مجاهد عبدالمتعالي

عزيزي: اقرأ في «الفلسفة، علم الاجتماع، النفس، القانون، السياسة، اللغة، التاريخ، الفنون...» لكن لا تقرأ وهدفك الفهم (المدرسي)، لأنك في أقصى حالاتك ستصبح (مذاكر كويس)، اقرأ كي تتغير نفسك/عقلك، كي تفهم فهماً يدفعك إلى تجاوز ما في نفسك/عقلك... هكذا تصبح مثقفا دون الحاجة لاحتساء القهوة بمعناها الكلاسيكي أو الحديث!!.

عزيزي القارئ: فلتعلم أني أكره الربت على كتف الماضي، لأني وقد تجاوزت الخمسين، أظن بإمكاني القول: لقد عشت فيه (بما يكفي)، لا أقصد الفترة من تاريخ طلق أمي بي وحتى الآن، بل أقصد الفترة الممتدة إلى ألف سنة للوراء، أستلهم منها (كيف أمشي، كيف أشرب، كيف آكل، كيف ألبس، كيف أحب، كيف أكره، كيف أجادل، كيف أجامل، كيف أركض، كيف أقوم، كيف أقعد، كيف أنام، كيف أصحو.... لست أبالغ وصولاً إلى كيف أدخل الكنيف، ولم أنته بعد... ما زال هناك الكثير مما يهيمن عليه الماضي مما يجعل كارل يونج يستصغر نظريته أمام «واقعنا الماضوي» إلى ألف عام وراءنا حتى الآن، فما زال سؤال الخوارج لخباب بن الأرت عام (38هـ/658م) ساخناً ثائراً في عقول الكثيرين كما لو كان ليلة أمس!؟!! فترى كل المذاهب تبكي خباب، ولكنها تسأل سؤال الخوارج!؟!!؟)، وبالمقابل لا اعتراض عندي على أي جملة (عابرة فوق الزمن) بحكم طبيعتها (التجريدية) قرأتها في أي كتاب مدون منذ آلاف السنين وحتى الآن، فمشاكل أفلاطون مثلاً ومعاناته مع أهل أثينا بعد مقتل سقراط لا تعنيني، بقدر ما يعنيني تلك الروح التي تدفقت على لسان سقراط (ت 399ق.م) قولاً حكيماً (عابراً للحضارات) في: (أنا أعرف أنني لا أعرف)، كما لو كان الاعتراف بالجهل أول طريق المعرفة، فيتكثف المعنى عبر الزمن بتراكم كمي يحدث تغيراً نوعيا أكثر توصيفاً على لسان الغزالي (ت 1111م) وهو يقول في كتابه (ميزان العمل): (الشكوك هي الموصلة إلى الحق، فمن لم يشك لم ينظر ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال)، ليصبح الغزالي في شكه المنهجي وفق نطاق عصره محصوراً في التصوف الذي ينتظر (النور مقذوفاً في الصدر) ليأتي بعده ديكارت (ت 1650م) ممسكاً (عصا سباق التتابع) بتغير نوعي على تراكم ما سلف ممن عاصره مثل فرانسيس بيكون وموانع المعرفة في الأوهام الأربعة (وهم القبيلة، وهم الكهف، وهم المسرح، وهم السوق) في كتابه الأورغانون الجديد/ت 1626م، ومن لم يعاصره كالغزالي، ليطرح الكوجيتو الديكارتي: (أنا أشك، إذن أنا أفكر، إذن أنا موجود) لتطل بذرة العقلانية برأسها من خلال الرهان على (الحدس العقلي) المرتبط بمرحلة المنهج (العلمي) الذي حاوله ديكارت وفق معطيات عصره، وصولاً إلى زمننا الحديث في حمل عصا سباق التتابع من قبل (غاستون باشلار/ ت 1962) في (القطيعة المعرفية) ثم يأخذها منه على عجل (كارل بوبر/ ت 1994) سائراً إلى قمة حديثة تميز بين العلم واللاعلم في نظريته حول (القابلية للتكذيب)، فالحقيقة المطلقة مستحيلة على العلم، فالنظريات العلمية لكي تكون علمية يجب أن تكون قابلة للاختبار والتكذيب، وإذا تم تكذيبها، يتم استبدالها بنظريات أكثر دقة... وهكذا.

يمارس الحداثوي الرجعي ربتاً على كتف الماضي باِسم ابن رشد أو ابن النفيس، كما يربت خصمه على كتف الماضي باسم ابن تيمية، يجمعهم هوى واحد في (تقديس الأسلاف)، ولهذا تخيلوا أن نربت على كتف ماضينا من خلال كتب تنشغل بالأسماء العربية أو الإسلامية التي أمسكت (عصا التتابع العلمي) غافلة عن فهم الحد الأدنى مما طرحه (الإنسان) دون عقدة (إثنية أو دينية)، فيستوعب حديث سقراط عن (جهله) والغزالي في (شكه)، ومثله ديكارت ومن يليه ويليه وهكذا... بل ترانا نقع فيما هو أشد غرابة إذ نستشهد بأسماء كتب ابن رشد التي أفاد منها الغرب وهي مترجمة إلى لغاتهم المختلفة، عاجزين عن الإفادة منها (حتى الآن) وهي بلغتنا، فعن أي عقل نتحدث يا جابري؟!! ولن أرهق القارئ بأسلوب وطريقة جورج طرابيشي في (نقد نقد العقل العربي) ذلك الأسلوب الذي أسميه (عند نحتنا اللغة الإنجليزية) باِسم (Microism)، بل سأنظر لما طرحه الجابري للأنواع الثلاثة (البياني، البرهاني، العرفاني) وفق نظرة مقابلة أسميها ماكروزمية (Macroism) لأصل من خلال هذه النظرة إلى تساؤل يمس واقعنا فأقول: هل نتحدث عن العقل البياني المتورم بسبب جرحه النرجسي في سقوط الخلافة العثمانية حتى تحول إلى (إيديولوجيا إسلامية تزعم الأصالة)؟! أم نتحدث عن العقل البرهاني المتورم بسبب جرحه النرجسي في سايكس بيكو والتحرر من الاستعمار حتى تحول إلى (إيديولوجيا قومية تزعم المعاصرة)؟! أم نتحدث عن العقل العرفاني الذي غفلنا عنه وها هو بدأ يتورم بعد سقوط الإيديولوجيا الأممية (إسلامية، قومية) لنراه متزبباً بعد أن تحصرم على يد إخوته الأيديولوجيين (إسلامي، قومي) فيظهر على شكل (تصوف سوفسطائي) يزعم من خلال (فلسفة اللغة فقط/خيمياء حجر الفلاسفة) أنه سيحول المعادن الخسيسة إلى ذهب/طه عبدالرحمن نموذجاً (بدأ الآن يمارس الشعبذة البصرية كإضافة تعبيرية من خلال الأزياء: عبر لبس العمامة مع ربطة العنق؟!!).

كيف نتوهم أن (خيمياء اللغة) ستحقق التراكم التاريخي المنجب للتغير النوعي الذي رأيناه في أوروبا عبر حروب أنضجت واقعها الذي كان يخلط الديني بالسياسي لتسفك دماء بعضها حرباً لمائة عام (1337م/1453م)، ثم حرب الثلاثين عاما (1618م/1648م)، فكانت اتفاقية وستفاليا (1648م) لتكون العلمانية نتيجة طبيعية لنضج العقل الإنساني في الفصل ما بين واجب الشراكة الإنسانية على الأرض، وواجب الإنسان كفرد مع السماء، ونحن منذ ألف عام للتو نفك حروف الأبجدية في تحرير العقل العربي من قيد يأتي على لسان الإخوان المسلمين كحنين مازوخي إلى (خلافة عثمانية/لعجم أتراك) أو عروبة مستخمنة إلى (بابك الخرمي/عجم فرس) بعد قرن من (حركات التحرر العربي في سبيل الاستقلال الوطني)، كأنما ظاهرنا ناضج في الاستغناء عن تراث (الأحكام السلطانية) لنقع في براثن (الأنظمة العسكرية الديكتاتورية) لتعيش الشعوب العربية مسغبة أممية، فتغامر بالأكل من شجرة (الربيع العربي) والثمن (انكشاف السوءة والخوف بعد الأمن) لاجئين بين دول العالم هنا وهناك، باحثين عن ورقة توت تستر العورة، فما أشد اللعنة وأغلى الثمن على من خالف تعاليم الرب في (الأكل من الشجرة المحرمة)، وللتاريخ مكره، بدم العبيد حيناً، وبدم السادة أحيانا، أمَّا حرية الفكر فلن تولد إلا من رحم (العقل الشكاك).... صَه: لا يسمعك (العقل العاقر) وأنت تنشد: (من نحن، عشاق النهار، نحيا، نحب، نخاصم الأشباح، نحيا في انتظار، سنظل نحفر في الجدار، إما فتحنا ثغرة للنور، أو متنا على وجه الجدار... ولنا مع الجدب العقيم.. محاولات واختبار.. ). العلمانية نتيجة طبيعية لنضج العقل الإنساني في الفصل ما بين واجب الشراكة الإنسانية على الأرض، وواجب الإنسان كفرد مع السماء.