وضعت فتوى الشيخ الكلباني عن الغناء على موقعي الشخصي وأرسلتها إلى مجموعة كبيرة فأرسل لي أحدهم أن أحذفها من موقعي كي لا أتحمل وزر من يأخذ بها، فأرسلت له خبر عدم تراجع الكلباني، وهكذا سوف نبقى ندور في حلقة مفرغة
لو كان لي أن أقتبس مقالة كاتب بشكل كامل وأضعها مكان مقالة لي، لفعلت ذلك مع مقالة الأستاذ خلف الحربي التي نشرت في صحيفة عكاظ بتاريخ 6/8/2010 بعنوان يسرقون أعمارنا ثم يعتدلون والتي كانت بخصوص الفتاوى المتشددة وأثرها السييء على الأفراد والمجتمعات، وتحولات أصحاب هذه الفتاوى بعد فترة من الزمن إلى الاعتدال، سواء بسبب تمحيصهم لآرائهم التي صدرت عنهم نتيجة انفعالات متسرعة وحماسية، أو بسبب مصالحهم التي تغيرت بتغير أحوالهم فلم تعد هذه الأفكار المتشددة تساعدهم على الاستمتاع برغد العيش حسب توصيف الكاتب.
وضع الأستاذ الحربي يده على الجرح تماماً ووصّف المشكلة حقاً عندما كتب هذه العبارة: (ولكن المشكلة ليست هنا، بل في ظهور شيخ جديد يريد أن يكوّن نفسه فيتشدد ويحتسب ويوتر الأجواء ويعطل التنمية حتى يصبح نجما لامعا ويتبعه خلق كثير فيعتدل ويصبح وسطيا ثم يقدم برنامجا تلفزيونيا يدعو فيه إلى التسامح والتآخي..).
الأمثلة التي ضربها الكاتب عن نتيجة الفتاوى المتشددة لا يمكن إلا أن نجد أنها تنطبق علينا أو على أحد نعرفه بشكل شخصي، قريبا كان أو غريبا، فمن المرأة التي حرقت صورها وصور أطفالها بسبب فتاوى تحريم الصور، إلى الرجل الذي تفاعل مع فتاوى تحريم الأطباق الفضائية فأصبح ينهى عنها حتى تنازع مع أحد إخوته لأنه جلب الدش لبيته، إلى الآخر الذي ترك وظيفته في البنك إلى وظيفة أدنى بكثير بسبب فتوى تحريم راتب البنوك، ثم إذا بالمرأة ترى صور الشيخ تملأ الصحف والمجلات بعد أن تراجع عن فتواه، والرجل الأول يجد أن من حرم الأطباق الفضائية هو نفسه أصبح يظهر في أسوأ هذه القنوات –من وجهة نظره السابقة– مقابل عقد يفوق المليون ريال، والرجل الآخر يضحك بعمق على نفسه لأن أغلب هؤلاء المشايخ أصبحوا أعضاء في الهيئة الشرعية للبنك الذي تركه في شبابه!
يمكن أن نضيف كثيراً من الفتاوى المماثلة، ونزيد عليها الفتاوى التي يسمح فيها المفتي لنفسه بما يحرمه على غيره، مثل فتوى الشيخ الذي يحرم الاختلاط أما وجوده - هو نفسه - بين نساء محجبات أو سافرات فهو من (الاختلاط العارض) المسموح به، وفتوى الشيخ الآخر بوجوب النقاب ولكنه يجلس إلى مقدمة برامج حوارية تكشف عن نصف شعرها أما وجهها فيئن تحت طن من المكياج، وغيرذلك من الفتاوى التي تدل على تناقض مخيف وازدواجية رهيبة يعاني منها كثير ممن يتصدون للفتوى.
من وجهة نظر الكاتب الحربي فالمشكلة إذاً في تغير رأي الشيخ بعد بحث طويل أو حسب مصلحة شخصية، لكن تضاف إليها- من وجهة نظري- مشكلة التحريم والتحليل حسب اقتضاء الحال الآني، أو حسب المزاج الشخصي، وكثيرا ما نجد هذه الحال في الفتاوى التي تخص المرأة، وإذا عدنا إلى القرآن الكريم فإنه لا يوجد عبارة قرآنية صريحة – ولا حتى متضمنة – تصم النساء بقلة العقل أو تمنع لقاءهن مع الرجال، بل على العكس ضرب القرآن المثل بنساء في نهاية سورة التحريم، مرة بامرأة لوط وامرأة نوح، كنموذج للكفار، ثم ضرب المثل بامرأة فرعون ومريم عليها السلام، كنموذج للمؤمنين، فإذا كانت النماذج – أو وسائل الإيضاح – التي يستخدمها القرآن هي نماذج أنثوية تماما، فلماذا هذا التغييب لمكانة ا لمرأة في الفتاوى الحالية؟ وماذا عن السؤال الأهم ألا وهو وجود المرأة المفتية التي لعلها تجتهد فتنتج فقهاً لا يقبل الازدواجية وإن كان ممكن التطوير؟!
نفس المقولة تنطبق على الفتاوى الخاصة بالفن والجمال، فمع أن القرآن لفت نظر المؤمنين إلى الجمال والزينة في عدة آيات: بخصوص الحدائق: (حدائق ذات بهجة)، وبخصوص الحيوانات:(لكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون)، وحول الزينة:(خذوا زينتكم عند كل مسجد)، وعن الفن والنحت:(يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل)؛ ومع أن السنة النبوية أظهرت التقشف الذي كان يعيشه الرسول عليه الصلاة والسلام مؤثرا بذلك الآخرة على الدنيا، فإن بعض الأحاديث تظهر لنا أنه لبس جبة حمراء مرة، وترك لبس أهل مكة وأخذ بلباس أهل المدينة حين استوطنها، مما يدل على أن اللباس شيء متغير، وأما تقشفه فهذا أيضاً لم يمنعه من مشاركة الناس أفراحهم، وإذا لم تكن الفنون متطورة كما هي الآن فليس معنى ذلك أن نحرم الفن حتى لو كان غناء مغنية، فقد وردت أسماء المغنيات في العهد النبوي منهن جميلة وأرنب وزينب، وكن يلتزمن أدب الإسلام بالطبع، وعلى ذلك من يحرّم غناء الفنانة الموريتانية معلومة بنت المداح فإن من الواجب نصحه أن يعود إلى كتب السنة النبوية، كي لا يحرّم ما أحله الله ورسوله.
ذكرت في مقالة لي كتاب العلامة بن علي الوزير:على مشارف القرن الخامس عشر الهجري.. دراسة للسنن الإلهية والمسلم المعاصر، وكيف أنه منذ 30 عاماً حاول أن يلفت نظر الناس إلى الحق في الاختلاف دون أن يحرم بعضهم على الآخر ما لم يرد تحريمه بنص قطعي الثبوت قطعي الدلالة، سواء بالنسبة لوجود المرأة في المجتمع، أو بالنسبة للفنون والجمال، وما يزال الجدال مستمراً فقد وضعت فتوى الشيخ الكلباني عن الغناء على موقعي الشخصي وأرسلتها إلى مجموعة كبيرة فأرسل لي أحدهم أن أحذفها من موقعي كي لا أتحمل وزر من يأخذ بها، فأرسلت له خبر عدم تراجع الكلباني، وهكذا سوف نبقى ندور في حلقة مفرغة ما لم يوجد فقهاء حقيقيون شجعان يوقفون هذه الازدواجية والتخبط!