أتمنى أن آخذ أصدقائي كلهم إلى موقعنا ومكاننا الأساسي، إلى حيث السكون والجمود الحقيقي لا المعنوي، إلى مكان التحف والأحافير والآثار القديمة،إلى مكان ندفن فيه كل الأفكار الميتة
أرحب بالأستاذ ساكن الفيلسوف على صفحات الوطن، وأود أن أبدأ هذا اللقاء بالسؤال التقليدي المعتاد: كيف تعرف بنفسك؟ امتعض الأستاذ ساكن قليلاً بسبب كلمة تقليدي، لكنه تابع حديثه قائلاً: أنا من أسهب المفكرون في وصفي، وجف حبر الإداريين في نعتي، أنا من نظر الأعمى إلى إبداعاتي وإنجازاتي، وأسمعت كلماتي الناس ، كل الناس، في البيت وفي المدرسة، في الجامعة وفي مركز البحوث، في المصنع وفي المؤسسة، أنا ملح المعاملات، أنا قطار الإنجازات، أنا فاكهة مجالس الأقسام والكليات والشركات. سكت الأستاذ ساكن الفيلسوف قليلاً وقد حلق النظر في شيء ما في السماء، وشبك بين أصابعه، وعلته ابتسامة خفيفة طرباً –كما يبدو بما قاله- وكأنه يسترجع المزيد مما يريد أن يعرف نفسه به، سارعته بسؤال وأنا أنظر إلى ساعته الجديدة، وقلمه الأنيق، وثوبه القشيب، وأشم عطره الفواح: ألا تظن أستاذ ساكن أن في هذا غرورا وتعاليا؟ بادرني قائلاً: فرق كبير بين الثقة بالنفس وبين الغرور، المغرور يبحث عن شيء ما في داخله لم يجده، فيه شعور بالنقص دائم لا ينقطع، لذلك يتعالى ويغترالضعيفُ والمسكين، أما الشعور بالقدرة والامتلاء، أما الاتزان في القول والعمل، أما الوعي بالواقع فهذه ثقة نفس وجسارة وجدان! إنها فلسفة عمل وانتشار!
قلت: نفهم من حملك على الغرور أن فيك تواضعا وألفة وتطامنا؟ قال مبتسماً: بكل تأكيد! من لا يعرفني يسيء الظن بي دائماً، والحق أن أجدادي كانوا أكثر قسوة مني، قد تستطيع أن تصفهم بالغرور أو التعالي على الناس، ولكنها قد تكون جدية في العمل مبالغا فيها نوعاً ما، وبحكم أني استوطنت هنا فإني أشعر بأريحية أكثر وبهدوء واطمئنان يسمحان لي برصيد من حسن التعامل ، تحديداً مع خاصتي ومعاونيّ وأنصاري. قلت: هلا حدثتنا قليلاً عن أنصارك ومعاونيك؟ وهل لكم اجتماعات دورية تقومون بها؟ قال: بحمد الله لدي أنصار ومحبون في كل منزل وفي كل قطاع، وهم كثر! لديك على سبيل المثال لا الحصر؛ الأستاذ فارغ المهذار، والأستاذ سطحي الساحلي، والأستاذ رديء المطفف، والأستاذ نهم الأشعب، ونحن لا نجتمع كاجتماعاتكم هذه التي فيها الكثير من الكلام، والقليل من المنطق، وأصفار في الفعل والإنجاز والتطوير. بل نحن على صف واحد ووئام روحي يضمنا جميعاً، ليس من المهم أن يعرف الأستاذ فارغ المهذار في قطاع ما نظراءه في القطاعات الأخرى، لكنهم في اتصال روحي عميق بفضل حبهم وولائهم لي!
قلت مستغرباً: هذه أسماء غريبة لأنصارك ومحبيك أستاذ ساكن الفيلسوف، فما السر فيها؟ ضحك الأستاذ ساكن وقال: لا سر ولا يحزنون، فالأسماء لا تعلل كما تعرف، وإنما هو طبيعة العمل والإنجاز عندنا التي تحدد المسمى. قلت: هلا شرحت هذه النقطة أكثر. قال: هناك صفات محددة من قام بها أطلق عليه بكل فخر أحد هذه الأسماء أو غيرها وأرحب به عضواً جديداً في مؤسسة السكون الجامدة، سأصف لك الآن مجموعة من الصفات وأسألك تنطبق على من؟ قلت: كلي آذان صاغية. قال: إن لم يقف مكانه، فسيمشي إلى الخلف دائماً، مجلجل الصوت، يظن أنه كلما علا الصوت زادت قدرته على إقناع الآخرين، كثير الكلام بلا منطق، قليل العمل بلا فاعلية، يكثر من التهديد والوعيد، يضطرب عند أي جديد وحديث، ويحب الثبات والسكون، لا يقنع بشيء، ويهذر لسانه بكل شيء، يبدأ حديثه بالفقه وينتهي بالحجامة، واحد زائداً واحد لا تساوي اثنين أبداً، ولا يمكن أن يصل الخط المستقيم بين نقطتين إطلاقاً، يتقن فن التهويل، ويجيد ذكر مصطلحات كبيرة كالمصلحة الوطنية في كل صغير من الأمور، إن لم يشاكس أحداً نظر إلى المرآة وشاكس نفسه!! فماذا ستسمي صديقي هذا المقرب إلى نفسي كثيراً؟ قلت: لا شك أنه الأستاذ فارغ المهذار. قال: أحسنت! لقد بدأت تفهمني!
قلت: حدثني إذاً عن الآخرين. قال: يقول كلمة الآن ويغيرها غداً، لا تدري أضاحك هو أم باكٍ، أساخط هو أم راض؟ شُغل بنفسه فلم يعد يعبأ بأي شيء حوله، إن كان في سفينة لم ينظر إلا إلى موقع قدميه، لا يعرف ولا يدري كيف يرفع رأسه وينظر إلى الأمام، وإن طلبت منه ذلك أو طلبت منه أن يتحرك خطوة واحدة، انفجر باكياً، وحاربك بكل ما يملك، لا يحب إلا الوقوف على الساحل ولا يريد الخوض في الأعماق، يخاف من العوم ومن البحر ومن كل شيء حتى نفسه، ولا يحب أن يعمل – إن عمل شيئاً – إلا وحده، لا يفهم إلا آخر كلمة يسمعها، لأنها هي التي يتذكرها، ويتحدث عن الكلمة ولا يدري ما هي الفكرة، ويسبح مع هذه الكلمة إلى عوالم وخيالات وأوهام لا يستمتع بها إلا هو!! قلت: هذا هو الأستاذ سطحي الساحلي بلا شك!
قال: إذا بدأ الخطوة الأولى في مشروع الألف ميل أقنعك أنه أنهى المشروع... قاطعته سريعاً قلت: نعرف هذا جيداً إنه الأستاذ رديء المطفف، قال الأستاذ ساكن: إني معجب بسرعة بديهتك، ألا تريد أن تعرف عنه أكثر؟ قلت: نحن خبراء به، ما أحلى كلامه ولكن ما أفشل أعماله، يظن أنه يعلم وهو لا يعلم، ويظن أنه مقتدر وهو عديم الكفاءة، إداري فاشل، وغرور بلا حدود، له شبكة علاقات رهيبة، ذكي لدرجة الخبث، يتحد لا شعورياً مع جيش من الفارغين السطحيين النهمين الأكولين الذين يزينون الفشل ويزرعون الشوك في كل إدارة وفي كل قطاع يبتلى بهم.
قال الأستاذ ساكن: أما الأستاذ نهم الأشعب، فهو أكول لا يشبع ولا يقنع، هو في حفلة راقصة دائمة مع الريالات والدولارات، لا يرى الأشياء إلا بمنظار المال، الغاية عنده تبرر الوسيلة، ولا مانع عنده أن يعمل مع الشيطان من أجل أن يأكل ويؤكل غيره، لا صوت يعلو فوق صوت الدولار، ومن أجله يجوز كل شيء ويضحي بأي شيء، ومن أعز أصدقائه بل عرابه وقائده وهاديه: الرديء المطفف!
قلت: أخشى أن أطيل عليك أستاذ ساكن الفيلسوف ولكن سؤال أخير: إلى متى ستبقى بيننا أنت وفلسفتك هذه التي تغلغلت وتجذرت؟
قال الأستاذ ساكن بعبرة: صدقني أني أود الرحيل، أنا لا أجبر أحداً أن يتمسك بي، ولا أفرض نفسي على الآخرين، أريد أن أمضي إلى طريقي، لكن أجد من يطلب مني البقاء لا الذهاب، والاستقرار لا المضي، كم أتمنى أن آخذ أصدقائي كلهم إلى موقعنا ومكاننا الأساسي، إلى حيث السكون والجمود الحقيقي لا المعنوي، إلى مكان التحف والأحافير والآثار القديمة، إلى مكان ندفن فيه كل الأفكار الميتة، ولكن يأبى زملائي إلا أن نستمر تحفاً مشوهة تمشي على الأرض، وآثاراً مسروقة تعيش بين الناس، لا تحمل من الماضي إلا سكون الجهل و جمود الفشل والعدم، وأنا أعلم أنكم تريدون الحياة، فإذا كنتم تريدونها حقاً فيجب أن تحيوها!! وقبل ذلك ابحثوا عن الإنسان الحي المتحرك أولاً!