إن إنشاء 'مركز حوار عالمي' يعمل بكل استقلالية، بمعزل عن أية تدخلات سياسية، تأكيدٌ لسياسة المملكة في مواصلة نشر الثقافة الحوارية، من أجل التواصل بين الحضارات والثقافات

لا شك أن ظاهرة الحوار في أية أمة من الأمم، وفي أي زمن من الأزمنة، ظاهرة حضارية تدلُّ على مدى التقدم الثقافي لهذه الأمة.

ولقد اكتسبت هذه الصفة الأمة اليونانية، حين كانت الفلسفة اليونانية، أول من فتح أبواب الحوار في المنتديات والندوات، وحتى في الشوارع، كما اعتاد سقراط أن يفعل دائماً، ودفع حياته ثمناً لذلك.

الحوار: العنوان الأبرز للتحضر

إن الإنتاج الحضاري لأية أمة من الأمم، لا يقتصر على ما تنتجه من أدب وفن وعلوم وفلسفة فقط، ولا على ما تنتجه من صناعة وزراعة فقط، وإنما يتعدى الإنتاج الحضاري إلى ما يتحلّى به مجتمع هذه الأمة من قيم إنسانية، وعلى رأسها قيم التسامح، والاعتراف بالآخر، واحترام وحماية رأيه.

ولا دواء فعَّالاً للمجتمع المغلَق والمتشدد، غير فتحه وتليينه بالحوار بين أبنائه. وهو الحوار الذي كان غائباً ومنفياً، حيث كانت الحقائق المطلقة قد أغلقت الأبواب والنوافذ على نفسها، ولا تعلم ماذا يدور في العالم، بل ماذا يدور حتى عند جيرانها.

فالحوار إذن، هو الطريق الأوسع والأصلح، لثقافة التسامح، وإبعاد المجتمع عن صراع المُطْلَقات، كما يُسميه المفكر المصري مراد وهبة. وهذا الصراع بين المُطْلَقات (جمع الحقيقة المطلقة) كان سبباً في معظم حروب البشرية، منذ القِدم حتى يومنا هذا. وما زال هذا الصراع سبب الحروب الأهلية والكوارث التي تحلُّ في العالم العربي، من وقت لآخر. فلا سلام للبشرية في ظل صراع المُطْلَقات الذي غالباً ما يتلاشى، ويزول، في دورات الحوار بين الشعوب، وداخل المجتمع الواحد.

الحوار الوطني كمختبر علمي

لقد أدرك صانع القرار السعودي هذه الحقائق، وقرر بشجاعة بدء مؤتمر الحوار الوطني الأول في الرياض عام 2003.

وربما كانت هناك، بعد سبع سنوات من مسيرة الحوار الوطني، الكثير من الملاحظات السلبية على كافة مؤتمرات الحوار الوطني. ولكن هذه الملاحظات سيتمّ تجاوزها، بإصلاح ما جاء فيها من خلل. ولو كانت مثل هذه الحوارات خالية من الملاحظات السلبية، لكانت أشبه بأفلام السينما، أو المسرحيات المكتوبة بعناية. بل، ربما لا أذهب بعيداً بالقول، إن أحد أهداف هذه المؤتمرات الرئيسية، كان الكشف عن هذه السلبيات، لدى صانع القرار السعودي، لكي تتم معالجتها وإصلاحها. وبذا، تكون مؤتمرات الحوار الوطني (2003-2008)، كالمختبر العلمي، الذي يأتينا بالنتائج العلمية الصحيحة، ويجعلنا نبني قراراتنا على قاعدة ثابتة وسليمة.

الطريق من المحلية إلى العالمية

كنتُ قد قرأتُ من قبل، حديثاً للأمير خالد الفيصل لبعض الشباب المشتركين في مقهى الشباب، وهو ورشة العمل المنبثقة عن مؤتمر فكر7، الذي عُقد في القاهرة، في منتصف نوفمبر 2008.

وكان الأمير خالد الفيصل قد خاطب الشباب بقوله: لن تصلوا إلى العالمية، ما لم تحققوا نجاحاً كبيراً على المستوى المحلي. وضرب لهم مثلاً في الأدب من نجيب محفوظ، الذي لم يصل إلى العالمية، إلا بعد أن أصبح روائياً مرموقاً في مصر.

كما ضرب لهم مثلاً أكبر في السياسة، وهو نجاح الملك عبدالله بن عبدالعزيز في الحوار الوطني المحلي، مما أهَّلَه للانتقال إلى الحوار العالمي (ثقافة السلام) وحوار الأديان، الذي شهدنا ندوته العالمية في نيويورك في نوفمبر 2008. وها هو الملك عبدالله يؤكد على وجود جهود تُبذل لتأسيس مركز عالمي للحوار، يضمُّ ممثلين عن جميع الأديان الأساسية، ويعمل بكل استقلالية، بمعزل عن أية تدخلات سياسية.

الحوار للتواصل بين الحضارات.

إن إنشاء مركز حوار عالمي يضمُّ ممثلين عن جميع الأديان الأساسية، ويعمل بكل استقلالية، بمعزل عن أية تدخلات سياسية، تأكيدٌ لسياسة المملكة في مواصلة نشر الثقافة الحوارية، من أجل التواصل بين الحضارات والثقافات لتعزيز التعايش والتفاهم، وإشاعة القيم الإنسانية، كمدخل لإحلال الوئام محل الصدام.

وهو ما يساعد على تخفيف حدة التوترات، ونزع فتيل النزاعات، وتحقيق الأمن، والسلام، المنشودين.

وهذا ما أكده مضمون الخطاب الذي ألقاه نيابة عن خادم الحرمين الشريفين، وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل، الذي ترأس وفد المملكة في منتدى تحالف الحضارات الثالث، الذي انطلق يوم 28 /5/ 2010 في العاصمة البرازيلية، تحت عنوان التواصل الثقافي لإرساء السلام.

ويكتسب هذا العنوان، أهمية خاصة، في ضوء ما يواجهه العالم من تحديات، وأزمات، تستوجب التعاون، والانطلاق بالاعتدال، والوسـطية، والتسامح، في مواجهة الإرهاب، والتطرف.

جهود سعودية لسلام عالمي

وفي هذا الخطاب، أوضح خادم الحرمين الشريفين، أن السعودية أنشأت مركزاً وطنياً للحوار عام 2003، تشارك فيه جميع مكونات المجتمع السعودي، مولية عناية خاصة بتطوير برامج التعليم، ومحو الأمية، وتوفير فرص التدريب والتأهيل للعمل.

واستشهد الخطاب بابتعاث قرابة 90 ألف طالبة وطالب للدراسة الجامعية في 14 دولة في القارات الخمس في انفتاح غير مسبوق. هذا بالإضافة لافتتاح جامعة العلوم والتقنية كاوست لتحتضن طلاباً وطالبات من كافة أرجاء العالم يتعاونون سوياً على توظيف العلوم والتقنية لما فيه خير الإنسانية. هذا بالإضافة إلى التأكيد على المبادرة السعودية للحوار بين الأديان، وأهدافها الداعية لإزالة سوء الفهم ونبذ مظاهر الخلاف والعداء والكراهية والتركيز على مجالات التعاون الرحبة، دون المساس بأصول المعتقد. وهذه الجهود، تصبُّ كلها في صالح تكوين ثقافة السلام والتسامح في العالم. وهذا كله يُضاف على دعوة تحالف القيم بين الإسلام والثورة الفرنسية في المساواة والتسـامح والعدالة، الذي نـادى بها الأمير خالد الفيصل، أمـام مجلـس الشـيوخ الفرنسي، في شهر مارس/آذار الماضي.