فردريك معتوق

في الشرق الأوسط المعاصر ثلاث عصبيات عنيدة وعتيدة ترفض مغادرة فضاءاتها المعرفية التاريخية الموروثة، وترفع رايات الممانعة عالياً في مواجهة أي تقدم نوعي في المنطقة، حيث تريد لها أن تبقى مجرد شعوب بالمعنى الروماني القديم للكلمة، أي مجرد تجمعات إثنية مقعرة، وهي العصبية الإسرائيلية والعصبية الفارسية والعصبية التركية، لكل منها راياتها المعرفية وتكتيكاتها الميدانية، بيد أنها تجمع كلها على استراتيجية واحدة هي الغالب والمغلوب. والمغلوب في هذه المعادلة راهناً هو العالم العربي.

نبدأ بالعصبية الإسرائيلية التي هي الأقدم، ذلك أن نشأتها تعود إلى زمن «مرسوم عزرا»، في زمن الاحتلال الفارسي لساحل البحر الأبيض المتوسط ونشأة مملكة القدس اليهودية في القرن الخامس قبل الميلاد. لهذه العصبية سرديتها التاريخية المتينة المبنية على تكامل في صيغة الانتماء بين الهوية الدينية والهوية القومية. لها أساطيرها التأسيسية الرمزية، في المخيال المجتمعي العام، كما لها كتبها الدينية والمذهبية المعززة لهذه الشخصية، الأمر الذي يمنحها متانة وصلابة وتماسكاً لافتاً ساعدها على اختراق العصور والاستدامة. فقد شكلت منظومة تفكير وسلوك لم يقو عليها الزمن، فتمكنت من بلوغ القرن الحادي والعشرين من دون أن تشيخ في وعي أهلها ووجدانهم.

أما تمظهراتها المتعصرنة وتلحفها بالطلاء الديمقراطي، وشرعة حقوق الإنسان، فلم يخترق جلدها، بدليل المبادئ التي تأسست عليها الدولة الإسرائيلية وسبكها لمفهوم المواطنة المحصورة بأبناء قومها حصراً. ولتبرير موقفها هذا، تلجأ العصبية الإسرائيلية إلى تذكير ما عانته من صدمات جرحية وحضارية في الأمس القريب والبعيد.

ومع أن الوقائع التاريخية شاهدة على هذا الأمر، إلا أنها تقوم منذ عام 1948 بالبناء عليها لتبرير استئثارها بالقوة بوطن عربي صغير اسمه فلسطين، وجعل شعبه يعيش منذ ذلك التاريخ صدمات جرحية لا تنقطع.

وهنا نتوقف عند إحدى خصائص العصبية كيفما جاءت، وهي طاقة النقمة والحقد الذي توليه للجهة التي تقوم بالتغلب عليها. فالغلب هو دستور العصبية، وهو، كما شرحه أستاذنا ابن خلدون، لا يعني الانتصار على المغلوب فحسب، بل أيضاً حرمانه من حقوقه واستتباعه؛ إذ يمنح بعدها بعض فتات حقوقه منحاً تحت سقف المغالبة والممانعة. فالمغالبة تأتي أولاً، وهي عسكرية الطابع ويمارسها صاحب الشوكة. أما الممانعة فتأتي ثانياً ولاحقاً وهي سياسية السبك، ويمارسها الحاجب.

بهذه اللعبة السياسية المزدوجة يتعامل الغالب مع المغلوب الذي يتحول إلى شبح سياسي لا شخصية متكاملة له، بل مجرد صورة متحركة ومستعبدة. في دولة العصبية، أي ما كان يعرف بدولة الملك قديماً، لا حقوق للمغلوب سوى البقاء على قيد الحياة تبعاً لمشيئة الغالب. أما هو فلا يتمتع إلا بواجب الطاعة المطلقة والتي لا رجعة عنها.

سجادة لا نهاية لحياكتها

العصبية الفارسية مثلها مثل العصبية الإسرائيلية، هي قديمة للغاية، ويعود تبلورها الأول إلى زمن الإمبراطورية الفارسية التي حكمت عسكرياً قسماً واسعاً من الشرق الأوسط وتخوم آسيا الشرقية.

وعليه فإن سرديتها التاريخية تقوم على أمجاد عسكرية وهيمنة مديدة على شعوب عدة، شرقاً وغرباً، بحيث إن أبخرة هذه الانتصارات تحولت مع الزمن إلى استعداد معرفي مقعر بالتفوق النوعي المستحق، وبوجود إنسان خارق في الشخصية العسكرية والسياسية على السواء.

فالجاه التاريخي والجيو- سياسي يكمن في صميم هذه العصبية، الأمر الذي يجعلها عصبية قومية في المقام الأول، على خلاف العصبية الإسرائيلية التي تقوم على مرتكز ديني تأسيسي تم ربطه بهوية قومية متخيلة. إلا أن هذه الصيغة الأولى، التي لطالما اصطبغت بها العصبية الفارسية، عادت فاستلحقت بهوية دينية مذهبية متينة منذ قرون قليلة إلى الوراء، فباتت اليوم تقوم على قاعدة صلبة من ركنين أحدهما قومي والآخر ديني.

وذلك إن دل على شيء، فعلى أن العصبية التي ما هي غير منظومة التفكير والسلوك السياسية الأقدم التي عرفها البشر في غابر الأزمان، ومن طبيعة دفاعية في الأصل، غدت مركبة مع مرور الزمن، إذ انطلقت من العشيرة إلى القبيلة فدولة الملك حيث تكرس، في التجارب كافة، ربط الشأن السياسي بالشأن الديني و/أو المذهبي. نتكلم هنا عن تجارب شرقية، لكن الأمر يصح أيضاً على مختلف التجارب الغربية التي قامت قبل الثورة الفرنسية في عام 1789. ولا بد من الإشارة إلى أن العصبية الفارسية قد عانت، مثلها مثل العصبية الإسرائيلية، من صدمات جرحية عبر التاريخ، مع فتوحات الإسكندر المقدوني كما مع الفتح الإسلامي، بمكونه العربي التأسيسي، بحيث إن الكراهية تجاه الغرب الإغريقي والغرب عموماً، تتجاور مع نقمة على العرب الذين ضربوا وزعزعوا أركان الإمبراطورية الفارسية القديمة ذات يوم. فالذاكرة الجمعية الفارسية، المعتدة بأمجادها السابقة وتفوقها الثقافي والعلمي المديد، لا تسامح حتى اليوم محطمي هذه الأحلام الماضية.

يدفعنا ذلك إلى الإشارة إلى مسألة نظرية مهمة هي أن العصبية لا تموت ولا تعترف بالزوال، بل تبقى حية كالجمر تحت الرماد طالما لم يحصل تخلي أهلها طوعاً عنها. وهذا أمر شبه مستحيل في ظل الأنظمة الاجتماعية التقليدية بسبب قيامها أصلاً على معادلات عصبية غالباً ما تكون مموهة.

كما تجدر الإشارة هنا أيضاً إلى أن مفهوم كراهية الآخر الذي يصاحب دوماً العصبيات، إنما يتخذ في الحالتين الإسرائيلية والفارسية طابعاً خاصاً، إذ إنه يجيء على نحو علني (داخلياً) أو مكتوم (خارجياً)، بمثابة انتقام حضاري عتيق.

ويوجه هذا الشعور الكاسر إلى الأغيار، أي إلى جميع الذين يقعون خارج دائرة الـ«نحن»، مع التركيز في كل مرحلة زمنية على عدو بعينه. علماً أن هذه النقمة المديدة تتحول إلى حقد حضاري عتيد يصاحب الشخصية العامة للجماعة.

وبما أن هذا الشعور يضحى موقفاً، نرى أن الحقد الحضاري المتأتي عنه يغدو حقداً مجتمعياً ونفس-اجتماعياً عارماً يدخل مبادئ التنشئة العصبية التي يصبها الأهل في البيوت على أطفالهم وأحفادهم من أهل الجماعة، الأمر الذي يزيد في الطين بلة ويجعل الحقد العصباني حقداً انتقامياً حضارياً تراكمياً أصيلاً.

آخر العنقود العصباني الشرق أوسطي

للعصبية التركية المستجدة زمنياً على اللتين سبقتاها في الإقليم، لونها الخاص وسرديتها الخاصة. فهي لا تستطيع أن تطالعنا بأساطير أو بارتباطات سماوية لكونها أفقية الطابع في بنيتها التأسيسية. فهي تقوم على التأصيل التاريخي العثماني من ضمن أطر العرق الطوراني الأصفر، واستيطان قبائل مغولية في جبال بلادها خلال حقبة ليست ببعيدة زمنياً.

لذلك تقوم على حكايات تاريخية ووقائع عسكرية أكثر مما تقوم على معطيات تأسيسية عمودية تستنجد بأصول دينية أو أسطورية مبنية. لذا فإن شخصية السلطان هي بداية ونهاية «دائرة العدالة» كما صاغها وعممها رئيس الديوان السلطاني.

فالسلطان أساس الملك، ولا شريعة من دون سلطان، والمال والعسكر هما للسلطان، بحيث إن ما جاء بعد ذلك على مستوى العقيدة الدينية، جاء سلطانياً إذا صح التعبير، ومشروطاً به. وقد أسهم هذا الاستلحاق بإنشاء ثقافة قومية ودينية سرعان ما توسع فيها دور العنصر الديني بفضل نشاط العلماء، فبات أساسياً في الشخصية المجتمعية العامة. أما العصبية التي رافقت هذا المسار، فبقيت بعد ذلك مدينة لهذه الثنائية المعرفية مع طغيان الانتماء السلطاني عليها.

ككل العصبيات عند نشأتها، أصيبت العصبية التركية في أذهان وسلوك أصحابها بصدمة جرحية بليغة، وكانت هزيمة السلطنة العثمانية على يد الحلفاء غداة الحرب العالمية الأولى في صلب هذه الصدمة التي بدلت الوقائع الجيو- سياسية، فيما عمقت الانتماء إلى الشخصية العثمانية المجيدة في نظر أصحابها. فالعصبية لا تموت بعد هزم رموزها عسكرياً، بل تغوص في عمق اللاوعي وتظهر في ثوابت السلوك بعد ذاك باستنبات الحقد الحضاري العنيد والعتيد مع الأغيار. وفي هذه الحالة يتجسد الأغيار الأعداء في كل الذين أسهموا مباشرة في سقوط السلطنة وهزيمتها على نحو مباشر (الحلفاء الغربيون) أو غير مباشر (كالذين ساندوهم ودعموهم).

لذلك تغدو الكراهية العصبية بعدها كراهية مطلقة للغير، وانطواء دفاعياً على الذات بغية اجترار حقد يراد له أن يكون حضارياً، فيما هو في أساسه نفس- اجتماعي وسياسي في مكوناته. فعملية التراكب التي تحصل في الوعي واللاوعي لأصحاب العصبية، سواء أكانت عثمانية أم فارسية أم إسرائيلية، تحاول أن تنفس عن الاستتباع أو الاستعمار السياسي والاقتصادي الذي يلي زمن الهزيمة بفائض من الاستكبار والاستعلاء الثقافي الشعبوي المعصوب والموتور.

في الثوابت

هي كثيرة ومتنوعة، وشعارها الأبرز التمويه عن مقاصدها البعيدة، فأول هذه الثوابت هو الافتراس. الافتراس الجغرافي الذي يجعل العصبية الإسرائيلية شديدة الشهية بالتوسع في اتجاه فلسطين ولبنان والأردن ومصر. صحيح أن الأمر يحصل بصعوبة جمة تفرضها القوانين والدبلوماسية الدولية، إلا أن الشهية غير مكبوتة، بل معلنة ومستندة إلى أحلام توسعية لا تزال تبدو في نظر حامليها حقيقية ومشروعة، على غرار ما كانت عليه العصبية اليابانية إبان الحرب العالمية الثانية، وقبل إرغامها على نزع أشعة الشمس الرمزية عن علمها.

فالافتراس حلم العصبيات الكبرى المستدام، وهو مبني على فائض القوة وعلى طفح عصباني انتقامي حضاري يتسم بالحقد الحضاري العرم الذي أشرنا إليه.

على خطاها تمارس العصبية الفارسية علناً شهيتها المفتوحة راهناً على ما يطلق تسميته «العواصم العربية الأربع»، أي بغداد ودمشق وصنعاء وبيروت. وتعتمد في ذلك على مخزونها العصباني الانتقامي الضامر من العرب الذي تلقي عليهم لوم ومسؤولية كسر شوكتهم الجيو- سياسية في المنطقة منذ أيام الفتح الإسلامي. وهي تلعب على تحريك عصبية الخلاف المذهبي أينما يتسنى لها على خارطة العالم العربي.

وفيما يقوم البناء العصباني الإسرائيلي والفارسي على مرتكزي القومية والدين على نحو تعارضي، بل وتناقضي، تقوم العصبية التركية بتأسيس مشروعها التوسعي العصباني على العنصر القومي بشكل أساس. غير أن شهية هذه العصبية الجيو- سياسية لا تختلف عن مثيلتيها الكبرتين في الشرق الأوسط، إذ بعد سيطرتها على لواء الإسكندرون السوري، ها هي تقوم اليوم بعملية مماثلة عبر محاولة بناء لواء إسكندرون ثان في الأراضي السورية الشمالية المحاذية لحدودها.

أي إن هذه العصبيات الثلاث تعمل جاهدة على تطويق العالم العربي المعاصر عبر إخضاعه بغير وسيلة عسكرية وسياسية وإعلامية لمشروعات توسعها. مع الإشارة إلى أنها تستند إلى عصبياتها المقعرة لتبرير مشروعية مشروعاتها، لا على القانون الدولي. فتحاول لذلك أن تلعب لعبتها تحت سقف دبلوماسية خاصة بكل واحدة منها ساعية إلى جر المناطق والعواصم التي تشتهي افتراسها عبر الاستتباع، وهو مفهوم خلدوني يشير إلى السيطرة السياسية للغالب مع ترك الحرية للمغلوب، المستتبع، من دون الانتصار عليه بالضربة القاضية.

وفي خضم تحقيق هذه العمليات التي تؤدي كلها إلى تطويق العالم العربي وإخضاعه، تقوم العصبيات الثلاث بعمليات تمويه إعلامي فضفاض وخطابة عالية النبرة وشعارات تخفي كلها غياب مشروع حضاري تقدمه للشعوب الخاضعة لشهيتها التوسعية. فقط فراغ حضاري وغياب لأي مسعى آخر هو ما يصاحب المشروعات العسكرية المباشرة أو تلك المدارة بالواسطة. فما الذي يربحه العالم العربي أو البلدان المستهدفة من مشروعات العصبيات الشرق أوسطية الجياشة التي تطوقها مستفيدة من غياب مشروع عربي جامع، كما من صراع عصبيات مستدام في سوادها الأعظم؟ لا شيء مفيد على الإطلاق.

نشير في النهاية إلى أن بلدان الطوق العصبي الكبرى تضع نفسها كلها تحت لواء الجمهورية. فهي كلها جمهوريات. ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن هذه التسمية السياسية كاذبة، لأنها توحي بأنها ترجمة لمفهوم الـ République الذي يعني حرفياً نظام الشأن العام في الأصل اللغوي والدستوري والسياسي؛ أي الشكل الحديث من السلطة الذي انبثق من الثورة الفرنسية في عام 1789 وبني على «شرعة حقوق الإنسان والمواطن» التي أعلنت في أغسطس من تلك السنة. فأي تلبية للشأن العام، المحلي والوطني، تقدمه هذه العصبيات الكبرى في ضوء التسمية الجليلة المفترضة لأنظمتها؟ وأي مشروع وطني أو حضاري جديد تعرضه على من تفتح شهيتها عليهم؟

فحداثة شعاراتها مفعمة بالتقليد والرجعية والأذى الحضاري المستور. أما إحالة كل هذه الظاهرات على الدافع الاقتصادي والهيمنة على الثروات والخيرات وبناء المقاربة على النزعة التوسعية الاقتصادية، فهو أمر غير دقيق، ذلك أن الدافع الاقتصادي مبني أصلاً على دافع معرفي، من طبيعة فكرية. لا يحرك وعي المجتمعات ذات البنيان المعرفي التقليدي، أي الاجتماعي والثقافي، إلا ما تقوم عليه في عمق وجدانها الموروث. لذلك يأتي الجاه السياسي العصبي في المقام الأول، قبل الاقتصادي، وليس العكس. ويعود الفضل في ذلك إلى عمق التجذر المعرفي العصبي في طرائق التفكير والتخطيط والتنفيذ خاصتنا.

*عالم اجتماع من لبنان

* ينشر بالتزامن معدورية أفق الإلكترونية.