إثر اغتصاب الصهاينة للجزء الأكبر من فلسطين، عام 1948، عملت ماكنة الإعلام الغربي على تصوير الصراع بأنه صراع بين مجموعتين: عربية

إثر اغتصاب الصهاينة للجزء الأكبر من فلسطين، عام 1948، عملت ماكنة الإعلام الغربي على تصوير الصراع بأنه صراع بين مجموعتين: عربية ويهودية، وأن كليهما يدعي ملكيته لأرض لم تكن مملوكة لأحد، قبل هذا الصراع. المبررات الصهيونية لعدوان يونيو أنها حرب وقائية، شنتها بهدف منع الهجوم العربي الهادف لإلقاء اليهود في البحر. إن جلّ ما تطمح له إسرائيل هو أن يعترف بها جيرانها، ويقيمون علاقات حسن الجوار، ويتعايشون بسلام معها. هذه الدعاية المضللة تسللت للأسف لماكنة الإعلام العربي، وصدق بها الضحية. وفي زحمة الصراعات والمواجهات ضعفت الذاكرة، وغيبت حقائق الجغرافيا والتاريخ. صدقت القيادات العربية، وتبعها الفلسطينيون، أن تحقيق السلام أمر ممكن، إذا ما أقر الجميع بمشروعية سطو الصهاينة على أرض فلسطين، وأن ذلك سيكون فيه حقن للدماء ونشدان للسلامة، وأيضا استرجاع للأراضي، وإن كانت ستبقى مجردة من السلاح. فحين يتحقق السلام لن يكون هناك معنى لامتشاق للسلاح.
ومن جديد عملت الماكنة الصهيونية، على ترويج فكرة أخرى مؤداها أن من يرغب في السلام، عليه أن يبدي حسن نواياه أولا، بتخليه عن السلاح. إن السلام يحتاج إلى قوة دفع وتطبيع وكسر للحاجز النفسي. صدّق بعضنا ذلك، أو بدقة أكثر أردنا تصديق الاتهامات التي كيلت للضحية. فتبنينا في وضح النهار تلك الشعارات، وفرطنا في معظم حقوقنا، على أمل تجنب الحرب. وأصبحت شعارات الدفع الذاتي والتطبيع وكسر الحواجز النفسية، ضمن قائمة أهدافنا. بل وأعلن بعضنا استعداده للخروج من منظومة الأمن القومي العربي الجماعي. وأصبحت الاتفاقيات مع العدو مرجحة على ما عداها من الاتفاقيات والمواثيق، بما في ذلك ميثاق جامعة الدول العربية ومعاهدة الدفاع العربي المشترك.
جرى اجتياح بيروت، عام 1982، والنظام العربي الرسمي في أسوأ حالاته. ولم نتخذ موقفا ضد العدوان، حتى ولو كان بالصمت  العاجز. بل وتقدمنا أشواطا كبيرة، بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد، نتج عنها إضافة اتفاقيتين أخريين، هما وادي عربة وأوسلو. وكانت الكذبة تلو الكذبة تشق طريقها الى عقول بعضنا وسلوكه. فكان الوهم أن الدولة الفلسطينية المستقلة، المتمتعة بكافة الحقوق، سوف تقام على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة بعد خمس سنوات من توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993. بمعنى آخر، سيشهد العالم في عام 1998، ولادة الدولة الفلسطينية المستقلة. ومضى اثنا عشر عاما، على ذلك الموعد، وما تحقق حتى الآن هو المزيد من قضم الأراضي الفسلطينية، حتى أصبح ما يتفاوض عليه الآن لا يتعدى الـ 47% من أراضي الضفة والقطاع. والمفاوضات لا تزال مستمرة، والسلام وليس الأمن لا يزال خيارنا الاستراتيجي.
هذا الأسبوع أعلن كبير المفاوضين الفلسطينيين الدكتور صائب عريقات، أن المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين قد بدأت بوساطة أمريكية. حسنا لقد عادت المفاوضات من حيث بدأت ولم تبدأ. وخلال عقدين، رأينا جعجعة ولم نر طحنا. وماذا بعد؟!
لا أدعو هنا للدخول في مغامرة عسكرية مع العدو، فكل الحقائق المتوافرة لا تشي بوجود الإرادة العربية على مواجهة الكيان الغاصب، ولست من المتحمسين للمواقف العدمية، فاستراتيجية المواجهة مع هذا الكيان ينبغي أن تكون واضحة، وممكنة التحقق. ونحن بحاجة إلى استراتيجية كفاحية، قادرة على دحر المشروع الصهيوني. لكني من جهة أخرى، لا أعتقد أن التسليم بشروط العدو سوف يقدم شيئا للفلسطينيين، فما رأيناه حقيقة خلال أكثر من تسعة عقود، منذ وعد بلفور، هو تآكل الحقوق العربية، في ظل فقدان التوازن العسكري والاستراتيجي، والتنظيمي وإرادة المقاومة بين العرب والصهاينة. ما أدعو إليه صراحة، هو تصليب الموقفين العربي والفلسطيني، في مواجهة الكيان الصهيوني. والخيار الاستراتيجي للسلام، هو خيار وأهم إن لم تدعمه قوة الردع، القادرة على جعله أمرا واقعا. والسلام دون الأمن هو ركوع واستسلام، لأنه لا يستند على قاعدة قوية تحميه وتدافع عنه. والمفاوضات، حين لا تكون هناك غاية نهائية تؤمن الحرية وحق تقرير المصير، تحوّل طاولة المفاوضات، إلى غاية.. فهل تكون طاولة المفاوضات هي الغاية والمطلب؟!..