إننا أمام مسؤولية كبيرة وجسيمة لإعادة الإسلام إلى صورته الطبيعية وتعليم الناس أن هذا هو دين اللا واسطة، دين التواصل الروحي مع الله
في كتاب الوجه الآخر للمسيح شرح العلامة المحقّق فراس السواح التفاصيل الدقيقة لتحريف اليهود للإنجيل من خلال مقارنة الأناجيل الأربعة مع بعضها، بإيراد القصص المعروفة عن المسيح مع إظهار الفروق الدقيقة بين الروايات الأربع لكل قصة، وعلام يركز كل واحد وعم ينحرف، وأوضح في هذا الكتاب أن إنجيل يوحنا كان الأقل تحريفاً وأن الأيدي اليهودية كانت أقل عبثاً به مما كانت في صفحات لوقا ومرقص ومتى، خصوصاً فيما يتعلق بعداوة المسيح لليهود وثورته عليهم والمكائد التي نصبوها ضده، ثم إن الدكتور السواح ركز على الاتجاه الغنوصي للمسيحية وكيف حاربته الكنيسة القويمة، وكيف أنه يرى أن التصوف المسيحي أقرب لروح المسيح ونصوصه، خصوصاً ما ورد في إنجيل توما، وهو يمثل اتجاها في المسيحية يقرب كثيراً من التصوف الإسلامي.
أود أن أخرج عن الموضوع قليلاَ لأقول إن إنجيل توما الذي نشره الدكتور السواح في آخر كتابه تم العثور عليه قديماً في مكتبة نجع حمادي!! أتذكرون هذا الاسم؟ نعم، إنه مكان المجزرة التي نفذها الإرهابيون في صعيد مصر ضد الأقباط بلا ذنب ولا جريرة في السنة الماضية.
في تصوري أننا مارسنا نفس الخطأ مع الإسلام وإن كنا لم نحرف كلمات القرآن، إلا أن المسلمين انحرفوا عن منهجه وتفرقت بهم السبل، كل حزب بما لديهم فرحون. جاء في الحديث الشريف الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات، فمن استبرأ من الشبهات فقد استبرأ لدينه. عندما يخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام أن الحلال بين والحرام بين، فهذا معناه أن البشر الذين ينتمون لهذه الثقافة كلهم يعرفون الحلال والحرام، من خلال نص القرآن الكريم، ومن خلال المعيار الأخلاقي العام، فالكل يعرف أن السرقة والقتل و أكل الربا والزنا حرام، والكل يعرف الحلال من طيبات الرزق، إذن التشريع في مجمله وقانون الإسلام واضح لدى الجميع، وقد ترك النبي عليه الصلاة والسلام تلك المساحة للأمور المشتبهة، برغم أنه كان يستطيع أن يقوم بالدور الذي يقوم به كثير من الفقهاء اليوم في محاولة تقليص مساحة المشتبه فيه بكثرة الكلام في الحلال والحرام حتى لا يبقى شيء، أو القليل النادر، لكنه لم يفعل ذلك، ربما لأن ذلك المشتبه يصعب تحديده على الأفراد في ساعة التطبيق، ومن الرحمة بالأمة أن يبقى تحديده لضميرها، كل حالة فردية بحسبها وظروفها وما يحيط بقصصها.
هذه الحكمة النبوية لم يلتزم بها الفقهاء فتحدثوا كثيراً في الحلال والحرام، خصوصاً عندما أصبح الدين وسيلة لاكتساب السلطة والمال والجاه، وأصبح طريقة لمشاركة السياسي في حكمه، فكثير من الفقهاء ومنذ قرون الإسلام الأولى تقربوا للسلاطين ليقتبسوا منهم ناراً، ومن فشل منهم في اكتساب هذه المنزلة عند السلاطين، توجه للوسيلة الثانية، السلطة المستمدة من الجماهير، ولا سيف للفقيه على الجميع سوى تفعيل ملكته في الكلام في الحلال والحرام وتخويف الناس في الوقوع في محارم الله، وافتعال معارك مع الفقهاء الآخرين بإثارة مسائل فقهية لم يتحدثوا عنها، أو مخالفتهم فيما تحدثوا فيه بالفعل واتهام نواياهم ومعتقدهم. وعموم الناس في الغالب لا يستطيعون أن يميزوا هذه الوسائل، فيندمجون في اللعبة ويركضون في المضمار الذي حشروا فيه مثل الخيل، حتى أصبح الحديث عن الحلال والحرام هو ديدن الإنسان العادي، فتجد أنه يقرأ القرآن والحديث ليبحث عن شيء يحرم عليه، لذا تراهم يسألون عن حكم أكل حمار الوحش، برغم أن الواحد منهم لم ير حمار وحش في حياته، لذا ترى القنوات الفضائية تزدحم بالمفتين الذين يتسابقون مع أول رنة هاتف تدعوهم لحضور برنامج في تلفزيون، فهي بوابة النجومية وبالتالي السلطة والمال. في تصوري أننا أمام مسؤولية كبيرة وجسيمة لإعادة الإسلام إلى صورته الطبيعية وتعليم الناس أن هذا هو دين اللا واسطة، دين التواصل الروحي مع الله، دين الرحمن الرحيم الذي يغفر ارتكاب المحرمات الكبيرة الكثيرة مع نزول أول دمعة لتائب. هذا هو الإسلام الذي يجب أن نقاتل بكل شراسة لاستعادته.