أنس الرشيد

كان الرافعي قبل أن يكتب، يقرأ جزءًا من كتاب الأغاني، وجزءًا من كتب الجاحظ؛ ليتطهر بهما من دَرن الأساليب الكتابيّة الحديثة، فيضمن ألَّا تتسرّب هُجنة التراكيب إلى سطور أوراقه. إنه يصنع طقسًا يَذهب به إلى أزمان بعيدة وكتاباتٍ أصيلة، وهذا الفعل -بالعموم- يُطرِب الذاتَ المبدعة في الصنعةِ الكتابية، لكنَّ ذاكرتي تأبى إلا أن تستحضر موقِفًا قديمًا لأستاذٍ لم يستسغ أسلوبَ الرافعي، كان هذا الأستاذ -الذي أعرفه جيدًا- يُثني ركبَتيه أوقاتًا طويلةً أمام كتبِ اللغةِ وفلسفتها، والأدب وجذوره، والبلاغةِ ومجازاتها، والنحو وصروفِه، ثم النقد العربي القديم وتمنطقه، وكان متوقّد الذهن، قارئًا مُجيدًا، وشاعرًا رقيقًا، ومحاربًا شرسًا، هذا الأستاذ لمَّا قرأ أول مقالات كتابِ وحي القلم للرافعي، أغلقَ الكتابَ، وألقاه بعيدًا ثم تمعّر وجهه؛ كأنّه التقم ليمونةً دفعةً واحدة. فإذا كان هذا الأستاذ لم يرَ كتابات الرافعي إلا هرطقات أساليب حديثة، فماذا كان يفعل الطقسُ بالرافعي؟ إذا لم يُبهج أسلوبُ الرافعي أستاذًا عاشَ على كتب الجاحظ والمبرد والقالي وابن قتيبة وغيرهم فماذا فعل الطقس إذن؟ هل الرافعي تَميّز بأسلوبٍ نتجَ عن صراعٍ ذهني جدلي بين القديم والحديث، فصارت كتبه هكذا، لا قديمة ولا حديثة؟

بين هذين الحدثَين -نفي الأستاذ وإثبات الرافعي- تقع مفارقة الطقس في الحالةِ الإبداعية، فهي لم تُنتِج ما أراده الرافعي من أساليب العرب القدماء، وفي الوقت نفسه أنتجت شيئًا أراده الرافعي مختلفًا عن هُجنة التراكيب؛ لهذا نُلاحِظ أنَّ الطقسَ (المحايث) يُنتِج ما لا يعلمه الكاتبُ أو الفنان، وأما الادّعاء بأنَّ الطَّقسَ (مستقل) عن الكاتب؛ لتحضير شيءٍ معلوم فهذا سينقلنا إلى مجالِ الشَعوذة، التي تُلبّي رغبةَ النَّاسِ في البَحثِ عن الشَّخصِ الذي يعلم ابتداءً، فيُخبرها بمستقبلها، أو يُعالج داءها، والشعوذة تلتقي مع مخترعي الطقس المستقل الذي يستحضر شيئًا معلومًا؛ فيَظنُّ الناسُ أنهم نُخبة نادرة، منتقاة من قوى فوق الطبيعة. إذن الطقسُ طقسان، طقسٌ محايث يستحضر ما لا يُعرف وهذا ما جرى للرافعي فعليًا، وطقس مستقل يستحضر المعلوم وهذا ما كان يعتقده الرافعي وأخفق بالوصول إليه.

هذا التَنظير يُمكِن أن أقاربه بلوحةٍ طَرحها ياسر العظمة في مرايا، عنوانها (كيف تكتب)، بطلها روائي اسمه رضوان الدهشة، يدّعي أنه مذ كانَ طفلًا وهو مختلف عن أقرانه، فإذا كانَ الأطفالُ يتعلَّقونَ على الأشجارِ شقاوةً، فهو يصعد إلى أعلاها ليتأمَّل المغزى العميق للحياة، وهذه الطُفولة أنتجت شخصيتَه التي تستلهم بالطَّقسِ مصادرَ الإبداع، فهو مثلًا إذا أراد أن يستحضر عوالمَ الفلَّاحين، فإنه يَربط نفسَه في زريبةِ بقر لمدةِ ساعة كاملة، حتى تعلق بأنفه الروائح، ثم يَخرج ويَضع طاولةً مجاورة لخمِّ الدجاج ويبدأ بالكتابة. وبما أنَّ رضوان لا يستطيع أن يكتب ما لم يسلك هذا الطريقة كما يقول، فإنَّ الموهبة تختلف عن الشعوذة، والموهوب لا يحتاج لطقسِ مشعوذ، بل لطقسٍ يتناسب مع مزاجه الخاصّ؛ ليُنتج إبداعًا لم يُحدَّد من قَبل، وهذه قفلةُ حكايةِ رضوان الدهشة، حيث يكتشف المُشَاهِد أنَّ رضوان لا يكتب بنفسه، بل لديه كاتب مأجور، فكان كالمشعوذ الذي يضع وساطةً بينه وبين أخباره، وحين جاء الكاتبُ الحقيقي إلى رضوان ليُسلمَه الروايةَ الجديدة، استنكر رضوانُ صغر حجمها، فقال الرجلُ إنَّه يحتاج لطقسٍ خَاصٍ عند بحر اللاذقية؛ ليتسع إبداعه، فغضبَ رضوان وهدَّده باستبداله؛ لأنَّ مَن فكَّر بالطقسِ فإنَّه يُعلِن إفلاسَه. إذن الإبداع استمطار داخلي، لا خارجي كمشعوذٍ ينتظر الجنّ. وأذكر أنَّ أستاذنا في مادةِ الجغرافيا كان يقول إنَّ الناس في جميع دول العالم يسألون عن الطَقس حين يتقابلون؛ لأنَّهم يخافون من أفعاله المتطرفة، وإذ أتذكّر كلامَ الأستاذ فإني أستحضر أنَّ الكاتبَ أو الفنان ظنَّ أنَّه الإنسان الذي سيُصارع الطبيعةَ ويستثمر كنوزها لصالح الحضارة، فصنع لنفسه فكرةَ الطقس المستقل، وبما أنَّ الكاتبَ نَسيَ أنَّه فردٌ ووضعَ نفسَه مكانَ الإنسان الذي يفعل الطقس الجماعي لأغراض روحيّة، فإنَّه يكون مدّعيًا ومشعوذا كرضوان الدهشة؛ إذ الأصل في الطقس أنه جماعي، كطقس الزار، الطقسِ الذي ابتدأ مع الفراعنة، لكنَّه ارتحلَ إلى أمكنةٍ أخرى، وتبوأ مقعدًا جديدًا، فالزار السعودي مسرحٌ، ينفي فيه الراقصون- بالطار والإيقاع السامري- عن أجسادِهم ثقلَ الحياة، فيستنزلون النصَ الروحاني ليتوزّع على أجسادِ الحاضرين.

إذن الطقسُ صنعةٌ جماعية لا يُقبض على ماهيةِ النص فيه، إلا بكونه حدثًا يَظهر أثره على الأجساد، وهذا ما لا يفهمه الكاتب الطفيلي. والسُؤال: كيف انتقلَ هذا المعنى الجماعي ليكونَ صنعةً فردية تُحيل على الوحي الكتابي الإبداعي؟

للطقس الجماعي معنى خفي، يرتبط بالرجال الذين يتشاركون الحياة العامة، ويُؤلفون مساراتها، وأمَّا النساء فإنهنّ صاحبات تفرّد في الخباء، وقد كان هذا التفرد النسائي مصدرًا خصبًا لإبداعِ الرجال، لهذا نلحظ أنَّ العربَ -مثلًا- سمّوا مصدر الإبداع وادي عبقر، على أنَّه مسكن الجنّ، والنساء في ذلك التاريخ جنّ؛ لأنَّ في اللغة كل مستتر جنّي، وبهذا تكون النساء -بوصفهن متفردات في واقع حياتهنّ التاريخية، وكاتبات مبدعات في العصور الحديثة- هُنَّ من صنع الطقسَ الفردي الحقيقي الذي أزال طقوسَ المشعوذين، وبما أنَّ التاريخَ احتلّه الرجال وصنعوه على سجيتهم، ثم صُنِف هؤلاء الرجال بين نخبة وعامة، فإنًّ تحديد الإبداع استلزم -لإنقاذ فاقدي الموهبة- طلبه عن طريق طقس الشعوذة (الطقس الطفيلي).

التفاتة:

ذكر سعيد العريان أنَّ الرافعيَّ أديبُ الخاصّة، لم يكن يكتبُ الكتابةَ الصحفيّة التي يُنشئها أكثر الكُتَّاب؛ ليتملّقوا غرائز القراء بالعبارةِ المتهافتة، والقولِ المكشوف، بل يكتبُ في فروعِ الأدب قاطبة؛ ليزيد ثراءَ اللغة، فتعلو به، وأمَّا العامة فلا يعرفون الأدبَ إلا ملهاةً، لا يَنشدونه للذّةٍ عقلية، وسموِ نفس، ولكن ينشدونه لمقاومةِ الملل، وإزجاء الفراغ.