العبادة الحقة هي التي تنفع الإنسان نفسيا، وهي تبعث الثقة والطمأنينة، كما أن أعمال الخير تكون خالصة لوجه الله إذا كانت نابعة من منطلق إنساني، ولكن البعض قللوا من شأن ذلك.. فهل ينتبهون إلى هذه المشكلة في برامجهم الرمضانية؟
عند اقتراب شهر رمضان المبارك من كل عام تبدأ موجة الدعايات والإعلانات عن المسلسلات التلفزيونية، وكذلك البرامج الدينية، في منافسة حادة بين الفضائيات لكسب عدد أكبر من المشاهدين. والملاحظ هنا أن النقد لا ينصب إلا على المسلسلات الفنية بالتحديد، حيث يقول البعض إن: المسلسلات لا تراعي حرمة الشهر، وتعرض ما لا يليق، وتحرم الناس الأجر والثواب، وهدفها الوحيد الكسب التجاري، وفي المقابل، لا نجد أي نقد للبرامج الدينية، بل إن البعض أصبح يتعبد الله بمتابعة مثل هذه البرامج ويعدها من تمام الصيام!
لا أحد ينكر أن هنالك عادات وممارسات سلبية أصبحت ملازمة لشهر الصوم، ومن أهمها تحويل الليل إلى نهار والعكس، وتضييع الوقت بالانشغال التام بإعداد الموائد والأطعمة ومتابعة الفضائيات، مما يتطلب تغيير هذه العادات التي درج عليها الناس.
وبالرغم من الآثار السيئة المترتبة على تلك العادات، إلا أن هناك ما هو أخطر منها، وهي تلك المفاهيم والتصورات الخاطئة عن شهر الصوم، والتي للأسف الشديد تروجها بعض البرامج الدينية التي تبث في هذا الشهر الفضيل. وخطر هذه المفاهيم يتمثل في كونها تدخل في معتقدات الناس ومن ثم نزع روحانية الصوم منهم، وإغفال الهدف الأساسي من الصيام، وليس هذا فحسب، بل أيضا تترك آثارا نفسية تنعكس على سلوك الناس بشكل عام، لذا لا أبالغ إن قلت إن بعض البرامج الدينية هي أشد خطرا على الصائم من المسلسلات الفنية، وذلك لأن الفرد العادي يدرك جيدا أن الهدف من المسلسلات هو الترفيه، وإن احتوت على بعض الرسائل الفكرية المفيدة، بينما بعض البرامج الدينية تحتوي على بعض الأفكار التي قد تخلف عقدا نفسية وممارسات سيئة، لا ينتبه إليها الفرد، وذلك لاعتقاده أنها من الدين، وبالتالي فهي خير دوما، ولا يكتمل صوم المسلم إلا بتطبيق هذه الأفكار.
هل سألنا أنفسنا يوما لماذا يحرص البعض على ختم القرآن في رمضان دون تدبر أو فهم، أو لا يقرأ القرآن فقط إلا في رمضان؟ ولماذا لا يتصدق البعض إلا في رمضان؟ وهل سألنا أنفسنا أيضا لماذا لا يكون هناك أي تأثير للشهر على سلوك البعض بالرغم من الصيام ومضاعفة العبادة؟ هل فهمنا سبب ازدواجية الأخلاق في رمضان؟ وما تفسير من يقوم بالصلاة والزكاة والصيام ومع ذلك نجده أشر الناس في تعامله مع الآخرين؟
بعض الدعاة استطاع اختصار الإجابة على الأسئلة السابقة في عبارة عباد رمضان، وبمصطلحات أخرى وعظية وإنشائية لا تسمن ولا تغني من جوع، واستراحوا من عناء البحث والدراسة، وكعادتهم ألقوا اللوم والمسؤولية على الآخرين، مع أنهم يتحملون جزءا كبيرا من المسؤولية في بروز هذه الظاهرة. فهم يقولون على سبيل المثال إنهم يسعون إلى تنوير الناس وتعليمهم أمور دينهم من خلال البرامج الدينية، ومنها ما يتعلق بأمور الصيام، عن طريق الرد والإجابة على أسئلة المتصلين والمشاهدين، ولكن لو دققنا في مضمون هذه الأسئلة لوجدناها تنم عن مشكلة نفسية سببها هؤلاء الدعاة من حيث لا يعلمون. فغالبية الأسئلة تتمثل في حكم استخدام معجون الأسنان والسواك في نهار رمضان، أو استخدام الحقن الطبية والمغذي، أو استخدام العطر والتطيب، أو على سبيل المثال تسرب الماء إلى الحلق أثناء الوضوء، والأسئلة لا تخرج عن هذا الإطار عموما.
وبالطبع، فإن الأسئلة السابقة لم تأت من فراغ، بل هي نتيجة لفتاوى سابقة في مسائل الصيام، والتي تسببت في جعل الصيام أكثر تعبا ومشقة، فقد جعلوه دقيق التفاصيل ومعقد الأجزاء، وأمسى المسلم مشغولاً بأداء التفاصيل، إذ هو يخشى أن (يجرح) صيامه بأي شيء كان، وهذه الحالة تؤدي إلى ظهور عقدة نفسية يسميها علماء النفس عقدة الاستكمال perfectionism، بمعنى (الوسواس)، وهذا يؤدي إلى أن الإنسان يهمل الأصل في سبيل الاهتمام بالفروع، فينسى الهدف ويهتم بالتفاصيل الدقيقة. ولا يقف الوسواس عند هذا الحد، بل يسري إلى الشعائر والعبادات الأخرى مثل الوسواس في الصلاة والوضوء وغيرها، كما يمتد إلى نواحي الحياة الأخرى مثل الوسواس في أمور النظافة والوقاية الصحية.
وأما بالنسبة لأعمال الخير في رمضان فقد جردوها من النزعة الإنسانية، فأصبح كل عمل أخلاقي ننوي القيام به تجاه الآخرين يخضع إلى عمليات حسابية تطغى عليها المصلحة الشخصية والأنانية، فأصبح البعض لا يتصدق بهدف التكافل الاجتماعي ومساعدة الناس، ولا يصل الرحم بهدف المحبة للآخرين، ولا يعود المريض من أجل التخفيف عن ألمه وإدخال السرور إلى قلبه، فهنا أصبحت الأنا هي الهدف لا غير، والأدهى والأمر من ذلك أن يقوم البعض بأعمال الخير هذه ومع ذلك نجد أخلاقهم سيئة في التعامل مع الآخرين، لأن في تصورهم الذهني يرون أنهم بهذا العمل قد حصلوا على الأجر والمثوبة من عند الله وكفى، وهم قد نسوا قول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث: أتدرون من المفلس؟، قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار.
إن العبادة الحقة هي التي تنفع الإنسان نفسيا، وهي تبعث الثقة والطمأنينة في قلبه، كما أن أعمال الخير تكون خالصةً لوجه الله إذا كانت نابعة من منطلق إنساني، ولكن البعض قللوا من شأن ذلك.. فهل ينتبهون إلى هذه المشكلة في برامجهم الرمضانية؟