أصعب الكتابات تلك التي تنبني على البساطة والسهولة، يلتقطها القارئ العادي وتصل إليه نضرةً متوهجة؛ خالية من التعقيد، ومن الحيل الالتفافيّة تضمر الوعدَ لكنّ الأسنان تصطدم بالقشرة القاسية؛ لا تستجيب ولا تكشف عن الثمرة الحلوة. الكتابة ببساطتها تستدرج القارئ بسلاستها إلى مكامنها العميقة ومواطن شعريّتها؛ تنفجر في الرّوح وفي الحواس، وتفتح درباً سالكاً للتواصل بين تجربة الكاتب وبين حياة مَن يقع على نصّه. كأنما التجربةُ فعلُ تظهيرٍ وتطهير. التواطؤ فيما يخصّ وقد وجدَ تعبيراً يعقد به الصّلة ويتصالح مع المرآة؛ لأن ما ينعكس ويطلع منها حقيقيّ حيّ. له علاقةٌ ويملك تأثيراً.
في مشروع كلمة للترجمة الذي يصدر من أبو ظبي في الإمارات العربية المتحدة، اشتغل المترجم والشاعر سامر أبو هواش على ترجمة ما يزيد على عشر مجموعات من مختارات شعريّة أمريكية. وأكثر مجموعة استوقفتني وتريّثتُ عندها طويلاً: ليلٌ ينبتُ تحتَ الأظافر للشاعر تيد كوزر. هنا بساطة مذهلة تستقي مادّتها من الملاحظات اليوميّة القريبة من يد الشاعر وعينه؛ حياته الشخصية وتجاربه الممتدة في فيء العائلة والأقارب والجيران؛ الناس؛ الأشياء. الغارب؛ الماكث؛ العابر. كلّها تدخل في نسيج البساطة؛ تنكتب بإتقان ودُربة. الأساسي في المشهد الحاضر أو المُستذكَر هو ما يجري التبئير عليه واستخلاصه بنعومة خاطفة تكشف عن المعنى الذي يأتي في خاتمة النص مثل ضربة ناجزة.
البساطة عند تيد كوزر ليست قرينةَ الابتذال، ولا تتسوّل القارئ بمظهرها الشفيف. إنما تنطوي على العمق وعلى غزير المعنى، حيث التجربة جوهريّة كيانيّة، لها امتيازُها.. وفرادتها التي لا تُضاهى. كيف، مثلاً، يتعالى ما نحسبه رثّاً تافهاً ومجرد شيء إلى تجربة إنسانيّة؛ يكفّ فيها هذا الشيء عن شيئيّته ويتحوّل إلى دليلٍ يسطع، يعيننا على حياتنا. في قصيدة الصنبور الرّاشح ذخيرةٌ نقرأ فيها التآخي بين المصائر، على نحوٍ جماليّ لا يغريك إلا بالتحديق والتأمل والاستبطان:
طوال الليل
يجوسُ الصنبور الراشح، بضوء راداره،
سكونَ البيت:
من ما زال مستيقظاً؟
من يضطجع تؤرّقُهُ الهموم
كمقلاةٍ في المغسلة؟
ابتهجْ، ابتهجْ
ينادي الصنبور،
سيعينُكَ أحدهم على حياتك.