لا بد من أن ندرس دراسة معمقة حالة فريد شكري الذي قدم هذه المبادرات الرائعة والسابقة لعصرنا في وقت لا توجد فيه الإمكانات التي تتوفر اليوم لمن يريد أن يبتكر ويبدع ويصنع وينتج
قبل أكثر من ثلاثين عاما خرج علينا رجل من المستقبل اسمه فريد شكري كان يسكن أبها ويلبس بدلة أجنبية ربما أنها من أدوات العمل. شعره طويل، مكشوف الرأس. ليس منا فهو من العالم الأول حين كنا لا نزال نلزم بأذناب البقر. بيته مصمم على الطراز الأوروبي بسقوف مائلة. صحيح أن فريد عسيري حتى أخمص قدميه وحتى أطول شعرة في هامة رأسه، ولكنه وطني حتى النخاع وعالمي فوق الأقمار والنجوم التي تلوث عقولنا اليوم في جميع وسائل الإعلام. هذا الرجل بادر بصناعة أكثر من ثلاثة أجيال من سياراته التي أسماها عسير (1) (2) (3) (4).. وكان يمكن أن يسميها باسمه فريد مثل فورد صانع السيارات الأمريكية أو تويودا (تويوتا) اليابانية التي نتزين بها اليوم. وعندما عرض مصنوعاته ووضعها لنا على الطرقات لم نلتفت إليها كثيرا. ومررنا كعابري سبيل لا تعنينا في أي شيء سوى أنها سالفة مجلس، ولم يستوقفنا الحدث ولو للحظة واحدة عند هذا الرجل العملاق الذي لا يزال يعيش حتى هذه اللحظة ممتهنا مهنة لا صلة لها بعقله ووعيه وفكره. هو ابن من صنع أول رجل صناعية لرجل عسيري مبتور الساق. وهذه التقنية كما سمعت يحتفظ بها في أحد المتاحف في دولة عربية. لم يتوقف فريد عند صناعة السيارات، فبادر إلى صناعة طائرة أو توليف طائرة أو ما أردتم. المهم أن الرجل طار بطائرته وهبط بها. هذا الرجل الذي ولد في زمان غير زمانه وفي مجتمع ينظر إلى الصناعة على أنها عيب تصل بصاحبها إلى حد الطعن في أصله ونسبه حتى وإن كان أبوه أفحل الفحول وأشجع الشجعان!
وتمضي السنين والأيام وأنت يا فريد فريد في عملك وفي إبداعك وفكرك وتقدمك على مجتمعك. لم تسعفك اللحظات لتجد من يتلقف مبادرتك. وها هي الفرصة قد جاءت متأخرة لنذكرك بأقل مما تستحق وإن قصرنا في حقك فلأننا لا نستحقك ولا نقدر قيمة عقلك ولا فكرك ولا مواهبك. ولأن الإنسان عدو ما يجهل، فسامحنا على جهلنا بك. تركناك وحدك والتهينا عنك لنتذكرك اليوم في عصر التحولات الجديدة. إنه زمن الصناعة وزمن الإبداع والابتكار في وطن يقوده ملك الإصلاح الصالح.
وحتى نفي فريد شكري حقه فأنا كلي رجاء أن توضع جائزة قيمة باسمه على مستوى الوطن عرفانا له بجهده وفكره ومبادرته وريادته، وتكفيرا عن جهلنا بقيمته وعقله. وأنا متأكد بأن في وطننا من الشرفاء والغيورين من يستطيع أن يعيد اكتشاف فريد شكري مرة أخرى، لا ليصنع ولكن ليكون رمزا يحتذى من شبابنا.
صحيح أننا لم نتذكرك إلا متأخرا ولكنه خير من أن لا نذكرك أصلا. اليوم قيادتنا تشجع وتحث وتؤيد وتكرم المبادرات، لأنها تعني الشيء الكثير للوطن محليا وعالميا. وكما نريد أن نسجل لك الشكر والعرفان والسبق فإننا اليوم نفتخر بأن يصنع أبناؤنا في جامعة الملك سعود غزال (1) وأتمنى أن نرى صناعاتنا تتوالى وتتالى بعدد حيوانات وطيور الجزيرة العربية التي انقرضت. أريد أن أرى الصقور والنسور من (1) إلى 1000 وأريد أن أرى القطار، أقصد الجمل (1) هذا المخلوق الجميل الذي يجب أن يتحول إلى قطار سريع يجوب بنا القفار والفيافي ويرفع عنا المعاناة من شركات الطيران ومن الانتظار في المطارات. نريد أن يعرفنا الجمل (القطار) على وطننا وأن يربطنا بترابه شبرا شبرا ونحن نمر بكل واحة وقرية. هذه أهم تربية في الوطنية والمواطنة لمن يفهم كيف يبنى المواطن الصالح. وأريد أن أرى إحدى مصنوعاتنا باسم آخر، حمار طردناه من الخدمة الوطنية ليتحول إلى متسول ومتسكع على طرقاتنا تدهسه السيارات بلا حياء دون أن نسمع أي احتجاج من جمعية الحفاظ على الحيوان. هذا الحمار الزينة الذي كان يتزين به الناس مثل ما يتزينون بالسيارات الأوروبية والأمريكية والآسيوية. نريد أن نرى الحصان 2020 وهو يتحول إلى وسيلة نقل داخل مدننا تحمينا من الزحام ومن التلوث البيئي ومن السائقين الآسيويين الذين يقفون على مداخل المحلات التجارية وغيرها ينتظرون العمة أو المدام أو ماما. ومن سيارات الأجرة التي لا تشعرك بأنك في وطنك بل في أحد شوارع المدن الآسيوية.
فريد شكري ليس قصة عابرة ويجب أن لا يكون كذلك بل لا بد من أن ندرس دراسة معمقة حالة فريد شكري الذي قدم هذه المبادرات الرائعة والسابقة لعصرنا في وقت لا توجد فيه الإمكانات التي تتوفر اليوم لمن يريد أن يبتكر ويبدع ويصنع وينتج. نريد من الإعلام أن يتحمل مسؤولياته التاريخية في توثيق دقيق ومعمق في حالة هذا المبتكر الذي عاش بيننا. إننا نتوقع من دراسة حالة فريد شكري أن تخرج علينا العديد من القصص والروايات والشخصيات والتي ستكون بمثابة رصيد لوطننا ولمجتمعنا ودليل على أن في هذه الدولة عددا كبيرا من المتفردين من النخبة والرموز ممن لديهم القدرة على الإبداع والابتكار وأن هناك من بادر في مجالات عديدة.
فريد شكري أنت فعلا فريد بكل الصفات، فلك الشكر على صمتك وحكمتك وصبرك وعلى ما قدمته لنا من وقتك وجهدك وعقلك. أنت رمز للكفاح والمثابرة وتسخير العقل في النافع والمفيد. أعذر جهلنا بك وغيابنا عنك على أمل أن نراك على إحدى شاشات التلفزة ليعرفك العالم أجمع، فأنت علم ورائد من رواد العلم والصناعة والابتكار لمن يعلم ولمن يريد أن لا يعلم.