كنت يومها في خطى السنين الأولى لما بعد العشرين. ولمن لا يعرف وطأة تحالف الزمان والمكان فإن ليالي شتاء شيكاغو الطويلة تستحيل إلى فاصل من زمهرير..

كنت يومها في خطى السنين الأولى لما بعد العشرين. ولمن لا يعرف وطأة تحالف الزمان والمكان فإن ليالي شتاء شيكاغو الطويلة تستحيل إلى فاصل من زمهرير.. غريب حتى من نفسي.. مكتئب إلى الحد الذي أرفع فيه بصري إلى القمر المكتمل تحت (لثام) من السحاب وأملأ عينيّ منه، لأن أهلي ربما شاهدوه مثلي ليلة البارحة في النصف الآخر من هذه الأرض. كان القمر هو الشيء الوحيد الذي أشعر أول كل مساء أنه النظرة المشتركة ما بيني وبين كل شيء، كل من ودعتهم هناك... كي تهاجر عيني ووحدها تبكيهم.. وكم هي القسوة على العيون حين تبكي منفردة. كانت عجلات القطار تبطئ السير كلما اقتربت من المحطة. بقي لي من الصور البيضاء في المسافة من نيويورك إلى شيكاغو ليس إلا تلك التي كنت أشاهدها من خلف – المياه – التي كانت تملأ كل المساحة ما بين الجفنين. بكيت في سبع ساعات ضعف ما شربته من ماء في كل الأيام الأخيرة السبعة. كنت أظن أنني أشرب الدموع المنهمرة من فوق خدود سمراء ذابلة ثم أعيدها مباشرة إلى العيون، وإلا فمن أين جاء كل ذلك الماء المالح من جسد ليس به إلا ما كان قواماً عظمياً يكسوه جلد؟ كانت – هي – أمامي على الكرسي المقابل. حجاب بني وعباءة رمادية ساترة. أظن أنني شاهدتها بكل التفاصيل الواضحة لحظة ركوبنا القطار في مانهاتن. بعدها شاهدتها مجرد لمام من خلف مياه بيضاء سميكة ومالحة.. غريبان يذرعان هذه المساحات الشاسعة من الثلوج في براري مقفرة.. غرباء من كل شيء.. فقراء إلى كل شيء إلا من الدموع التي نغرف منها بغنى فاحش وكأننا مسافران في زورق فوق بحيرة. كأننا نغرف الدموع من البحيرة بأكواب ثم نمسحها بإصبعين. وحين اقترب القطار من المحطة الأخيرة، بدأت عجلاته تقرع الأرض ببطء مثل حوافر خيل فوق سهول مقحلة. كنت أسمع صوت فيروز يخرج من حقيبتها إلى سماعة لاقطة على الأذنين. كنت أسترق الكلمات من فم هذه الفيروز وهو مختلط بحشرجة العويل الذي يغلي كالمرجل في صدر هذه المسافرة. كنا نشاهد بعضنا خلف مياه بيضاء مالحة متدفقة. أسامينا / شو تعبوا أهالينا / ابتكروا فيها ...... كلانا يعرف أننا نبكي لذات الأسباب ونحن اللذان لم نتحدث لبعضنا البعض ولو بجملة واحدة: الرحيل. الغربة. المجهول. الفقر. البرد والاكتئاب. نسينا حتى أسماءنا التي اتحدت لتكون مجرد ثلاثة حروف من (حزن). كنت أطالع إلى – المنكبين – وهي تغوص بعيداً بين آلاف المسافرين إلى المجهول في هذه المحطة. كنت أشاهدها تذوب من خلف عيون ليس بها سوى الماء المالح. كنت أسمع فيروز تذهب للمجهول حتى بدا الصوت يتلاشى: أسامينا / شو خص الكلام/ الأسامي كلام/ عينينا هني أسامينا......