القاهرة: حازم عبده

جلل الحزن قلوب المصريين، قراء ومثقفين، من عشاق كتابات طوربيد الكتابة الساخرة جلال عامر الذي فارق الحياة صباح أمس بعد صراع لمدة ثلاثة أيام مع أزمة قلبية باغتت قلبه المشحون بالنضال لمزيد من الحرية لبلاده والديموقراطية لشعبه، والسخرية والنقد وحكمة الشعوب.
بعد عام بالتمام والكمال من خلع الرئيس المصري حسني مبارك ونظامه رحل المبدع جلال عامر الذي أدخل البهجة على قلوب الملايين، حتى من كانوا هدفاً لنقده، لم يستطيعوا إلا أن يضحكوا ويستمتعوا وهم يقرؤون جمل جلال عامراللاذعة الناقدة الساحقة الماحقة. كان مفرطاً في استخدام قوة النقد الساخر بجمل قصيرة ماكرة، من يتلقها فلا يصد ولا يرد، ولا يجد أمامه من سبيل إلا أن يضحك.
في كل سطر، وليس في كل مقال أو في كل فقرة، يباغت جلال عامر قارئه بقذيفة ساخرة من العيار الثقيل الذي لم يكن لديه عيار غيره.. حير الكتاب والمثقفين بعدما اعتلى ربوة عالية لا تطال، حفرها بثقافة تفوق غزارة مياه البحر، فلا تعرف من أي حقل ستكون القذيفة التالية من التاريخ أم من الجغرافيا أم السياسة أم من الاقتصاد أم من الفيزياء. أتعب من حاولوا اللحاق به. من يقرأ مقالته اليومية لا يعرف أي القفشات عنه ينقل، فالمقال كله قفشات ساخرة ، مسكوكة للمرة الأولى ولن تتكرر، كل من حاول تقليده أو سرقته فشل فشلاً ذريعاً، فالرجل ماركة مسجلة غير قابلة للتقليد أو التكرار وليست لها نسخ أخرى.
رحل عامر عن عمر ناهز الستين، بمسقط رأسه عروس البحر المتوسط التي فتنته وأحبها حد الجنون فكانت ملهمته بتاريخها كحاضنة لأعراق مدرسة للفلسفة عرفها التاريخ مدرسة فيثاغورس وأفلاطون وأرسطو، مدينة البطالمة والرومان والفينقييين والعرب، فالجميع مروا بها، فتنته وتعلم منها، فحمل عامر خلاصة تلك المدرسة ليبثها في كتاباته ومقالاته المتفجرة المفخخة كذرات نواة في مفاعل نووي يجري انشطارها أو اندماجها لتتفجر منها الطاقة الباعثة على الحياة والحكمة.
شيع محبو عامر من قراء ومثقفين من أبناء الإسكندرية وكل مصر عامر بعد عصر أمس بعدما أبكاهم جميعاً ولسان حالهم يقول إنه أضحنا كما لم نضحك من قبل، فمن حقه علينا أن نبكيه كما لم نبك أحدا من قبل، وقد نعاه الجميع بأسى شديد .
تخرج عامر في الكلية الحربية، وشارك بحرب أكتوبر في تحرير مدينة القنطرة، وبعد انتهاء المعارك الحربية وخروجه من الجيش تحول لمعارك من نوع آخر.. معارك النقد والبناء والكتابة، فلم يترك شاردة ولا واردة كبيرة ولا صغيرة إلا كانت هدفاً لكتابته ونقده، حتى المشهد الأخير الذي رحل وهو يكتب عنه وهو يرى العراك الدامي في ملعب إستاد بورسعيد في مباراة الأهلي والمصري البورسعيدي، إلى أن باغتته الأزمة القلبية خلال مشاركته في مظاهرة ضد المجلس العسكري الحاكم في مصر مطالباً بحقن الدماء وسرعة نقل السلطة للمدنيين.
كما درس عامر القانون في كلية الحقوق والفلسفة في كلية الآداب، وكتب القصة القصيرة والشعر، وعمل كاتباً صحفياً ونشر عددا من مقالاته في عدة صحف، حتى أصبح أحد أهم الكُتاب الساخرين في مصر والعالم العربي.
كان آخر ما قاله الراحل جلال عامر على موقع التواصل الاجتماعي الشهير تويتر مشكلة المصريين الكبرى أنهم يعيشون في مكان واحد، لكنهم لا يعيشون في زمان واحد.