عندما ذهبتُ إلى تركيا.. كان يدور في ذهني سؤال: هل هـي ابنة الغرب حقاً أم أنها مـازالت تتنفس هواء الشرق؟ وكان الجواب أن هذه البلاد مسلمة حتى النخاع

أخذتني وظيفتي في رحلة عمل لمدة أسبوعين إلى إسطنبول فعشتُ في الآستانة تجربة مثيرة ومرهقة أيضاً. من نافذة الطائرة بدت لي العاصمة التركية خضراء تماماً، ولا غرابة في ذلك فهي قطعة من أوروبا، أو جزء منها على الأقل . فإسطنبول هي المدينة الوحيدة التي يقع نصفها في أوروبا والنصف الآخر في آسيا، ويربطهما جسران عظيمان على مضيق البسفور، ومن علٍّ بدا منظر المياه اللامعة في محاذاة ذلك البساط الأخضر شاعرياً للغاية.
كان من المحزن لي أن ترتبط عاصمة الخلافة العثمانية في أذهان الشباب اليوم بمسلسل غرامي، ويغيب ذلك التاريخ الطويل لإمبراطورية حكمت بلدانهم حتى الأمس القريب. أنا أيضاً كنتُ متحمسة لمطاردة بعض المشاهير في تركيا، فذهبتُ باحثة عن سليمان القانوني ومراد الثاني وبايزيد الأول ومحمد الفاتح وعبدالحميد الثاني، أولئك الذين غيّر بعضهم وجه العالم للأبد.
يقع مكتب الشركة التي عملت بها هناك في الجزء الأوروبي من المدينة، وفي أثناء انهماكي في العمل ذات ظهيرة، سمعتُ صوت الأذان يرتفع عالياً من المسجد المجاور..رفعتُ رأسي مندهشة.. إنها المرة الأولى التي أسمع الأذان في أوروبا.
كانت مشاعري تجاه تركيا الحديثة غير محددة، فأنا ابنة مكة التي انطلقت منها شرارة الثورة العربية الكبرى (الفاشلة) في 1916 ، والتي ساهمت في القضاء على الدولة العثمانية وأنهت للأبد الخلافة الإسلامية . والكثير من العرب يتذمرون من العهد العثماني، بل ويصل بعض منهم إلى وصفه بالاحتلال. وهؤلاء غالبيتهم من المسيحيين العرب، أو من المسلمين اسماً لا ممارسة، فقد لعبوا على الوتر القومي آنذاك مستغلين الأخطاء القاتلة التي ارتكبها السلاطين المتأخرون. ومن ناحية ثانية فتركيا المجروحة من الخيانة العربية، والواقعة تحت سيطرة بعض الجمعيات المشبوهة مثل جمعية (الاتحاد والترقي) و(تركيا الفتاة) ويهود الدونمة والحركة الماسونية، كانت قد اختارت عبر بطل استقلالها أتاتورك أن تقطع كل وشيجة تربطها بالعرب والمسلمين، فاستبدلت الحروف العربية باللاتينية، والملابس الشرقية بالغربية، وصار الدين مطارداً، واختارت أن تـُيمّم وجهها غرباً تجاه أوروبا.
وكم كان مثيراً للشجن حين مررت بأحد الميادين الذي انتصب فيه قوس تاريخي كبير كُتب عليه بالخط العريض (دائرة شؤون عسكرية). أما أسماء القاعات في قصر الدولماتشي سراي فكانت كلها بالعربية مثل (قاعة السفراء وقاعدة المعايدة)، وحكاية هذا القصر تحديداً حكاية.
فقد اعتاد الخلفاء العثمانيون حتى عهد السلطان عبدالمجيد على الإقامة في قلعة (طوب قابي) والتي تحولت اليوم إلى متحف عظيم يضم روائع التراث العثماني والإسلامي، ومنها مقتنيات يُزعم أنها تعود للأنبياء والرسل يحيى ويوسف وموسى عليهم السلام، وأخرى للرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم، ولكن السلطان عبدالمجيد أراد قصراً جديداً على الطراز الأوروبي، وقد تسبـّب تشييد هذا القصر في إفلاس الدولة العثمانية لاحقاً.
الثراء والبذخ الشديدان ستشعر بهما وأنت تـُطالع كل آثار بني عثمان، وحين تـُقارن غرف نوم السلاطين في القصر بغرفة نوم أتاتورك ، وكان قد قرر أن يستخدم ثلاث غرف فقط من هذا القصر الشاسع، فستـُلاحظ الفرق الهائل، وستفهم ربما لماذا يعشقه كثيرٌ من الأتراك، وكيف سمحوا له بأن يـُغيـّر لغتهم وهويتهم. فهو ليس فقط بطل الاستقلال ومؤسس الجهورية التركية، ولكنه أيضاً ألغى الإقطاعيات ونظام الباشوات، وأنهى عصرالحريم السلطاني، واعترف بالمرأة كمواطن له حقوقه.
واصلتُ جولتي في القصر، وحين وصلنا إلى حجرة السفراء انتابتني مشاعر غريبة فأغلقتُ عيني وشعرت حينها بأن صوت مرشد الجولة يخفتُ شيئاً فشيئاً، فقد تخيلتهم جميعاً هنا..سفراء الدول الغربية وبعض أنصار الصهيونية بل ومؤسسها (هرتزل) يعرضون على السلطان عبدالحميد الثاني الذهب والفضة والعروض السياسية المغرية، وهو في قمة الضيق والحاجة ، مقابل التنازل عن فلسطين..فيأبى..ويقول: إن أرض فلسطين ليست ملكي إنما هي ملك الأمة الإسلامية، وما حصل عليه المسلمون بدمائهم لا يمكن أن يـُباع  ، وربما إذا تفتت إمبراطوريتي يوما، يمكنكم أن تحصلوا على فلسطين دون مقابل..حين فتحتُ عيني وجدتُ نفسي أقول بصوت خافت اللهم ارحم السلطان عبدالحميد.
عندما ذهبتُ إلى تركيا..كان يدور في ذهني سؤال: هل هي ابنة الغرب حقاً أم إنها مازالت تتنفس هواء الشرق؟ وكان الجواب أن هذه البلاد مسلمة حتى النخاع رغم كل شيء. فربما استطاع أتاتورك أن يـُغيـّر الأحرف من عربية إلى لاتينية، ولكنه لم يستطع تغيير اللغة التركية التي تستعير الكثير من مفرداتها من اللغة العربية، ولا يزال الطعام يـُعدّ على الطريقة الإسلامية، وحتى في أفخم فنادق العاصمة لا يوضع لحم الخنزير للسياح الأجانب إلا بحياء على الركن مع صورة كبيرة توضح أنه خنزير. كما ينتشر الحجاب الإسلامي ، رغم التضييق الشديد ، بشكل لا تخطئه العين، ليس فقط لدى السيدات الكبيرات، بل حتى لدى المراهقات وتلميذات المدارس الصغيرات . وما أجمل حجاب المسلمة التركية، محتشم وأنيق. وحين نـُودي لصلاة الظهر ، ونحن في ساحة مسجد السلطان أحمد (الجامع الأزرق الشهير)، هرع الجميع ليـُدركوا الصلاة. وجوامع تركيا التي يرتفع منها الأذان بالعربية على مدار اليوم ، هي تحف فنية مدهشة من الداخل والخارج، وتعدّ أيضاً مزارات لغير المسلمين في غير أوقات الصلاة ، بعد أن يتقيدوا ببعض الآداب الإسلامية. ولا غرابة إذن أن يُنتخب رجب طيب إردوغان (رئيس حزب العدالة والتنمية الإسلامي) رئيساً للوزراء . فالإسلاميون عملوا بهدوء عبر سنوات طوال حتى وصلوا إلى الحكم عبر اللعبة الديموقراطية نفسها، فأُسقط في يد خصومهم من العلمانيين والعسكر.
طبعاً الصورة ليست وردية تماماً، فهناك أجيال تركية تربـّت على العلمانية، بل بعضهم يفخر بإلحاده، فهم يمقتون الحكومة الحالية، ويتهمونها بالفساد المالي والنفاق، ويسخرون من مواقف إردوغان مع إسرائيل. فهؤلاء يرون مستقبلهم مع أوروبا وليس مع الدول الرجعية، ونسبتهم لا يـُستهان بها أيضاً، وهم يحبون أن ينظروا للخلافة العثمانية على أنها تركية وليست إسلامية.
حين انتهيتُ من زيارة مساجد السلاطين وقصورهم ، وقفتُ على جسر (غلاطة) على مضيق البسفور أتأملُ حمرة الغروب.. لقد ذهب العثمانيون بخيرهم وشرهم.. بانتصاراتهم وهزائمهم.. بإنجازاتهم وأخطائهم القاتلة.. ونحن اليوم في عالم جديد.. وهذه تركيا الجديدة.. قلبتُ وجهي في السماء مرة أخيرة قبل الرحيل..ودعوتُ الله راجية أن يرحم سلاطين بني عثمان..لأنهم ..في أوروبا..رفعوا الأذان.