كلما غادرتُ مكاني أقنعت نفسي أن أكون واسع الأفق كما يقتضي الانفتاح العالمي ، مُحاولا أن أنفضَ عني غبار تلكم التهمة بالتقوقع الإقليمي المكاني الذي يلومني عليه كثير من الأحبة أدباء ونقادا
لا أذكرُ كلمةً ملأتْني عجبا ككلمة ( حب ) بجميع لغاتها المنطوقة أو المرموز بها !!
فالكائنات جميعا تتطوَّر ( تتغير) سلوكياًّ حسب المُتغيرات ، ويبقى مضمون هذه الكلمة فيها ثابتا .
يُجدِّد الشعراء في مضامين شعرهم ، والكتبةُ يُجددون في التعبير عما حولهم وما في نفوسهم .. وأهل التصوّف يُمارسون طقوسهم الروحية والجسديّة .. والإغريق يُبدعون في تنويع آلهتهم ، والهندوس والبوذيون يتفننون في التعبير عن عباداتهم ، والعلماء ينشغلون بتنظيراتهم واكتشافاتهم ، والفلاسفة يُفسرون كل ما حولهم ... كل هذا يتغير سلوكيا أو روحياًّ سوى كلمة ( حب) ، بكل درجاته وأنواعه ! هذه الكلمة هي الثابتُ الأول من ثوابت الحياة .
وحول نفعية وهدفيّة الحب يختلف الناس ، وليستْ آراء متصوفة الإسلام بجديدة علينا ، فمنهم من يرى أن حب الله ينفي الخوف النَّفعي المبني على مصلحة ، فهم يُحبونه لا خوفا من نار وعقاب ولا طمعا في جنة أو جزاء ، بل يُحبونه للحب ، ويرون أن الشكليات ليست سوى أدواتٍ لتطويع العامة الذين يخضعون لمبدأ الثواب والعقاب ، وأنه يكفي من تسامتْ روحه إلى درجة العشق علاقته الروحية المرتبطة بمحبوبه ، ولعل من أشهرهم : جلال الدين الرومي ـ الإمام محي الدين بن عربي ـ عمر بن الفارض .. ولنا أن نتجاوز هذا المستوى الأعلى من التفكير إلى مستوانا الحياتي اليومي فنتساءل عن جوهر حب الأهل مِنْ والِدَين وبنين وأزواج وإخوة وأقارب و...و... ثم نمضي إلى درجة السؤال عن جوهر حب الأوطان والديار.
فكمْ أغبطُ الذين تتّسعُ آفاق حبهم للأمكنة حتى يصلوا درجة عالية من ملكهم أرض الله الواسعة كلها ! وكم أجد الأرض جميلة في كل مكان ! والناس هم الناس في كل أرض وإن تنوّعت الأشكال وأساليب الحياة لديهم .. كلما غادرتُ مكاني حاولتُ أن أتخيلَ أنني ملكٌ أو سلطانٌ يملك الأرض كلها ، فأرض الله واسعة وهي ملكٌ لكل من سعى فيها أو استوعب وحدتها ، مُقنعا نفسي أن أكون واسع الأفق كما يقتضي الانفتاح العالمي ، مُحاولا أن أنفضَ عني غبار تلكم التهمة بالتقوقع الإقليمي المكاني الذي يلومني عليه كثير من الأحبة أدباء ونقادا ! وفي كل محاولة أجد التاريخ يعترض أمام مشروعي التوسُّعي في النظرة..
ويُعرف عن العرب كثرة حنينهم لأوطانهم حتى إن الجاحظ يقول في رسالته الحنين إلى الأوطان: كانت العرب إذا غزت أو سافرت حملتْ معها من تربة بلدها رملا وعفرا تستنشقه. وقيل لأعرابي: ما الغبطة ؟ قال : الكفاية مع لزوم الأوطان. وقديما قالت العرب: من علامات الرشد أن تكون النفس إلى بلدها توّاقة وإلى مسقط رأسها مشتاقة ، لذا جاء الشعر العربي مليئا بهذا النوع . ولابنِ الدمينة من داليته الشهيرة :
وقد زعموا أن المحب إذا دنا
يملُّ وأن النأيَ يشفي من الوجد
بكلٍّ تداوينا فلم يشف ما بنا
على أن قرب الدار خير من البعد
على أن قرب الدار ليس بنافع
إذا كان من تهواه ليس بذي ود
ومهما سكن الإنسان الدور والقصور فإن ذلك لن ينسيه وطنه ، فهذه ميسون بنت بحدل خطبها معاوية فتركت وطنها بادية الشام وبقيت معه في المدينة حيث العيش الرغيد ، لكنها لم تطق فراق وطنها فقالت :
لبيتٌ تخفقُ الأرواح فيه
أحب إليّ من قصر منيف
وكلب ينبح الطرّاق عني
أحب إليّ من قط أليف
ولبس عباءة وتقر عيني
أحب إليّ من لبس الشفوف
وأكل كسيرة في كسر بيتي
أحب إلي من أكل الرغيف
وأصوات الرياح بكل فجّ
أحبّ إلي من نقر الدفوف
خشونة عيشتي في البدو أشهى
إلى نفسي من العيش الطريف
فما أبغي سوى وطني بديلاً
وما أبهاه من وطن شريف
فلما سمعها زوجها الكريم طلّقها لتعود إلى أهلها.
ولما رأى عبدالرحمن الداخل ـ بعد أن استتب له الحكم في الأندلس ـ قافلة متجهة إلى الشام تذكّر غربته وبُعده عن وطنه مَشرِقا، قال:
أيها الراكب المُيمّم أرضي
أقر من بعضي السلام لبعض
إن جسمي كما علمت بأرض
وفؤادي ومالكيه بأرض
قُدِّرَ البينُ بيننا فافترقنا
وطوى البين عن جفوني غمضي
قد قضى الله بالفراق علينا
فعسى باجتماعنا سوف يقضي
ورأى يوما بقصره ـ قصر الرصافة ـ نخلة ولم يكن النخل موجوداً حينئذ في الأندلس وإنما أمر بجلبه من الشام، فقال:
تبدّت لنا وسط الرصافة نخلة
تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلتُ شبيهي في التغرّب والنوى
وطول التنائي عن بنيَّ وعن أهلي
نشأتِ بأرض أنتِ فيها غريبة
فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
سقتك غوادي المزن من صوبها الذي يسحّ ويستمري السماكين بالوبل
(عندما أقرأ شعر الداخل أتخيلُ نفسي ملكتُ الأندلس لقاء هجر داري وقومي ، عندها سأتنازل فورا عن ملكي الجديد) !!
ويستمر التغني بالوطن والحنين إليه ما استمر الشعر والشعراء ، ففي عصرنا الحاضر يصف خير الدين الزركلي حاله بعد فراقه وطنه فيقول:
العين بعد فراقها الوطنا
لا ساكنا ألِفَتْ ولا سَكَنا
ريانة بالدمع أقلقها
ألا تحس كرى ولا وسنا
كانت ترى في كل سانحة
حُسْنا وباتت لا ترى حسنا
والقلب لولا أنَّـةٌ صعدت
أنكرتُهُ وشككتُ فيه أنا
ليت الذين أحبهم علموا
وهم هنالك ما لقيت هنا
ما كنت أحسبني مُفارقهم
حتى تفارق روحِيَ البَدَنا
واليوم وقد اقترب البعيد ، وتكلم الحديد ، ولمْ يعدْ في الغربة من جديد ، أشعرُ بأنّ الأرض صارتْ بلا وزن ولا حدود! أتعلمون لماذا ؟ لا معنى للأرض بلا أهل ، ولا للمكان بلا ساكنيه ، رغم أن الأرض تتحدث بأهلها ، وتنطقُ بالحبّ قبورهم ، وما دام لا ينتظرك أحد بساخن الدمع فللسفرِ معنى جديد لم أجرِبْه من قبل .. وليس عليك ـ أخي القارئ ـ سوى أن تتخيل نفسك في سفر لا ينتظرك خلاله أحد !!