اليوم نحن أقرب بكثير للحدث كما هو مما يجعلنا نتفاعل بشكل أصدق مع الناشطين المباشرين له والذين هم اليوم أقرب للثقة بسبب اقترابهم أكثر من غيرهم لقضايا الإنسان الفرد المظلوم
بحسب الكثير من المحللين من كافة الاتجاهات وحتى من الداخل الإسرائيلي فإن إسرائيل ارتكبت مع سفينة الحرية إحدى أكبر الحماقات في تاريخها وأن ما جرى قد أضر كبير الضرر بصورة إسرائيل في العالم وأضعف التعاطف معها في قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي... ولكن لماذا؟ فما الذي ارتكبته من جديد ليكون سببا في هذا التحول في الموقف فما جرى في غزة هو أكبر بكثير مما جرى مع سفينة الحرية بمراحل؟ ما هو سر هذا الانتصار الكبير لقضية الحصار على غزة وخسارة إسرائيل لجزء مهم من رأسمالها الرمزي المتمثل في التعاطف العالمي معها؟
برأيي أن ما ارتكبته إسرائيل مع سفينة الحرية هو ما ارتكبه العرب والمسلمون على مدار أكثر من ستين سنة من عمر القضية الفلسطينية وهو عدم فهم منطق العصر والتحولات التي تعيشها البشرية وطريقة التعامل والتفاهم مع الواقع. العصر الحالي هو عصر منظمات وحركات حقوق الإنسان المستقلة بامتياز. هذا العصر هو عصر نشاطات الأفراد والجماعات المستقلة عن المنظمات الحكومية. عصر النشاطات التي تدعم مواقف إنسانية يتفق عليها عقلاء البشر. هذه النشاطات التي تنتشر يوما بعد يوم في العالم أصبحت ذات قوة وتأثير هائل في الواقع لا يمكن لمن يريد كسب قضيته إلا التعامل معه والوصول من خلاله إلى تحقيق قضاياه العادلة. هذا التأثير لنشاطات الجماعات الحقوقية ناتج برأيي عن ثلاثة أسباب أساسية سأحاول تفصيلها في هذه المقالة.
السبب الأول هو أن هذه الجماعات تحظى يوما بعد يوم بثقة ومصداقية متصاعدة وقناعة من الكثير من المتابعين في العالم بصدق مواقفها وتوجهاتها. هذه المصداقية نتيجة لعدة أمور من أهمها استقلال هذه الجمعيات عن التوجهات الحكومية والأيديولوجية الصارخة. عالميا اليوم لم تعد التصريحات المنسوبة للحكومات تؤثر أو تحظى بقيمة كبيرة باعتبار أن أغلب شعوب العالم اكتشفت من خلال تجاربها مدى زيف وخداع الخطابات الرسمية. من هنا جاء البحث عن أصوات أكثر مصداقية وإقناعا، ومع الوقت كسبت جمعيات حقوق الإنسان الرهان من خلال اشتغالها على قضايا إنسانية عادلة لا يمكن للإنسان الذي يملك ضميرا وعقلا إلا أن ينتصر لها، وهذا هو تحديدا العامل الثاني في ارتفاع مصداقية النشاطات الحقوقية، فهي تسعى لخدمة الإنسان المظلوم دون استغلالها لمصالح شخصية. فمن هو الإنسان الذي لا يتعاطف مع أطفال غزة أو ضحايا دارفور أو هاييتي أو تشيلي أو أفغانستان أو حتى ضحايا تفجيرات المدنيين في تل أبيب؟ هذه قضايا رابحة جدا وكان اهتمام جماعات حقوق الإنسان بها والوقوف من أجلها أحد أسباب تصاعد قبولها العالمي ومستويات تأثيرها الهائلة.
السبب الثاني الذي يجعل جماعات حقوق الإنسان تكسب الرهان مرة بعد مرة هو تقنية الإعلام اليوم التي تعدد وسائلها مما جعلها قادرة على إيصال رسالة في غاية التأثير لكل إنسان وفي كل مكان. فكل العالم شاهد ذات الصور لسفينة الحرية بعد دقائق معدودة من وقوع الحدث ومن خلال مصادر معلومات عامة ومتاحة للجميع تنخفض فيها كثيرا احتمالات التزوير والإغراض. لم يعد المتابع اليوم يشعر بوجود حواجز بينه وبين الأحداث مما يجعل من نسبة تفاعله أكثر مباشرة وقوّة. فالضمير الإنساني أصبح اليوم أكثر ثقة بأنه يصل إلى المعلومة الحقيقية وبالتالي فإن عصور التزييف الناتجة عن احتكار البعض للمعلومات قد انتهت ونحن في طريق تجاوز الإنسان لإحباطه الناتج عن شعوره العميق بأنه مخدوع ومحجوب عن الوصول للحقائق وشعوره بأنه يعيش في عالم مزيف تتحكم فيه مجموعة صغيرة من المنتفعين. اليوم نحن أقرب بكثير للحدث كما هو مما يجعلنا نتفاعل بشكل أصدق مع الناشطين المباشرين له والذين هم اليوم أقرب للثقة بسبب اقترابهم أكثر من غيرهم لقضايا الإنسان الفرد المظلوم الذي هو لب القضية والمعنى.
السبب الثالث لارتفاع معدلات تأثير هذه النشاطات هو تعالي هذه الجماعات عن أسباب الفرقة الإنسانية واهتمامها بالمشترك الإنساني. فهذه الجماعات ليس لها توجه ديني أو سياسي أو عرقي أو طبقي بقدر ما هي ملتقى لكل البشر بغض النظر عن أديانهم وأعراقهم وجنسياتهم،ولذا نجد في سفينة الحرية خليطا مذهلا وجميلا من شتى أصقاع الأرض. جنسيات مختلفة، أعراق مختلفة، كل الأجناس، غير متدينين ومتدينين، توجهات فكرية مختلفة. كل هؤلاء جمعهم هدف إنساني واحد مما جعل رسالتهم ذات قبول كبير عند مختلف الناس في العالم. الرسالة اعتمدت على المشترك الذي يجمع الناس، الإنسانية وشعار الحرية المؤثر وتعالت عن أسباب الفرقة مما جعل الرسالة أعصى على الرفض والتجاهل.
هذه الأسباب تفك شفرة العصر الحديث وتقدم صورة ونموذجا لكيفية كسب الرهان وتحقيق الأهداف. إسرائيل خسرت كثيرا بتحديها لمنطق العصر وإذا استمرت في هذا الخط فهو الطريق لخسائر أكبر في المستقبل. الفلسطينيون والعرب والمسلمون خسروا الكثير ولا يزالون بسبب عدم فكهم لشفرة الإنسان المعاصر باعتبار أنهم لا يزالون يعيشون في أجواء صراعات القرون الوسطى ويحاربون بأسلحة واهية لا تجلب لهم إلا المزيد من النفور العالمي وتشوه قضيتهم وتضعف حجتهم بشكل كبير. ولإيضاح الفكرة أكثر دعونا نفكر في موقفين معاصرين حيال القضية الفلسطينية الأول هو سفينة السلام والآخر هو بيان سبعين شخصية إسلامية يدعون لشن الجهاد على إسرائيل. الرسالة الأولى تكسب الرهان وتؤثر على العالم وستؤدي إذا استمرت لفك الحصار عن غزة بينما لا تؤدي الرسالة الأخرى القديمة الحديثة إلا لمزيد من العزلة للفلسطينيين وتشويه صورتهم في العالم وتقديمهم - طبقا لرؤية الآخرين - بصورة منتقمين لا يعرفون إلا حل الدم والقتل لا يعنيهم إنسان غزة بقدر شعاراتهم التي هلك بسببها الكثير ولا يزال.