بلغ الإنفاق على التعليم العالي هذا العام بالمملكة ما يقدر 150 مليار ريال ويمثل حوالي 26% من النفقات المعتمدة بالميزانية، وبزيادة نسبتها 8%عن ما تم تخصيصه بميزانية العام المالي الحالي 1431/ 1432. والأبحاث والمقالات العلمية هي جزء أصيل في مكونات منظومة التعليم العالي بل وتعد إحدى أهم الصفات التي تعكس تطور العلم في بلد ما.
الأبحاث والمقالات العلمية هي مادة علمية متخصصة ومتعمقة تحاول إثبات نظرية أو تصحيحها أو طرح تجربة معرفية حديثة وإحداث فتح علمي في مجال محدد أو في عدد من المجالات المتداخلة، تختلف بمنهجياتها وطرقها وأساليبها كما ونوعا وتطبيقا نظريا ومخبريا. وعليه فإن النشر العلمي أصبح أحد المعايير الرئيسية التي يقاس عليها تطور الجامعة علميا وإبداع الباحثين بها، وبالتالي التطور العلمي للدولة بحسب عدد ونوع النشر العلمي وبراءات الاختراعات. وتختلف استراتيجيات ومنهجيات النشر لكل جامعة، والطرق التي تستخدمها لتعزيز النشر العلمي والأبحاث، والواقع أن جل الجامعات بالمملكة بحاجة في وقتنا الحاضر إلى مزيد من التطوير إذا أردنا اللحاق بالركب العالمي المتطور، فبناء على ما نشرته صحيفة الجارديان البريطانية في مارس عام 2011 تحتل الولايات المتحدة المركز الأول في النشر العلمي، ويتوقع أن تكون الصين صاحبة المركز الأول في عام 2013 من حيث كم النشر والاقتباس. وإذا حاولنا تخيل ما نسميه في هذا المقال: مثلث النشر العلمي، والذي يتكون من: الباحث – المنتج العلمي – الحاضن العلمي فإن التطوير يجب ألا يتوانى في دعم هذه العناصر الثلاثة، بل وضرورة أن يتلازم التطوير بخطة استراتيجية تدرس نقاط القوة وتحاول تعزيزها ونقاط الضعف والتي يجب حشد كافة القوة الموجودة لتقليصها وتضعيفها، وكذلك الفرص المستقبلية وكيف يمكن الحصول عليها والتهديدات المستقبلية والخارجية ومحاولة تجنبها. وإذا تناولنا الباحث كأحد الأضلاع لمثلث البحث العلمي فإنه ولكي نصل إلى باحث علمي متميز فاعل وخلاق في الابتكار والمعرفة، وبالإضافة إلى التعمق بالتخصص والإلمام التام بالمنهجيات العلمية المختلفة، يلزمنا التفكير في العقول التي نصنعها للمستقبل وكما يقول هوارد جاردنر إن هناك خمسة عقول هي وحدها القادرة على قيادة المستقبل، وقد بدأ أولها بالعقل التخصصي والذي يمضي أعواما كثيرة في معرفة التخصص والإلمام بمناهجه وتعريفاته وأساسياته وتطوره وأبرز مدارسه، وأضاف بعد ذلك العقل المركب وهو العقل الذي يحاول تركيب عدد من العلوم مع بعضها أو إجراء تجارب علمية في أكثر من علم بهدف معرفة العلاقات المتشابكة بين مختلف العلوم، ويزيد جارندر بتحدثه عن العقل الثالث وهو العقل المبدع والذي يحاول عمل اختراقات علمية ويفكر بطريقة وشكل غير معتادين، محاولا إضافة ما هو جديد في حقل علمي معين مستفيدا من التجارب السابقة، وتحدث كذلك جاردنر عن عقلين آخرين وهما العقل المحترم والعقل الأخلاقي وهما عقول القيم.
العديد من الأسئلة كذلك نحاول طرحها حول الضلع الآخر وهو الحاضن العلمي، وما نراه الآن من سرعة غير مسبوقة لمشاركة المعلومات والتجارب ومختلف المواد التي قد تساهم في تطور العلم بشكل فريد، علاوة على محركات البحث العلمية المتخصصة التابعة لجامعات دولية وضرورة الاشتراك بها وتوفيرها بشكل مجاني لجميع الباحثين، مستفيدين من التقنية بتوفيرها لهم في أي موقع، وكذلك لا نهمل دور الترجمة واللغة في ترجمة المقالات العلمية المتخصصة، وكذلك إدراج الكلمات العلمية إلى معجم المصطلحات العلمية والذي يعنى بتعريب اللغة العلمية من ناحية وكذلك نشر الثقافة العلمية المتخصصة باللغة العربية من ناحية أخرى.
الإشكالية هنا أننا نشاهد تأخرا ملحوظا في رقمنة الحاضنات العلمية أو المجلات العلمية المتخصصة، لا يزال السباق بالمملكة في بدايته من ناحية نوعية وجودة المواد العلمية المتواجدة على الإنترنت وكيفية طرح أفكار خلاقة تساعد تلك الحاضنات على بث ثقافة النشر العلمي ليس فقط بين الأكاديميين والباحثين بل وفي المجتمع، والذي من شأنه إشاعة ثقافة القراءة العلمية المتخصصة، وإذا ما تم التركيز على رقمنة هذه المجلات فبالإمكان مشاركتها في شتى وسائل التواصل الإلكتروني ومن ضمنها مواقع التواصل الاجتماعي.
الضلع الأخير من مثلث النشر العلمي هو المنتج العلمي، ويشير (كتاب عشرة دروس من أجل المستقبل) في أول درس يطرحه حيث يصف المعرفة البحتة بأنه لا فائدة منها في المستقبل ما لم يتم تحويلها إلى منتج فاعل أو خدمة حقيقة أو استفادة تترجم على أرض الواقع. فمهما كانت كمية ونوعية النشر العلمي فإنها بحاجة إلى ترجمة واقعية عملية أو تحويلها إلى منتج يخدم الإنسانية ويراعي منطلقات ومبادئ الإسلام السمحة التي أتت لخير البشرية كلهم.
إن الإدارة الاستراتيجية للنشر العلمي هي مسؤولية يجب أن يعنى بها بشكل منظم ويخطط لكل عناصرها وعواملها وأبعادها الداخلية كالتشجيع والمكافآت والبيئة العلمية والخارجية مثل حقوق الملكية الفكرية والتعاون وبرامج التوأمة والباحثين الزائرين، سعيا لتذليل كل عقبات الابتكار والإبداع والمعرفة، مبتعدين عن أي بيروقراطيه قد تعيق الباحث، والعمل على تطوير الحاضنات بتوسيعها بشكل مستمر بالاستفادة من عصر الإنترنت والعولمة والمبادرات المختلفة مثل مبادرة الوصول الحر open accesss والتي تهدف إلى نشر الوصول إلى المحتوى العلمي المتخصص في العالم العربي، وعدم حصر مثل تلك الحاضنات على العاملين بالجامعات كما هو الحال في المكتبة الرقمية بل فتحها للجميع بهدف إتاحة المعلومة المتخصصة للجميع وتثقيف المجتمع فيما يتعلق بقضايا حقوق الملكية الفكرية.