قراءة هذه التحولات مضروبة في معامل سرعة الحركة تبرهن فوارق الحراك ما بين جيلين متقاربين في المكان والزمان ولكن يفترقان في نمط التنشئة والتفكير
هما عقدان من الزمن الأخير، ولكن: عشرون عاماً من التحولات العولمية التي توازي في منتجهما، ووحدهما، ما كان يفوق المنجز الإنساني في قرنين كاملين. والسؤال: كيف تستطيع أي قوة محافظة أن تقنع جمهورها بتجاهل هذه التحولات الهائلة ومن ثم البقاء في جلباب الأمس؟ من تسعينات القرن الماضي حتى عشرية الألف الجديدة مجرد عقدين من الزمن ولكن مرة أخرى: هما العقدان اللذان شهدا ولادة ثلاث ثقافات غيرت مفاهيم الخصوصية المحلية. ثقافة الإنترنت التي تضيف في اليوم الواحد ثلاثة أرباع المليار من الصفحات الجديدة للتواصل ما بين المستخدمين. يقال إن ما يقارب 80% من هذه الصفحات اليومية المتجددة تذهب لأعين وأصابع الجيل الرقمي الجديد تحت سن الخامسة والعشرين، ويقال أيضاً إن مجموع صفحات اليوم الأوحد إلكترونياً تفوق المطبوع الورقي كاملاً ما بين عامي الخمسين والستين من القرن الماضي. الثقافة الأخرى هي لغة الفضاء التلفزيوني، وبحسب المؤسسة العربية للإرسال، فإن الفضائيات العربية تبث في اليوم الواحد ما يقارب عشرة آلاف ساعة، وكنت شخصياً قد ابتدأت مراهقتي فقط بعشر ساعات من قناة واحدة فأين منها هذه المفارقة الرقمية المدهشة ما بين حصتي وبين حصة ابني من الجيل الجديد في هذه الزحمة الهائلة. والذي يظن أن المسألة مجرد نشر فضائي للكلام إنما يقبض على الوهم: المسألة حرب أفكار هائلة ويخطئ تماماً من يظن أن الجيل القادم مجرد ضحية لهذه التحولات فيما الحقيقة أن ذلك الجيل هو من يصنع لنفسه هذا التحول. الثقافة الثالثة في منجز العقدين الأخيرين كانت ثقافة – الجوال – تلك الآلة التي غيرت أو طمست للأبد فكرة العنوان البريدي ليتحول الفرد معه إلى عنوان متحرك بكل ما بين الثبات وبين الحركة من رمزية. قراءة هذه التحولات مضروبة في معامل سرعة الحركة تبرهن فوارق الحراك ما بين جيلين متقاربين في المكان والزمان ولكن يفترقان عن بعضهما البعض في نمط التنشئة والتفكير بمسافة ضوئية. وقد نكون بالفعل أول حالة تعايش بشري متناقضة بين جيلين متوالدين من بعضهما البعض ولكنهما يعيشان في قرنين متباعدين حتى ولو كانا بالمادة مع بعضهما كتفاً لكتف. والسؤال الذي تطرحه حقائق الاستنتاجات الرقمية السابقة أمام قوى مقاومة التغيير: هل تعي هذه القوى طبيعة الوقت الزمني الذي يستلزمه التغيير وهو يتسارع بهذه القوة المخيفة بالفعل؟ خذ هذه الأمثلة الأخرى للمقاربة: مهندس سعودي، وهو بالصدفة، حفيد شخصية عارضت بكل شراسة عملية التحديث ولو حتى في مجرد – البرقية والتلكس – التي كانت في فهمه آنذاك عملاً شيطانياً لا يجوز التعامل معه. هي ذات النظرة ضد تعليم الفتاة التي وقف ضدها واحد من أعيان بريدة ورجالها الوجهاء ولم يمهله الزمن ليشاهد حفيدته واحدة من أكفء حملة الدكتوراه من سعوديات الجيل الجديد، وخريجة واحدة من أشهر الجامعات الأمريكية. لكن المسافة في بطء التغيير في الماضي مقارنة بتسارعه في العقدين الأخيرين هما أمر لافت ولب المسألة. ما بين الجد الرافض للبرقية والحفيد المهندس كان الزمن يسمح بمسافة أجيال لرفض التغيير وكان الهامش الواسع من الزمن في سياقه الاجتماعي يسمح لقوى التغيير بالمناورة ضد الأفكار التي كانوا يؤمنون بانتهاكها للخصوصية. كان هامش الوعي الاجتماعي يسمح لمناوئي التغيير بالتأثير لأن الوعي يومها كان مسطحاً في بيئات اجتماعية كان الزمن يفرض عليها العيش في جزر معزولة عن التلاقح العولمي: اليوم انحسر مفهوم السيادة وبالتالي ينحسر تماماً مفهوم الخصوصية. نمتلك الأرض ولكننا لا نمتلك السيطرة على الفضاء. وإذا كان الزمن الماضي يسمح لفكرة الرفض بالعيش على بعد أجيال من الزمن فإن الحاضر لا يسمح للفكرة أن تعيش رفضاً حتى ولو لمجرد العام الذي يليه. لم يستخدم الجد البرقية مطلقاً لا في حياته ولا حتى في حياة ابنه ولكن: الذين اتهموا فكرة صحن الاستقبال الفضائي – بالدياثة – هم من يقبضون بأنفسهم على أجهزة الريموت كنترول وهم أيضاً ذاتهم من قبل بالظهور عبر هذه الأقنية الفضائية. الذين وقفوا ضد – الإنترنت – بذات الضراوة هم من يمتلكون فيها أشهر المواقع الإلكترونية. الذين عارضوا كاميرا الجوال يعرفون أن ذات الآلة أوصلتنا إلى ما يجعل من حديث – الكاميرا – فكرة قديمة. إنها طبيعة الزمن مضروبة في معامل المنتج التقني الذي يسير بسرعة مخيفة.