كان من المتوقع أن يحاول رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي زيادة سلطاته بعد رحيل القوات الأميركية من العراق، لكن قراره المفاجئ بإثارة أزمة سياسية مباشرة من خلال إصدار أمر باعتقال نائب الرئيس طارق الهاشمي بتهم إرهابية ربما يضعف حكمه ويسبب عدم الاستقرار في العراق، فما أن خرجت القوات الأميركية من الأراضي العراقية، وبعد ساعات فقط من الحفل الرسمي المقتضب الذي أعلن رسمياً عن إنهاء مهام القوات الأميركية في العراق في 15 ديسمبر، حتى بدأت الحكومة العراقية، بإيعاز من رئيس الحكومة نوري المالكي، بحملة واسعة ضد عدد من السياسيين العرب السُنة، ووضعت بذلك البلاد على حافة أزمة جديدة وخطيرة ما لم يتم تجاوزها بحكمة. وقد نشر معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى تقريراً في ديسمبر تناول فيه مايكل نايتس، وهو زميل في معهد واشنطن متخصص في الشؤون العسكرية والأمنية للعراق وإيران وليبيا واليمن ودول الخليج العربي، الأزمة العراقية الراهنة وآفاق تطورها.
يقول تقرير معهد واشنطن إن النتائج المحتملة لهذه الأزمة تتراوح ما بين العودة إلى الوضع الراهن – حيث ستبرز المشاكل السياسية الكبرى خلال أشهر قليلة – وصولاً إلى التصويت بحجب الثقة عن حكومة نوري المالكي. وفي كلتا الحالتين، من المرجَّح أن تزداد أعمال العنف. ويؤكِّد التقرير أن الدرس الذي ينبغي على واشنطن أن تتعلمه هو أن الدعم غير المشروط للمالكي يجعله فعلاً أقل تأثراً بالنفوذ الأميركي. وانطلاقاً من هذه النقطة، ينبغي على إدارة أوباما أن تتجنب جاذبية الحلول قصيرة الأجل وأن تركِّز على تعزيز الإجراءات الدستورية وحقوق الإنسان في العراق.
حملة القمع
في مساء 15 ديسمبر، قامت مركبات مصفحة من لواء بغداد (وهو وحدة أمنية تابعة للنظام تتحكم في المنطقة الدولية والمركز الحكومي) بتطويق مقر إقامة نائب الرئيس طارق الهاشمي – وهو سياسي عربي سُني بارز من تكتل العراقية. وقد اعتقل ثلاثة من حراسه، قدَّم أحدهم لاحقاً اعترافاً من على شاشات التلفزيون ادعى فيه تورط الهاشمي في الهجوم على البرلمان بسيارة مفخخة في 28 نوفمبر الماضي، وهو الادعاء الذي يزعم أنصار المالكي أنه كان محاولة لاغتيال رئيس الوزراء. وفي تلك الليلة نفسها، وضع لواء بغداد اثنين آخرين من سياسيي القائمة العراقية العرب السُنة تحت الإقامة الجبرية في منزليهما: وهما وزير المالية رافع العيساوي ونائب رئيس الوزراء صالح المطلك. وعلى الرغم من أن كلا الزعيمين استعاد أخيراً حريته في الحركة، إلا أن تكتل المالكي زاد في الواقع الضغوط على العرب السنة بطرق أخرى من بينها:
• تحقيقات الإرهاب: يخضع نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي لتحقيق من قبل مجلس القضاء الأعلى بتهمة التواطؤ في تفجير سيارة بتاريخ 28 نوفمبر وتم تحذيره بعدم مغادرة العراق، لكن الهاشمي استطاع الانتقال إلى أربيل، حيث تعمل الأحزاب الكردية وسيطة في الأزمة الراهنة الآخذة في الانكشاف. وقد أصدر مركز عمليات بغداد مذكرة اعتقال ضد الهاشمي وطلب من قوات الأمن الكردية تسليمه.
• محاولة عزل نائب رئيس الوزراء من منصبه. ضغطت كتلة المالكي من أجل عزل المطلك من منصبه عقب مقابلة أجراها مع وكالة سي إن إن الأميركية في 13 ديسمبر اتهم فيها رئيس الوزراء ببناء ديكتاتورية وتنبأ بوقوع انهيار ديموقراطي في العراق. وقد انتقل المطلك أيضاً إلى أربيل، إلى جانب غيره من كبار سياسيي القائمة العراقية.
• سحق النزعة الانفصالية الإقليمية: في الآونة الأخيرة طلب مجلسان إقليميان في محافظتين ذاتي أغلبية سنية – هما صلاح الدين وديالى – إجراء استفتاء على تشكيل كيانين إقليميين منفصلين مماثلين لـ حكومة إقليم كردستان، بحيث يكون لكل منهما دستوره ووزاراته وميزانيته الخاصة. وفي حالة محافظة صلاح الدين، فات الحكومة الفدرالية الموعد النهائي لبدء عملية تنظيم الاستفتاء، حيث استشهدت بعقبات قانونية غامضة. وفي محافظة ديالى، داهمت القوات الفدرالية المجلس الإقليمي ومكاتب المحافظ، ودفعت المسؤولين السُنة إلى المنفى في الأجزاء الشمالية من المحافظة الخاضعة لسيطرة الأكراد. وفي 20 ديسمبر، هددت محافظة الأنبار ذات الغالبية السُنية أيضاً، بتشكيل منطقة مستقلة إذا لم يتم الوفاء بقائمة مطالبها العشرين في غضون 14 يوماً.
يبدو أن الأكراد والقائمة العراقية قد أجلا جهود عزل المطلك من منصبه من خلال سحب مُشرِّعيهم من البرلمان، مما يجعل من المستحيل الحصول على نصاب قانوني (163 مقعداً) حتى عودتهم. ومن المقرر عقد جلسة جديدة للبرلمان في 3 يناير المقبل، مما يوجد موعداً نهائياً مؤقتاً للمفاوضات بين القائمة العراقية وكتلة المالكي. وفي غضون ذلك أعلن مستشار قانوني لرئيس الوزراء أن المالكي عزل المطلك من منصبه بموجب أمر تنفيذي بتاريخ 20 ديسمبر. كما أن القائمة العراقية سحبت وزراءها من الحكومة، رغم أنه بإمكانها التراجع عن هذا التحرك – على افتراض أن المالكي لن يستخدم سلطته التنفيذية لتنفيذ تعيينات بديلة. لقد كان رئيس الوزراء متشدداً حتى الآن وربما يستمر في تصعيد الموقف.
وتعود جذور الأزمة إلى سلسلة من الأحداث التي شكلت حلقة ردود فعل سلبية، حيث عمدت الجهات الفاعلة الرئيسية إلى تعقيد المشكلة في كل مرحلة. فقد أوجد انسحاب الولايات المتحدة لحظة عدم يقين أقلقت كافة الفصائل، ويبدو أن التقارير الاستخباراتية إما من سورية أو ليبيا قد عمقت من مخاوف المالكي بشأن احتمال قيام انقلاب سُني. وبالنسبة لدائرة المالكي الداخلية، بدا أن هجوم 28 نوفمبر يؤكِّد هذا التهديد. كما أن عمليات التطهير اللاحقة للعرب السُنة – التي بدأها أعضاء من حزب الدعوة الإسلامية الحاكم الذي يتزعمه المالكي – أشعلت المطالبات بتشكيل منطقة فدرالية في محافظة صلاح الدين، وحذو محافظة ديالى حذوها بعد وقت قصير. ويبدو أن تعليقات المطلك في 13 ديسمبر كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، حيث دفعت قوات الأمن التابعة للمالكي إلى التحرك ضد الهاشمي والمطلك – وهو قرار ربما شجعه التأييد المطلق من جانب البيت الأبيض لرئيس الوزراء أثناء زيارته إلى واشنطن في 12 ديسمبر.
المشهد المستقبلي
تظهر في الأفق ثلاث نتائج عريضة في الوقت الراهن:
• العودة إلى الوضع الراهن: يستطيع الأكراد – بدعم من واشنطن – التوسط في عقد هدنة دون تضحيات كبيرة من قبل أي طرف. وقد يعرض المالكي تنازلات طفيفة حول التشريع الجديد لاجتثاث حزب البعث، أو العلاقات الفدرالية مع المحافظات السُنية العربية أو آلية لمشاركة السُلطة توسّع نطاق السيطرة على القوات الأمنية. وقد يرتضي الأكراد بالتزام علني جديد من المالكي للعمل تجاه المطالب الـ19 الرئيسية التي قدموها العام الماضي. ورغم أنه من المفترض أن يتم إقرار أي من تلك الالتزامات في اتفاق يتم التوصل إليه من خلال وساطة في أربيل، إلا أن العملية يمكن أن تتعثر بسهولة في مرحلة التنفيذ، مما يؤدي إلى تجدد الأزمة في غضون أشهر قليلة.
• استفادة الأكراد من الموقف: يمكن للأحزاب الكردية استغلال الأزمة الحالية لزيادة الضغط على المالكي، من خلال تهديده بتصويت حجب الثقة من أجل الحصول على تنازلات قصيرة الأجل (ولا سيما بشأن عقد شركة إكسون موبايل لتطوير ستة حقول نفطية خاضعة لإدارة الأكراد). ومن المحتمل حينئذ أن ينفصل الأكراد عن القائمة العراقية، مما يجعل العرب السُنة يُتركون وحدهم مرة أخرى. ومن المرجَّح أن يعمل هذا السيناريو على إبعاد العرب السُنة عن بغداد والأكراد معاً، مما يعد المسرح لمزيد من العنف في شمال ووسط العراق.
• محاولة عزل المالكي: تحاول العراقية عزل المالكي عن طريق البرلمان، حيث حددت إبراهيم الجعفري كمرشحها البديل. والجعفري هو زعيم شيعي قد يكون مقبولاً لعدد كافٍ من التكتلات. وإذا تعاونت العراقية والأكراد وبعض الأحزاب الشيعية، يمكن عزل المالكي بتصويت في البرلمان. وهذا قد يؤدي بدوره إلى أزمة دستورية إذا حجب المالكي التصويت أو تجاهل نتيجته من خلال رفضه تسليم السُلطة.
وفي الوقت الحاضر يبدو السيناريو الأول هو الأكثر احتمالاً، على الرغم من أن السيناريو الثاني ليس وارداً بأي حال من الأحوال. كما أن التصويت بحجب الثقة هو الاحتمال الأقصى. ومهما يكن، فإن جميع النتائج تشير إلى فترة من التوتر والعنف المتصاعدين.
التداعيات السياسية
على الرغم من أن أياً من النتائج الواردة أعلاه لا تعد مثالية، إلا أنه يتعيَّن على واشنطن أن تكون مستعدة لأي منها. وقد تبدو العودة إلى الوضع الراهن جذابة، لكنها لن تحل أياً من المسائل الأساسية التي تواجه الكتل السياسية في العراق. وعلاوة على ذلك، قد ينفد صبر القادة العرب السُنة والأكراد إذا قدَّم المالكي وعوداً جديدة ومن ثم تراجع عنها مرة أخرى. وللمساعدة في تجنب وقوع أزمة جديدة على طول الطريق، ينبغي على واشنطن أن تستغل أي وقت متاح لإظهار النفوذ الأميركي على المالكي بشكل واضح. وعلى وجه الخصوص، ينبغي عليها أن ترد علانية على أي تصعيد كبير (مثل استبدال وزراء العراقية أو إصدار مذكرات اعتقال جديدة يبدو أن وراءه دوافع سياسية) من خلال تجميد المساعدات الأمنية وتحذير المسافرين الأميركيين من زيارة العراق عبر التحذيرات الاستشارية لوزارة الخارجية الأميركية – وهو ما سيشكل عائقاً إضافياً على الاستثمار الأجنبي.
وكما ذُكر سابقاً، فإن السيناريو الثاني – وهو اتفاق عرقي طائفي ضيق تبيع فيه الأحزاب الكردية العرب السُنة مقابل تنازلات ضيقة – قد يزيد من زعزعة الاستقرار في وسط وشمال العراق. وبناء على ذلك، ينبغي على واشنطن أن تواصل توجيه الأكراد بعيداً عن ذلك الخيار.
وأخيراً، فإن التصويت بحجب الثقة ينطوي على احتمالات كبيرة لتصعيد العنف، أو في أحسن الأحوال، حدوث شلل سياسي أثناء تشكيل حكومة جديدة. وفي الوقت نفسه، فإن ذلك الإظهار لقدرة البرلمان على عزل رئيس الوزراء قد ينقذ الديموقراطية الوليدة في العراق، حيث سيعيد موازنة نظام تطغى فيه السُلطة التنفيذية بسرعة وبشكل كارثي على السُلطة التشريعية والهيئة القضائية والدستورية. وفي ظل تلك الظروف، ينبغي على الولايات المتحدة أن تدعم حق البرلمان في إجراء مثل هذا التصويت وأن ترمي بثقلها الكامل وراء تعيين أي خليفة قانوني.