لشد ما يؤلمك في زمننا هذا، تلك الشكاوى التي تسمعها من هنا وهناك، من الذين تضرروا أيما ضرر، فقط لأنهم كانوا مثاليين في ظنهم بالآخرين!.

لشد ما يؤلمك في زمننا هذا، تلك الشكاوى التي تسمعها من هنا وهناك، من الذين تضرروا أيما ضرر، فقط لأنهم كانوا مثاليين في ظنهم بالآخرين!.
صحيح أن هذا الظن الحميد لا يعد نقيصةً أو عيباً في حد ذاته، ولكن العيب، كل العيب، أن يحولك القبحُ الذي رأيته يوماً ما جمالاً، والجحوظُ الذي حسبته يوماً ما تحديقاً وانبهاراً، والدمامةُ التي تراءت لك يوماً ما وسامةً تنمُّ عن طيبِ وعراقةِ وشرفِ الأصل، أقول: العيب، كل العيب، أن تحولك الصدمةُ الناجمةُ عن مثل هذه الخيالات والظنون إلى شكاء بكاء أضعف من أن تقف بوجه الظالم مرفوع الرأس وعالي الصوت ولا تخشى في قول الحق لومة لائم. أو أن تصبح مكسوراً سلبي الفعل ورد الفعل، كطفلٍ يربت كاسرُ لعبتِهِ على كتفيهِ فيبتسم كـ(أهبل)، أو كسجين ينسى صفع السجان، لمجرد أن بشّره بالفجر القادم!.
الناس مواقف!. ولأن اليوم يوافق ذكرى مؤلمة لرحيل الرجل الموقف، أمير شعراء الرفض أمل دنقل (21/ 5/ 1983)، فإنني أحيل كل المثاليين في عالمنا اليوم، وخاصة أولئك الذين طُعنوا غدراً ممن أحسنوا الظن فيهم، إلى الرائعة الخالدة (لا تصالح)!.
وأقول لكل من أحس بظلم لم يعد يجدي معه (الخد الأيمن) ولا (الخد الأيسر)، ولا (من كان منكم بلا خطيئة...)، ولا كل دعاوى التسامح والتسامي والصفح والغفران: لا تتصالحوا مع الظالمين، عروا وجوههم القبيحة، وافضحوا عورات قلوبهم المريضة، حطموا نظارات عيونهم التي لا ترى، واكشفوا للناس عن ضمائرهم التي لا تنبض بالحياة.. قاوموهم حتى بالدعاء:
(تنام عينك والمظلوم منتبه... يدعو عليك وعين الله لم تنم)!.
أما الشكوى، والبكاء، والتذلل، وارتداء ثوب الضعف، فهي أفعال لا تليق بالإنسان.. حتى لو كانت هي الطريق الوحيد لاسترداد الحق المسلوب، ألم يزل محفوراً فينا قول أمل دنقل:
لا تصالح
ولو منحوك الذهبْ
أترى حين أفقأ عينيكَ
ثم أثبّت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تُشترى..
...
لا تصالح على الدم.. حتى بدم!
لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ
أكلُّ الرؤوس سواء؟
أقلب الغريب كقلب أخيك؟!
أعيناه عينا أخيك؟!
وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك
بيدٍ سيفها أثْكَلك؟
كذلك الشرفاء لا يتصالحون على كرامتهم وحقهم وخيبة أملهم فيمن رأوهم يوماً ما بشراً عادلين!.
فليرحمنا ويرحمك الله يا أمل دنقل!.