها؛ جسداً تنفَدُ منه السخونةُ على طاولة التشريح (تسقط شعرةٌ من رأسه/ وتبيضُّ أخرى،/ ليبدو أكبرَ مما هو عليه/ ولا يشعرُ بأيّ حنين../ العمرُ يلملم أشلاءَهُ/ ويذهب إلى حيث لا يدري/ وهو مقرفصٌ في مكانِهِ).. (.. العمر الذي يجري مثل نهرٍ/ سيحملُ معه الكثير/ من الرغبات المؤجّلة/ والآمال التي لا سبيل إلى تذكّرها الآن).
ونقرأ في نص ذخيرة عيّنةً عميقةَ الدلالة تجعل الحياةَ حاضرةً للموت ومحضونةً به، بإشارة إلى النّعش المستقرّ في الإذهان بانتقال الموتى إلى مثواهم الأخير، لكنه في هذا النص يأتي مرفوقاً بالأيام وعليه بدنُ الشاعرِ الحيّ. انشدادٌ غامرٌ يعرضُ عن الحياة بطاقةٍ منذورةٍ للزوال (الأيام التي بسطتْ جسدَهُ بلا غايةٍ تُذكَر/ وحملتْهُ فوقَ نعشِها).
عبدالرحمن الشهري في لسببٍ لا يعرفه يبوحُ بتجربةِ الألم الذي يفصح عنه في الإهداء (ماتت عائشة...) وبتجربةِ الاختناق بالحياة يقود إليها التصدير الموالي للإهداء بقلم ي. أثيلبرت ميلر (كم وفيرٌ هو الفراغ وهو يفيض كآبةً ووحدة). ضوءُ الإهداء والتصدير يكشف عن السبّب الذي جعل النصوص تموجُ في صُفرةِ الحياة وأوراقها اليابسة بانتظار هبوبِ الاقتلاع الذي قاربَهُ الشهري شعريّا بملموسيّةٍ تقطعُ بمرارةِ قلبٍ (لاكَهُ الموتُ بقسوةٍ شديدة/ ولم يلفظْهُ حتّى الآن).
* كاتب سعودي