اللّغات ظاهرة بشريّة ضروريّة للمجموعات والمجتمعات الإنسانيّة، أي أنّ وجود الناس في مجموعات، شخصَيْن أو أكثر، لا يتمّ إلّا بوجود لغة أو أكثر يتخاطبون بها في حياتهم الاجتماعيّة، فاللّغة ظاهرة بشريّة أصيلة لا يتمّ من دونها الوجودُ الجماعيّ لبني البشر في أشكاله الصغيرة والكبيرة (العائلات والقبائل والمُجتمعات والأُمم). يطرح هذا المقال أمرَيْن: بنود ميثاق الظاهرة اللّغويّة الذي يجعل العلاقة سليمة معها، ثمَّ يُقارِن اللّغةَ العربيّة بثلاث لغات أجنبيّة على مستوياتٍ متعدّدة.
يجوز القول إنّ ما نطرحه هنا هو إطار فكري يرتكز على أبجديّة بسيطة لإقامة الناس علاقة طبيعيّة/سليمة مع لغاتهم. تؤكِّد هذه الأبجديّة أنّ العلاقة الطبيعيّ/السليمة بين الناس ولغاتهم في مجتمعاتهم تتمثّل في ميثاقٍ ذي أربعة بنود: 1- استعمالهم لها في الحديث فقط، 2- استعمالهم لها في الكتابة فقط، 3- المعرفة الوافية باللّغة، المتمثّلة في معرفة مفرداتها والإلمام بقواعدها النحويّة والصرفيّة والإملائيّة وغيرها. يمثِّل هذا السلوك اللّغوي الشفوي والكتابي الأرضيّةَ الأساسيّةَ السليمة التي يُقيم بواسطتها الأفرادُ والمجتمعاتُ علاقةً سليمة مع لغات الأمّ أو اللّغة الوطنيّة، 4- تنشأ عن هذه العلاقة السليمة مع اللّغات ما نسمّيه «العلاقة الحميمة» مع تلك اللّغات التي تتجلّى أساسا في المواصفات النفسيّة والسلوكيّة التالية: حبٌّ للّغة والغيرة عليها والدّفاع عنها والاعتزاز بها قَبل أيّ لغة أو لغاتٍ أخرى يُمكن أن يتعلَّمها الأفراد في مُجتمعاتهم أو خارجها.
مقياس العلاقة مع اللغات
بناءً على تلك البنود الأربعة يسهل التعرُّف إلى نوعيّة العلاقة التي يمارسها الناس والمجتمعات مع لغاتهم، فالذين يلبّون بالكامل تلك البنود مع لغاتهم هُم قومٌ يتمتّعون بعلاقةٍ سليمة معها. أمّا الذين لا يلبّونها فهُم أصنافٌ متنوّعة بحسب مدى تلبيتهم أيّ عددٍ من البنود الأربعة خلال التعامُل مع لغاتهم.
أبجديّة فهم العلاقة الحميمة مع اللغات
يُساعد منظورا علمَيْ النفس والاجتماع على فَهْمِ العلاقة الحميمة التي تربط الناس والمُجتمعات باللّغات إنْ هُم استعملوها هي بالكامل فقط، شفويّا وكتابة (1+2)، في كلّ شؤون حياتهم الفرديّة والجماعيّة منذ الطفولة، وعرفوا مفرداتها وقواعدها النحويّة والصرفيّة وغيرها (3). يجوز القول بكلّ بساطة إنّ تلك العلاقة الحميمة (4) مع اللّغات الأمّ أو اللّغات الوطنيّة هي نتيجة لعمليّة التفاعُل/الاستعمال المكثّف معها، ولها الذي يُنتظَر أن يُنشئ مثل تلك العلاقة النفسيّة القويّة التي تَخلق علاقةً وثيقة ومتينة، أي حميمة مع اللّغات. وبعبارة علمَيْ النَّفس والاجتماع، فمثل ذلك التفاعُل الشديد الكثافة والتواصُل والاستعمال للّغات يؤدّي إلى ما يسمّيه هذان العِلمان «العلاقة الأوّليّة مع اللّغات»، وهي علاقة نَدِّيّة بالعواطف والشعور والتحمُّس لمصلحة اللّغات. كلّ ذلك هو حصيلة لتنشئةٍ لغويّة اجتماعيّة سليمة منذ الصغر، تقتصر على استعمال اللّغات الأمّ أو الوطنيّة على المستويَيْن الشفوي والكتابي.
ووفقاً لمُفرداتها وقواعدها النحويّة والصرفيّة الصحيحة في كلّ شؤون الحياة الفرديّة والجماعيّة في المُجتمعات، يُمكن صَوْغ مقولتنا الفكريّة في معادلتَيْن شبه حسابيّتَيْن: 1- الالتزام الكامل بالبنود الأربعة «1+2+3+4» = علاقة سليمة مع اللّغات، 2- الالتزام الجزئيّ أو عدم الالتزام الكامل بالبنود الأربعة «-1+-2+-3+-4» = علاقة غير سليمة كثيرا أو قليلا أو ما بينهما مع اللّغات.
ميزات لغة الضادّ في ميزان التحليل المُقارَن
لدى القيام بمُقارنةٍ تحليليّة بين اللّغة العربيّة وثلاث لغات أخرى غربيّة من خلال بعض المعالِم التي تختلف فيها لغة الضادّ عن اللّغات التالية: الإنجليزيّة والفرنسيّة والألمانيّة، تَبرز خريطةٌ للمعالِم التي تنفرد فيها اللّغة العربيّة عن تلك اللّغات.
أ- الجمع في اللغات الأربع
يبدأ جمْع الأسماء والنعوت والأفعال والضمائر في اللّغات الألمانيّة والفرنسيّة والإنجليزيّة من العدد 2، بينما لا تبدأ صيغة الجمع في اللّغة العربيّة إلّا في العدد 3 وما بعده، لأنّ للغةِ الضادّ صيغةَ المُثنّى المفقودة في تلك اللّغات. ومن ثمّ، فالتعبير عن اثنَيْن فيها يتمّ بكتابة 2 أو بالحروف أمام الأسماء. وهكذا، فاللّغة العربيّة تتمتّع برصيدٍ بنيوي للتعبير بدقّة تلقائيّة عن الأشياء المزدوجة من دون استعمال رقم 2 أو بكتابة اثنَيْن. إذن، يمثّل العدد 3 في لغة الضادّ بداية «الكثير». ومنه، فالواحد والاثنان قليلان. أمّا ثلاثة فكثير في اللّغة العربيّة، فالعدد 1 هو مفرد، ويتمتّع بقواعده الخاصّة به. كذلك الأمر بالنسبة إلى العدد 2 الذي له قواعده الخاصّة به، المتمثّلة في «المُثنّى». ومع العدد 3 تتغيّر قواعد اللّغة العربيّة، لتَبدأ صيغة الجمع الخاصة بـ«كثير»، ثمّ يَقع تبنّي الاتّجاه المُعاكس في تذكير الأعداد وتأنيثها، فنقول: رأيتُ ثلاث نساء وتحدّثتُ مع أربعة رجال.
ب- ألغاز العدد ثلاثة
المكانة الخاصّة البارزة للعدد ثلاثة في لغة الضادّ تَجد ما يشابهها في ميادين أخرى. ففي عِلم المسطّحات، لا يُمكن تحديد أيّة مساحة من دون ثلاث نقاط على الأقلّ. كما لا يُمكن قياس أيّ حَجْم من دون معرفة ثلاثة أبعاد: العرض والطول والارتفاع. وبسبب أهميّة العدد ثلاثة، فإنّه يَحضر في أشياء لا حصر لها على وجه الأرض، ومنها الطبيعة البشريّة الثلاثيّة الأبعاد: الجسد والروح والرموز الثقافيّة (اللّغة والفكر والدّين والمعرفة والعلم والقيَم والأعراف الثقافيّة). ويتجلّى أيضاً الحضورُ الكبير للعدد 3 بدنيا الناس في الأمثلة المختارة التالية: فلكي يُعبِّر البشر عن تأكيدهم أمرا ما نسمعهم يكرِّرون كلمةً ما ثلاث مرات، مثل: كفى كفى كفى أو لا لا لا. وتصدق أهميّة العدد ثلاثة على أنماط السلطات في الكثير من المُجتمعات: السلطة التنفيذيّة والسلطة التشريعيّة والسلطة القضائيّة. وتُولي فلسفةُ التاريخ أهميّةً كبرى للعدد 3 في تحليلها أسبابِ أحداثِ تَطوُّر تاريخ الشعوب. فطالما يقسّم المؤرِّخون تاريخَ كلّ حضارة إلى ثلاث مراحل: التخلُّف والنهضة والانحطاط. وانطلاقا من هذه الرؤية حلَّل ابن خلدون في مقدّمته مسيرة المجتمعات الإسلاميّة العربيّة، فتوالي العصبيّات على الحُكم يحدث في القاعدة العامّة كلّ ثلاثة أجيال، حيث فسَّر ظهور العصبيّات وتلاشيها إلى الشِّدّة التي يحتاجها الجيل الأوّل ليتمكّنَ من الحُكم، لكن ما يتبع ذلك لاحقا من رخاء يؤدّي إلى الترهُّل وتراخي قبضة الحُكم، ومن ثمّ زوال العصبيّة والسقوط.
ج- البنية الحَرفيّة الاقتصاديّة للعربيّة
تتكوَّن اللّغات الأربع موضوع هذا المقال من حروفٍ وحركات. فعلى سبيل المثال، تَستعمل لغةُ الضادّ أربعَ حركاتٍ، وهي الفتحة والضمّة والكسرة والسكون، بينما نجد في اللّغة الفرنسيّة، مثلا، عددا أكبر من الحركات. ونظرا لأنّ هذه الأخيرة في اللّغات الغربيّة الثلاث هي حروف وحركات في الوقت نفسه، فإنّها جزءٌ قارّ واجِب الوجود في بنية الكلمات في هذه اللّغات. أمّا في اللّغة العربيّة، فالحركات ليست حروفا، ومن ثمّ فهي صاحبة وظيفة واحدة، تتمثّل في التمكين من نطْق الحروف والكلمات. وعلى هذا الأساس يُمكن الاستغناء عن كتابة الحركات في كلمات اللّغة العربيّة.
وتقود هذه الخصائص في لغة القرآن إلى القول إنّها لغة تتمتّع كتابة كلماتها باقتصادٍ في حروفها يتفوَّق على عدد الحروف في كلمات اللغات الألمانية والفرنسية والإنجليزيّة. ويعود ذلك إلى أنّ وجود حركات لغة الضادّ في كلماتها ليس بالأمر الضروريّ والحتميّ في بِنيتها.
اختلاف اللغات في القراءة
ثمّة اختلافات بين هذه اللّغات الأربع عند القراءة، فالقارئ للّغات الفرنسيّة والإنجليزيّة والألمانيّة يُمكنه أن يقرأ قراءة سليمة وصحيحة لكلماتها وجُملها متى عرفَ حروفَها، وكيفيّة استعمال حركاتِها بغضّ النّظر عن مستواه التعليمي والثقافي، وعن فَهْمِه ما هو بصدد قراءته.
أمّا في لغة الضادّ الخالية من الحركات (أي غير المشكولة) فشروط القراءة السليمة لكلماتها وجُملها تتطلَّب من القارئ ضرورة فهْم ما هو بصدد قراءته؛ إذ من دون عمليّة الفهْم هذه لا يستطيع أن يقوم بقراءة سليمة وفقا لقواعد النحو والصرف في لغة الضاد، تتمثّل إذن بمُطالَبةِ لغةِ الضادِّ قارئَ كلماتها وجُملها الفاقدة للحركات بفَهْمِ ما يقرأ حتّى تكون قراءتُهُ خاليةً من الأخطاء، فاللّغة العربيّة تحثّ قارئها على الفهْم، وهو أمرٌ يحظى بالتقدير، لأنّ الحثّ على الفهْم يتضمَّن دعوةً إلى شيء من التفكير، وهذا الأخير هو مربط الفرس الذي يتميَّز به الإنسان عن بقيّة الكائنات. ولعلّ أكثر علماء النَّفس ابتهاجا بمُناداة لغة الضادّ لقارئها بالفهْم والتفكير في أثناء قراءته النصوص العربيّة هُم علماء النفس العقليّون/الذهنيّون Cognitive Psychologists الذين يعكفون على دراسة العمليّات والأنشطة الذهنيّة والعقليّة التي يحتضنها العقلُ البشري في حياته الواعية ونظيرتها اللّاشعوريّة.
ضرورة الوعي لمصلحة اللغة العربيّة
في مقابل ميزات اللّغة العربيّة المذكورة، يصف كتاب «لننهض بلغتنا» (مؤسّسة الفكر العربيّ - 2013) التبعيّة اللغويّة العربيّة المقيتة للغرب في العبارات التالية، إذ قال: «الدفاع عن لغتنا الوطنيّة، حصننا الأخير، يتطلَّب أيضا مواجهة ظاهرة جديدة بالغة الخطورة، وهي انتشار المدارس والجامعات الخاصّة والأجنبيّة التي تتضاءل فيها اللّغةُ العربيّة، إن لم تنعدم، وتكادُ العمليّة التعليميّة كلّها تتمّ بلغة أجنبيّة ليس في العلوم الصحيحة فقط، بل أيضا في العلوم الإنسانيّة. ففي أيّ بلدٍ آخر على الكرة الأرضيّة يحدث هذا؟!».
إنّ انفراد المُجتمعات العربيّة بهذه الظاهرة هو مجرّد وصف للواقع اللّغوي في العالَم العربي اليوم، وهذا أمر غير كافٍ لمعرفة أسباب تدنّي وضعيّة لغة الضادّ بين أهلها وفي محيطها العربيّ، على الرّغم من ميزاتها المُشار إلى بعضها في السطور السابقة في هذا المقال، فالمسألة تتطلَّب تعويضَ موقف اللّامبالاة من حال اللّغة العربيّة في أوطانها بموقفٍ مبالٍ وجدّي ومُلتزم لا يرضى بديلا عن الإصرار على الرغبة في كسب رهان فهْمٍ وتفسيرٍ عميقَيْن لغربة لغة الضادّ بين النّاطقين بها في المغرب والمشرق العربيَّيْن؛ إذ من دون تحقيق ذلك تغيب الخطوةُ الأولى الأساسيّة التي تؤهِّل الخاصّةَ والعامّةَ على حدّ سواء من الشعوب العربيّة لكي يطبعوا علاقتهم بالكامل مع لغتهم الوطنيّة، ألا وهي اللّغة العربيّة.
*عالِم اجتماع من تونس
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.
يجوز القول إنّ ما نطرحه هنا هو إطار فكري يرتكز على أبجديّة بسيطة لإقامة الناس علاقة طبيعيّة/سليمة مع لغاتهم. تؤكِّد هذه الأبجديّة أنّ العلاقة الطبيعيّ/السليمة بين الناس ولغاتهم في مجتمعاتهم تتمثّل في ميثاقٍ ذي أربعة بنود: 1- استعمالهم لها في الحديث فقط، 2- استعمالهم لها في الكتابة فقط، 3- المعرفة الوافية باللّغة، المتمثّلة في معرفة مفرداتها والإلمام بقواعدها النحويّة والصرفيّة والإملائيّة وغيرها. يمثِّل هذا السلوك اللّغوي الشفوي والكتابي الأرضيّةَ الأساسيّةَ السليمة التي يُقيم بواسطتها الأفرادُ والمجتمعاتُ علاقةً سليمة مع لغات الأمّ أو اللّغة الوطنيّة، 4- تنشأ عن هذه العلاقة السليمة مع اللّغات ما نسمّيه «العلاقة الحميمة» مع تلك اللّغات التي تتجلّى أساسا في المواصفات النفسيّة والسلوكيّة التالية: حبٌّ للّغة والغيرة عليها والدّفاع عنها والاعتزاز بها قَبل أيّ لغة أو لغاتٍ أخرى يُمكن أن يتعلَّمها الأفراد في مُجتمعاتهم أو خارجها.
مقياس العلاقة مع اللغات
بناءً على تلك البنود الأربعة يسهل التعرُّف إلى نوعيّة العلاقة التي يمارسها الناس والمجتمعات مع لغاتهم، فالذين يلبّون بالكامل تلك البنود مع لغاتهم هُم قومٌ يتمتّعون بعلاقةٍ سليمة معها. أمّا الذين لا يلبّونها فهُم أصنافٌ متنوّعة بحسب مدى تلبيتهم أيّ عددٍ من البنود الأربعة خلال التعامُل مع لغاتهم.
أبجديّة فهم العلاقة الحميمة مع اللغات
يُساعد منظورا علمَيْ النفس والاجتماع على فَهْمِ العلاقة الحميمة التي تربط الناس والمُجتمعات باللّغات إنْ هُم استعملوها هي بالكامل فقط، شفويّا وكتابة (1+2)، في كلّ شؤون حياتهم الفرديّة والجماعيّة منذ الطفولة، وعرفوا مفرداتها وقواعدها النحويّة والصرفيّة وغيرها (3). يجوز القول بكلّ بساطة إنّ تلك العلاقة الحميمة (4) مع اللّغات الأمّ أو اللّغات الوطنيّة هي نتيجة لعمليّة التفاعُل/الاستعمال المكثّف معها، ولها الذي يُنتظَر أن يُنشئ مثل تلك العلاقة النفسيّة القويّة التي تَخلق علاقةً وثيقة ومتينة، أي حميمة مع اللّغات. وبعبارة علمَيْ النَّفس والاجتماع، فمثل ذلك التفاعُل الشديد الكثافة والتواصُل والاستعمال للّغات يؤدّي إلى ما يسمّيه هذان العِلمان «العلاقة الأوّليّة مع اللّغات»، وهي علاقة نَدِّيّة بالعواطف والشعور والتحمُّس لمصلحة اللّغات. كلّ ذلك هو حصيلة لتنشئةٍ لغويّة اجتماعيّة سليمة منذ الصغر، تقتصر على استعمال اللّغات الأمّ أو الوطنيّة على المستويَيْن الشفوي والكتابي.
ووفقاً لمُفرداتها وقواعدها النحويّة والصرفيّة الصحيحة في كلّ شؤون الحياة الفرديّة والجماعيّة في المُجتمعات، يُمكن صَوْغ مقولتنا الفكريّة في معادلتَيْن شبه حسابيّتَيْن: 1- الالتزام الكامل بالبنود الأربعة «1+2+3+4» = علاقة سليمة مع اللّغات، 2- الالتزام الجزئيّ أو عدم الالتزام الكامل بالبنود الأربعة «-1+-2+-3+-4» = علاقة غير سليمة كثيرا أو قليلا أو ما بينهما مع اللّغات.
ميزات لغة الضادّ في ميزان التحليل المُقارَن
لدى القيام بمُقارنةٍ تحليليّة بين اللّغة العربيّة وثلاث لغات أخرى غربيّة من خلال بعض المعالِم التي تختلف فيها لغة الضادّ عن اللّغات التالية: الإنجليزيّة والفرنسيّة والألمانيّة، تَبرز خريطةٌ للمعالِم التي تنفرد فيها اللّغة العربيّة عن تلك اللّغات.
أ- الجمع في اللغات الأربع
يبدأ جمْع الأسماء والنعوت والأفعال والضمائر في اللّغات الألمانيّة والفرنسيّة والإنجليزيّة من العدد 2، بينما لا تبدأ صيغة الجمع في اللّغة العربيّة إلّا في العدد 3 وما بعده، لأنّ للغةِ الضادّ صيغةَ المُثنّى المفقودة في تلك اللّغات. ومن ثمّ، فالتعبير عن اثنَيْن فيها يتمّ بكتابة 2 أو بالحروف أمام الأسماء. وهكذا، فاللّغة العربيّة تتمتّع برصيدٍ بنيوي للتعبير بدقّة تلقائيّة عن الأشياء المزدوجة من دون استعمال رقم 2 أو بكتابة اثنَيْن. إذن، يمثّل العدد 3 في لغة الضادّ بداية «الكثير». ومنه، فالواحد والاثنان قليلان. أمّا ثلاثة فكثير في اللّغة العربيّة، فالعدد 1 هو مفرد، ويتمتّع بقواعده الخاصّة به. كذلك الأمر بالنسبة إلى العدد 2 الذي له قواعده الخاصّة به، المتمثّلة في «المُثنّى». ومع العدد 3 تتغيّر قواعد اللّغة العربيّة، لتَبدأ صيغة الجمع الخاصة بـ«كثير»، ثمّ يَقع تبنّي الاتّجاه المُعاكس في تذكير الأعداد وتأنيثها، فنقول: رأيتُ ثلاث نساء وتحدّثتُ مع أربعة رجال.
ب- ألغاز العدد ثلاثة
المكانة الخاصّة البارزة للعدد ثلاثة في لغة الضادّ تَجد ما يشابهها في ميادين أخرى. ففي عِلم المسطّحات، لا يُمكن تحديد أيّة مساحة من دون ثلاث نقاط على الأقلّ. كما لا يُمكن قياس أيّ حَجْم من دون معرفة ثلاثة أبعاد: العرض والطول والارتفاع. وبسبب أهميّة العدد ثلاثة، فإنّه يَحضر في أشياء لا حصر لها على وجه الأرض، ومنها الطبيعة البشريّة الثلاثيّة الأبعاد: الجسد والروح والرموز الثقافيّة (اللّغة والفكر والدّين والمعرفة والعلم والقيَم والأعراف الثقافيّة). ويتجلّى أيضاً الحضورُ الكبير للعدد 3 بدنيا الناس في الأمثلة المختارة التالية: فلكي يُعبِّر البشر عن تأكيدهم أمرا ما نسمعهم يكرِّرون كلمةً ما ثلاث مرات، مثل: كفى كفى كفى أو لا لا لا. وتصدق أهميّة العدد ثلاثة على أنماط السلطات في الكثير من المُجتمعات: السلطة التنفيذيّة والسلطة التشريعيّة والسلطة القضائيّة. وتُولي فلسفةُ التاريخ أهميّةً كبرى للعدد 3 في تحليلها أسبابِ أحداثِ تَطوُّر تاريخ الشعوب. فطالما يقسّم المؤرِّخون تاريخَ كلّ حضارة إلى ثلاث مراحل: التخلُّف والنهضة والانحطاط. وانطلاقا من هذه الرؤية حلَّل ابن خلدون في مقدّمته مسيرة المجتمعات الإسلاميّة العربيّة، فتوالي العصبيّات على الحُكم يحدث في القاعدة العامّة كلّ ثلاثة أجيال، حيث فسَّر ظهور العصبيّات وتلاشيها إلى الشِّدّة التي يحتاجها الجيل الأوّل ليتمكّنَ من الحُكم، لكن ما يتبع ذلك لاحقا من رخاء يؤدّي إلى الترهُّل وتراخي قبضة الحُكم، ومن ثمّ زوال العصبيّة والسقوط.
ج- البنية الحَرفيّة الاقتصاديّة للعربيّة
تتكوَّن اللّغات الأربع موضوع هذا المقال من حروفٍ وحركات. فعلى سبيل المثال، تَستعمل لغةُ الضادّ أربعَ حركاتٍ، وهي الفتحة والضمّة والكسرة والسكون، بينما نجد في اللّغة الفرنسيّة، مثلا، عددا أكبر من الحركات. ونظرا لأنّ هذه الأخيرة في اللّغات الغربيّة الثلاث هي حروف وحركات في الوقت نفسه، فإنّها جزءٌ قارّ واجِب الوجود في بنية الكلمات في هذه اللّغات. أمّا في اللّغة العربيّة، فالحركات ليست حروفا، ومن ثمّ فهي صاحبة وظيفة واحدة، تتمثّل في التمكين من نطْق الحروف والكلمات. وعلى هذا الأساس يُمكن الاستغناء عن كتابة الحركات في كلمات اللّغة العربيّة.
وتقود هذه الخصائص في لغة القرآن إلى القول إنّها لغة تتمتّع كتابة كلماتها باقتصادٍ في حروفها يتفوَّق على عدد الحروف في كلمات اللغات الألمانية والفرنسية والإنجليزيّة. ويعود ذلك إلى أنّ وجود حركات لغة الضادّ في كلماتها ليس بالأمر الضروريّ والحتميّ في بِنيتها.
اختلاف اللغات في القراءة
ثمّة اختلافات بين هذه اللّغات الأربع عند القراءة، فالقارئ للّغات الفرنسيّة والإنجليزيّة والألمانيّة يُمكنه أن يقرأ قراءة سليمة وصحيحة لكلماتها وجُملها متى عرفَ حروفَها، وكيفيّة استعمال حركاتِها بغضّ النّظر عن مستواه التعليمي والثقافي، وعن فَهْمِه ما هو بصدد قراءته.
أمّا في لغة الضادّ الخالية من الحركات (أي غير المشكولة) فشروط القراءة السليمة لكلماتها وجُملها تتطلَّب من القارئ ضرورة فهْم ما هو بصدد قراءته؛ إذ من دون عمليّة الفهْم هذه لا يستطيع أن يقوم بقراءة سليمة وفقا لقواعد النحو والصرف في لغة الضاد، تتمثّل إذن بمُطالَبةِ لغةِ الضادِّ قارئَ كلماتها وجُملها الفاقدة للحركات بفَهْمِ ما يقرأ حتّى تكون قراءتُهُ خاليةً من الأخطاء، فاللّغة العربيّة تحثّ قارئها على الفهْم، وهو أمرٌ يحظى بالتقدير، لأنّ الحثّ على الفهْم يتضمَّن دعوةً إلى شيء من التفكير، وهذا الأخير هو مربط الفرس الذي يتميَّز به الإنسان عن بقيّة الكائنات. ولعلّ أكثر علماء النَّفس ابتهاجا بمُناداة لغة الضادّ لقارئها بالفهْم والتفكير في أثناء قراءته النصوص العربيّة هُم علماء النفس العقليّون/الذهنيّون Cognitive Psychologists الذين يعكفون على دراسة العمليّات والأنشطة الذهنيّة والعقليّة التي يحتضنها العقلُ البشري في حياته الواعية ونظيرتها اللّاشعوريّة.
ضرورة الوعي لمصلحة اللغة العربيّة
في مقابل ميزات اللّغة العربيّة المذكورة، يصف كتاب «لننهض بلغتنا» (مؤسّسة الفكر العربيّ - 2013) التبعيّة اللغويّة العربيّة المقيتة للغرب في العبارات التالية، إذ قال: «الدفاع عن لغتنا الوطنيّة، حصننا الأخير، يتطلَّب أيضا مواجهة ظاهرة جديدة بالغة الخطورة، وهي انتشار المدارس والجامعات الخاصّة والأجنبيّة التي تتضاءل فيها اللّغةُ العربيّة، إن لم تنعدم، وتكادُ العمليّة التعليميّة كلّها تتمّ بلغة أجنبيّة ليس في العلوم الصحيحة فقط، بل أيضا في العلوم الإنسانيّة. ففي أيّ بلدٍ آخر على الكرة الأرضيّة يحدث هذا؟!».
إنّ انفراد المُجتمعات العربيّة بهذه الظاهرة هو مجرّد وصف للواقع اللّغوي في العالَم العربي اليوم، وهذا أمر غير كافٍ لمعرفة أسباب تدنّي وضعيّة لغة الضادّ بين أهلها وفي محيطها العربيّ، على الرّغم من ميزاتها المُشار إلى بعضها في السطور السابقة في هذا المقال، فالمسألة تتطلَّب تعويضَ موقف اللّامبالاة من حال اللّغة العربيّة في أوطانها بموقفٍ مبالٍ وجدّي ومُلتزم لا يرضى بديلا عن الإصرار على الرغبة في كسب رهان فهْمٍ وتفسيرٍ عميقَيْن لغربة لغة الضادّ بين النّاطقين بها في المغرب والمشرق العربيَّيْن؛ إذ من دون تحقيق ذلك تغيب الخطوةُ الأولى الأساسيّة التي تؤهِّل الخاصّةَ والعامّةَ على حدّ سواء من الشعوب العربيّة لكي يطبعوا علاقتهم بالكامل مع لغتهم الوطنيّة، ألا وهي اللّغة العربيّة.
*عالِم اجتماع من تونس
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.