كان معمر القذافي خلال أكثر من أربعين سنة يقطع طريق السلامة ويتسبب في مشكلات ليبية محلية ومشكلات مع المجاورين ومع الأشقاء العرب ومع الغرب ولا ينفك يورث القلق ويسبب الإحراج والصداع للجميع

على وقع ما يجري من انتخابات نزيهة في ليبيا، وما سيتبع ذلك من انعتاق لهذه الدولة الفتية لتبدأ رسم خطواتها في مدارج النمو بعد أن جثم عليها الطغيان الفردي والنرجسية البشرية لأكثر من خمسة عقود، أتابع هذه الأيام سلسلة حوارات يجريها الصحفي الكبير غسان شربل مع بعض رجال النظام البائد، وفي هذه الحلقات تنكشف لك الأسرار المذهلة والسلوكيات الشاذة الخارجة عن نطاق المعقول.
آخر هذه الحوارات ما ينشر هذه الأيام مع أمين المراسم نوري المسماري الذي يفضح ويعرض سوءات العقيد رغم أن المتحدث هو (الأمين)، ولست هنا في وارد الاعتراض بل إنني من مؤيدي فتح الملفات المخبوءة ليتعرف الناس على التضليل الذي يمارس بحقهم من هؤلاء العسكر وحملة النياشين المزيفة الذين تولوا في غفلة من الزمن إدارة الشأن العربي في أكثر من مكان.
لكنني كلما قرأت حديثاً أو خبراً عن ليبيا أتداعى وأتذكر الناقة وهي تهم بعبور طرق السفر السريعة ثم أتذكر في نفس اللحظة معمر القذافي، وهو يهم بدخول قاعة أحد مؤتمرات القمم العربية، ثمة وجه شبه كبير في الخلقة والسلوك بين الناقة وبين معمر، أما شبه الخلقة فإنه واضح وبيّن لكل من ألقى النظر وهو بصير، أما فيما يخص التشابه في السلوك فإن معمر والناقة كلاهما يتسمان برأس مرفوع كما لو أنه ينم عن الثقة والتفاتات إلى اليمين ثم إلى الشمال قبل الإقدام على الحركة التي تتسم بشيء متعمد من البطء لكن هذه النظرة البعيرية القذافية المترفعة ليس لها سنع لأنها في الواقع لا تعبر عن ثقة حقيقية، وإنما هي سلوك متعجرف يعبر في نهايته عن غباء مفرط وتهور غير محسوب بدليل الحوادث المرورية المميتة التي تحدث للناس والنياق عندما يلتقيان في منتصف الطريق السريع، أي بالضبط عندما تتهادى الناقة تمشى الهوينا بعد أن تكون قد أخذت احتياطاتها البصرية و تمقلت وحملقت ذات اليمين وذات الشمال وإذا بسيارة تسير بسرعة معتبرة في هكذا طريق، وفجأة تأخذ الناقة مسارها وتعبر الطريق وتلتقي الناقة في منتصفه مع ذلك القادم بسرعة لا تمكنه من التحكم والوقوف فيحدث الاصطدام ويقضي على الناقة وعلى من في السيارة، كل ذلك يحدث لمجرد أن الناقة قررت فجأة وعن سابق ترصد أن تعبر على حين كان الأولى أن تنتظر.
وهكذا أيضاً كان معمر يتصرف في القمم العربية فقد تعودنا على وجود كل القادة في قاعة المؤتمر في نفس الوقت لكن معمر يتأخر ليأتي بعد الجميع ثم يستقطب فلاشات المصورين فيما هو رافع عنقه إلى الأعلى وبصره شارد إلى اليمين ثم إلى اليسار حتى إذا أخذ مقعده من القاعة وجاء دوره في الكلام خبص وأتى بما لم يخطر على بال مدستري ومؤسسي أدبيات السلوكيات والعلاقات الدبلوماسية.
كان معمر القذافي خلال أكثر من أربعين سنة يقطع طريق السلامة ويتسبب في مشكلات ليبية محلية ومشكلات مع المجاورين ومع الأشقاء العرب ومع الغرب ولا ينفك يورث القلق ويسبب الإحراج والصداع للجميع.
حكم ليبيا وجعلها خيمته التي يمتلكها، وتحكم في أطنابها حتى إذا ضاق به الليبيون ومن معه في الخيمة وثاروا عليه عمد إلى حرق الخيمة بمن فيها، عنيف ما جرى في ليبيا وفي سرت تحديدا من هدم للمباني وهدر للثروات واسترخاص للبشر، لقد فوجئ القذافي وعز عليه وهو الدكتاتور الذي جثم على ليبيا أن يدعها في قبضة الثوار الذين ضاقوا بهذا الدكتاتور وأبنائه وحاشيته وبطانته الفاسدة التي قضت على الأخضر واليابس.
لكن الشعب الليبي ثار على هذا البطش وحق له الآن بعد انحسار القذافي وزمرته أن يتطلع إلى عيشة كريمة مسالمة متصالحة مع الأشقاء والمجاورين ومع العالم كله.
ويحق لهم الآن بعد ممارسة حقهم في الاختيار عبر الانتخابات أن يلتفتوا إلى بناء هذا الوطن الموفور اقتصادياً والمهدم مؤسساتياً، يحق لهذا الشعب الليبي الصبور أن يتنفس نسائم الحرية والخروج من دكتاتورية الفرد /المهووس/ النرجسي /غريب الأطوار.
اللهم اقسم لليبيا العزيزة وشعبها الصابر حاكما أحكم، وحالا أحلى ينسيهم مرارة العقود الخمسة الماضية.