بتاريخ هذا المقال تكون قد مرّت ثلاث سنوات على بداية الأزمة المالية العالمية، والتي بدأت عندما اكتشفت الحكومة الأمـريكية الحاجة للتدخل، لـدعم بنـك الاستثمار المسمى (Bear Sterns).
وخلال تلك الفترة حدث الكثير، وكتبت كتبٌ عدة، تحاول رصد ما حدث، والتعرف على أسـباب الأزمـة، منـها كتاب ألفه وزير الخزانة الأمريكية، خلال الأزمة (Hank Paulson)، وهو يؤرخ لتعامل إدارة بوش مع الأزمة، وهناك كتاب آخر ألفه أحد موظفي بنك ليمان برذرز، الذي أفلس، ويشرح فيه ما كان يحدث داخل البنك، وقاد إلى الإفلاس. ولكن أفضل ما قرأت هو كتابٌ، رصد بشكل جيد، وموثق كل ما حدث، وعنوانه أكبر من أن تفشل (Too Big To Fail)، وقبل أن أشرح ما يعنيه عنوان الكتاب، دعوني أولاً أستكمل التسلسل التاريخي للأحداث:
ظنّـت الحـكومة الأمريكية في البداية أن حالـة بنـك (Bear Sterns) هي حالة وحيدة، ولذلك تدخلت، وأقنعت بنك (Morgan Chase) أن يشتري البنك المتعثر، مع التزام الحكومة الأمريكية بدعم قدره (30) بليون دولار. بعد ذلك مباشرة تكشفت مشكلة بنك ليمان برذرز، ووجدت الإدارة الأمريكية أنها لا تستطيع أن تبدو أمام دافعي الضرائب بأنها تغطي أخطاء المصرفيين، ولذلك تركت البنك لقدره، وأفلس. بعد ذلك توالت حالات الترنح للشركات الأمريكية، ومنها شركتا ضمانات العقار الرئيسيتان (Fannie) و (Freddie)، واللتان قامت الحكومة الأمريكية فعلياً بتأميمهما، ثم شركة التأمين الأكبر في العالم (AIG)، كل ذلك أجبر الإدارة الأمريكية أن تتخذ قراراً بتقديم دعم لتلك الشركات، تجاوزت قيمته 700 بليون دولار، رغم أن ذلك يتعارض مع فلسفة، وروح الاقتصاد الحر، والتي كان يفترض أن الجمهوريين يقدسونها، مقارنة بالديموقراطيين. ولذلك ولكي تبرر الإدارة الأمريكية الجمهورية المحافظة تغير موقفها، فقد طوّرت العنوان الذي استخدم هنا كعنوان للكتاب، وهو باختصار يقول إن هناك شركات معينة، هي من الأهمية والتأثير في الاقتصاد، بحيث لا يمكن تركها تفلس. ولذلك صنفت بأنها أكبر من أن تفشل.
حدث ما حدث، وجاءت إدارة أوباما، واستمرت في تقديم الدعم لمجموعة سيتي، وصناعة السيارات الأمريكية... إلخ. والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو، هل كان هناك خيارات، أو حلول أخرى؟
بالنسبة لنا في العالم الثالث، لم يكن هناك خيار آخر، ولو لم تعالج أمريكا، ومن بعدها الدول الصناعية، تلك الأزمة، لكانت نتائجها كارثية بالنسبة لنا، لأننا مع الأسف في العالم الثالث لا نؤثر في العالم، إلا بمقدار ما نصدره من بترول، أو منتجات بتروكيماوية، أو معادن، أو منتجات زراعية، وقليل من المنتجات الصناعية.
العالم الرأسمالي باعنا فلسفته الاقتصادية، ولكنه عند الحاجة تناساها، وتدخل لصالح بنوكه، وشركاته، بطريقة لم تقم بها أشد الأنظمة الاشتراكية تعصباً، لذلك أنصح بألا نروّج لنظريات اقتصادية، مثالية، صمّاء، فالعالم حولنا يتغير، والمصالح توجه السياسات الاقتصادية، وهذا ما حدث في الأزمة المالية الأخيرة.