هناك إجماعٌ على أن نسيان ما أوجبه الله من أوامر؛ والعدل على رأسها، والتغافل عما حرمه من منهيات؛ والغطرسة في مقدمتها، سيفتح باباً كبيراً من التغيرات والتغييرات

الحمد لله على إدراك شهر الرحمة والغفران والعتق من النيران، هنأكم الله بصيامه وقيامه.. لقد عجز علماء الدراسات المستقبلية ـ الاستشراف ـ بكل ما لديهم من علومٍ عن (المحتمل) و(الممكن) و(المفضل) عن توقع ما تم ويتم هنا وهناك. والتفاصيل لا تخفى على أحد، والقادم في علمه سبحانه، نسأله اللطف.. مما يُفزع إليه وسط الظروف والحركات والأحداث؛ التبصر والتمعن والتأمل في كلام الله وآياته، خصوصاً أننا في شهر القرآن. ومن ذلك الآيات الشريفات من سورة الأنعام؛ إِحدى السور المكية التي تدور حول العقيدة وأصول الإِيمان، وتعالج قضية الألوهية، والوحي والرسالة، والبعث والجزاء.
يقول تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ* فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ* فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ* فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الشيخ أحمد بن عجيبة في كتابه (البحر المديد في تفسير القرآن المجيد) يجمل كلامه بعد تفسيره للآيات في أن المقصود من إظهار النقم الظاهرة؛ ما يؤول الأمر إليه من النعم الباطنة، فإن الأشياء كامنةٌ في أضدادها؛ النعمة في النقمة، والرخاء في الشدة، والعز في الذل، والجمال في الجلال إن وقع الانكسار إلى الله أنا عندَ المنكسرةِ قلوبُهم مِن أجلي. فتذلل القلوب عبادةٌ كبيرة، تُوجب نعمًا غزيرة، فإذا قسَت ولم يقع لها رجوع، كان النازل بلاءً ونقمة وبُعدًا. فإنَّ ما ينزل بالإنسان من التعرفات منها ما يكون أدبًا وكفارة، أو زيادةً وترقية، أو عقوبة وطردًا، فإن صحبه التيقظ والتوبة كان أدبًا، وإن صحبه الرضا والتسليم كان ترقيةً، وإن غضب وسخِط كان طردًا.. أما الشيخ عبد الرحمن السعدي صاحب كتاب تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن فيقول: يقول تعالى:ولقَد أَرسَلنا إِلَى أُممٍ منْ قَبلكَ من الأمم السالفين، والقرون المتقدمين، فكذبوا رسلنا، وجحدوا بآياتنا. فَأَخذناهُمْ بِالبأسَاء وَالضّراءِ أي بالفقر والمرض والآفات والمصائب رحمة بهم. لَعَلَّهُم يَتضَرَّعُون ويلجؤون إلينا. فَلَوْلا إِذْ جَاءَهمْ بأْسنا تَضرَّعوا ولَكنْ قَستْ قلُوبهمْ، أي استحجرت فلا تلين للحق. وَزَين لهمُ الشّيْطانُ ما كانُوا يَعمَلونَ فظنوا أن ما هم عليه الحق، فتمتعوا في باطلهم برهة من الزمان، ولعب بعقولهم الشيطان. فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكرُوا بِه فَتَحنَا عَلَيْهِمْ أَبوَابَ كلّ شيْءٍ من اللذات والغفلات. حَتى إِذَا فَرحُوا بِما أوتُوا أَخذنَاهم بَغتةً فإِذا هُم مُبلسُون أي آيسون من كل خير، وهذا أشد ما يكون من العذاب، أن يؤخذوا على غرة، وغفلة وطمأنينة، ليكون أشد لعقوبتهم، وأعظم لمصيبتهم. فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي اصطلموا بالعذاب، وتقطعت بهم الأسباب. وَالْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ على ما قضاه وقدره، من هلاك المكذبين. فإن بذلك، تتبين آياته، وإكرامه لأوليائه، وإهانته لأعدائه، وصدق ما جاءت به المرسلون.
النقلان السابقان من مدرستين مختلفتين من مدارس التفسير المشهورة، وفيهما إجماعٌ على أن نسيان ما أوجبه الله من أوامر؛ والعدل على رأسها، والتغافل عما حرمه من منهيات؛ والغطرسة في مقدمتها، سيفتح باباً كبيراً من التغيرات والتغييرات. أسأل الله أن يجنبنا كل شرٍ وشدة، ويكتب للجميع صالح الأعمال..اللّهم لا تؤمنا مَكْرَكَ، ولا تنسِنا ذِكرك، ولا تهتكْ عنّا ستركَ.