الإعلام التقليدي لا يزال يحظى بكل مسوغات النمو الكاسح. والإعلام الجديد، في المقابل، لا يسحب البساط، بيد أنه بات باستطاعته أن يُدخل مؤسسة الإعلام التقليدية في تحديات أكثر تعقيداً

ليس هذا المقال دفاعاً عن حصون الإعلام التقليدي، ولكنه إلماحة وإشارة، خالية من التحيّز الذاتي، نحو قراءات مُختلفة – وإن لم تكن متداولة - لا ترى بالضرورة، سحب تطبيقات الإعلام الجديد البساط من تحت أقدام مؤسسة الإعلام التقليدية!.. ليس بعد على الأقل.
ما إن ارتدت الوطن ثوبها الإلكتروني الأحدث، حتى إذا بموجة معارضة هائلة تضرب من معاقل الإعلام الجديد: الفايسبوك وتويتر، تُبدي سخطها واستياءها المغموس بالتوجس، من الافتتاحية الورقية لرئيس التحرير جمال خاشقجي الذي اعتبر أن الموقع الإلكتروني الجديد هو خطوة في طريق إعمال تطبيقات النيو-ميديا والانخراط في عوالمه!
وبالرغم من أن السيّد خاشقجي هو أكثر القيادات الصحفية السعودية احترافاً وتطوراً وانفتاحاً على الأفكار الخصبة واليانِعة، لم يمنحه ذلك أي حصانة إزاء نقرات حمائم تويتر وصقوره الجارحة. (تعني مُفردة تويتر حرفياً = التغريد، وهذا ما تقوم عليه هوية الموقع الذي يعتمد شعار الطيور في تصميمه العام).
رئيس تحرير الوطن يقول: نحن نتغيّر ونلج عالم الإعلام الجديد من بوابته الرئيسية، فيما شباب تويتر يخرجونه على الفور من مرآبها الخلفي! .. في هذا الجو المتوتر (نسبة إلى التوتر، لا تويتر) تتأسس قطبية نحن في غنى عنها. وكأن الأطراف اللاعبة قد انتهت إلى فريقين: فريق يحصر الإعلام الجديد في الوعاء والقناة والتقنية الحديثة التي تستثمر في ذات المحتوى، وتعيد تشكيله ليلائم ذوق واهتمامات شرائح استهلاكية جديدة.. وفريق آخر يتعصب لتعريفاته الصاخبة لماهية الإعلام الجديد؛ فهو ليس الأداة، بل الظاهرة نفسها التي رافقت صعود تلك الأداة الجديدة، إذ هي الروحية والمنهج والفِكر الحديث!
وتلخّص التدوينة التي أطلقها عصام الزامل رداً على رئيس تحرير الوطن، ملامح الإعلام الجديد وترسم خطوطه العريضة من وجهة نظر شباب تويتر. فالإعلام الجديد، هو المُتحرر أبداً من إسار المركزية: حيث ليس ثمة مدير تحرير.. فالإعلام الجديد يُحرره كل الناس. وهو على مستوى التوجهّات: مرآة لهموم الناس وقيمهم… وليس لأيديولوجيا وخط تحرير الصحيفة الضيّقة والمُحددة. وهو ديموقراطي؛ حيث لا يمكن أن يُوقَف أكثر الكتاب شعبية، كما لا يمكن أن تتغوّل سطوة المُعلن على حساب التحرير، وهو موغِل في الشفافية حيث لا يُفرِط الرقيب في فلترة التعليقات والمداخلات مهما تنازعت حدتها!
الذي يجري تجاهله هنا. أن مثل مُدوّنة عصام الزامل، على اتقاد مضمونها وقدرتها على إثارة الأسئلة وضراوة نبض حبرها الإلكتروني، لا تتجاوز المئتي قراءة في أحسن الأحوال، هذا في الوقت الذي توزِع فيه الوطن يومياً ما يزيد عن المئتي ألف نسخة ورقية في سوق شديد التنافسية والتشبع، ناهيك عن عدد النقرات الهائل الذي يجذبه محتواها على الشبكة الإلكترونية، وحقيقة أنها باتت على مرمى حجر من إطلاق محطتها التلفزيونية وإذاعتها الـFM المرتبطة بها عضوياً.
ثمة مساحة عريضة دائمة – بل ونامية - لسطوة تطبيقات الإعلام التقليدي على توجهات الرأي العام والتأثير الاجتماعي.
في دراسة لتشارلز كيني من مؤسسة أمريكا الجديدة، نشرتها مجلة (الفورين ـ بولسي) في عدد نوفمبر الماضي. تؤكد تفوق سلطة التلفزيون مقابل كل هذا الصعود الجامح لتطبيقات الإعلام الجديد. وهو يسرد أرقاماً وإحصاءات مثيرة تؤيد وجهة نظره القائلة بالنمو الكاسح لاستخدام وشيوع جهاز التلفزيون، وبالتالي تفوق تأثيره، كأحد أدوات الإعلام التقليدي، مقابل كافة تطبيقات الإنترنت والإعلام الجديد؛ من تويتر، وفايسبوك، وكِندل، وحتى آي-قادجيت الأخير.
في سوق شديد التشبع، كان يمكن لـ فوكس الإخبارية التي ظهرت فقط في 1996، أن تشق طريقها نحو اقتناص الكعكة الأكبر في حسابات المشاهدة والتأثير. كما كان يمكن لشبكة (جلوبو) البرازيلية، وهي تقتحم المناطق الريفية في سهول البرازيل، أن تمارس دوراً جوهرياً في التغيير الاجتماعي، وفي القيم المبثوثة في نسيج المجتمعات الفقيرة، حيث لعبت مسلسلات الدراما والسوب-أوبرا، التي تُظهر نساء عاملات مُحترفات ومُستقلات، دوراً جوهرياً في التنظيم الأسري، وفي قلب معادلة الإنجاب المتكاثر بين النساء الريفيات.
الإعلام التقليدي لا يموت كأداة، بل هو على عكس ذلك، لا يزال يحظى –كأداة- بكل فرص ومسوغات النمو الكاسح. والإعلام الجديد، في المقابل، لا يسحب البساط من تحت أقدام مؤسسة الإعلام التقليدية بعد، بيد أنه بات باستطاعته أن يُدخل الأخير في تحديات أكثر تعقيداً، ويرغمه على مراجعة خطوطه التحريرية، وخططه التسويقية الخاصة بحسابات الجاذبية والمصداقية.
كنتُ طيلة أوقات احتجابي ورقياً، أنشط إلكترونياً بالتعليق في مدونتي على آخر مستجدات المجتمع، وشؤون الرأي العام. كنتُ قد سخرت من مُعدّي ومذيع نشرة أخبار التلفزيون السعودي الرئيسية، الذي في غمرة السيول التي اجتاحت العاصمة، والأزمة التي ضربت أوصال المدينة وعانى منها السكان، كان يردد بطريقة روتينية شديدة الرتابة: هطلت اليوم أمطار خير وبركة على الرياض ونواحيها.. صديقي النبيه عبدالله القِدهي طفقَ مُعلّقا: ومن يأبه بأخبار التلفزيون؟ حيث إنه وأقرانه في الرياض، قد تابعوا الأحداث عبر هواتفهم المتحركة ورسائل البلاكبيري التي تداولها الناس ما بين ساخر وغاضب ومتطوع للمساعدة، وجعلت التلفزيون يبدو ترفاً زائداً عن الحاجة! هنا تبرز عُقدة المقال. ماذا لو تبنى التلفزيون السعودي (وأي تطبيق إعلام تقليدي مثيل)، ذات روحية الصخب النقدي وديناميكية التداول الجمعي، الذي يحمله إعلام التويتر والفايسبوك والبلاك بيري في جوهره؟ وغلّفها بغلاف من المصداقية والمسؤولية الاجتماعية؟ كيف ستغدو حينها نتائج وآثار التغيير؟.. شيء كاسح ولا شك.