يحدث أن تعلو المناداة بـ"الفردانية" عبر تتالي العصور، وتزداد هذه المناداة في عصرنا الراهن ، ربما بحثا عن صون الذات ، واخفائها عما يقلقها ويثير الضجر في حوافها، أو في عمقها بصورة أدق .
الفرنسي " دافيد لوبروتون" يتتبع في كتابه " اختفاء الذات عن نفسها" المسالك المتعددة التي تنهجها الذات لاختفائها، واستراتيجيات معاصرينا لكي يندسوا من بين ثغرات النسيج الاجتماعي، كي يولدوا من جديد في صيغة أخرى، أو كي يمّحوا في الغياب والعزلة... وهي إغراءات متعددة لكي يتخلصوا من إكراهات هوية تثقل كاهلهم في بعض الأحيان.
مع تقليب صفحات الكتاب - ترجمته للعربية زكية البدور، مراجعة: عبد السلام بنعبد العالي- تتقلب وجوه سعيدة وأخرى شقية. وما يستوقفك كقارئ عربي قول المؤلف: " كان طموحنا هو أن نقف على بعض أشكال الامحاء، في إطار مجتمعاتنا الغربية، حيث غدا الوجود أقل قسوة من ذي قبل، ولكن حيث صارت مهمة أن تكون فردا، مهمة صعبة بالنسبة إلى عدد كبير من معاصرينا، مهما كانت وضعيتهم الاجتماعية أومرجعياتهم الثقافية" .. .. ليثير بقوله هذا/ هنا : وماذا عن مجتمعاتنا العربية؟ .. سؤال!
الأنوريكسيا
توزعت صفحات الكتاب الـ 266 صفحة بين موضوعات تضمنت عناوين ( ألا تعود أحدا ..الحياة اللاشخصية .. لا مبالاة .. بيسوا: التعدد طريقا نحو اللا أحد من لورنس الجزيرة العربية إلى ج. . روس.. طرق متسترة للاختفاء .. الاختفاء في النوم .. الباشانكو أو حيل الإمحاء التعب المنشود ... الانهيار .. اكتئاب . . شخصيات متعددة ... الانغماس في نشاط من الأنشطة .. أشكال الاختفاء الذاتي في مرحلة المراهقة، محو إكراهات الهوية، تيهان المكان، تيهان عن الذات في قلب البياض، الانزلاق في لانهائية الافتراضي .. الاختفاء في الآخر، نشوة الامتناع عن الطعام "الأنوريكسيا"، التخدير سعيا وراء الغيبوبة، المضاد للمؤثرات النفسانية .. سعي وراء حالة الإغماء .. اختفاء وعودة.. الزهايمر، داء تلف الذاكرة: الاختفاء من الوجود الذاتي).
هويات معاصرة عسيرة
في فصل تحت هذا العنوان يؤكد المؤلف أنه ( يثقل علينا وجودنا في بعض الأحيان. فنرغب في أن نتحرَّر، ولو لمدة محدودة، من الضرورات التي ترتبط به. فكما لو أننا نمنح أنفسنا استراحة من أنفسنا كي نستعيد أنفاسنا، ونخلد إلى الراحة. إذا كانت ظروف عيشنا بلا شك أفضل من ظروف عيش أجدادنا، فإنها لا تعفينا مما هو أساس، أي أن نعطي معنى وقيمة لوجودنا، وأن نشعر بالارتباط بالآخرين، ونحس بأن لنا مكانا ضمن الروابط الاجتماعية. عندما يتّخذ المعنى طابعًا فرديًّا، فيحرر من التقاليد والقيم المشتركة، فإنّه يرفع كل سلطة. فيصبح كل فرد سيد نفسه، ولا يكون عليه أن يقدم الحساب إلا لذاته. إنَّ تفكك الروابط الاجتماعية يعزل كل فرد، ويجعله مسؤولا عن حريته، وعن التمتع باستقلاله الذاتي، أو أنه، يعمل، على العكس من ذلك، على رده إلى الإحساس بالنقص والفشل الشخصي) .
ولأن لذة العيش غير متوفرة على الدوام، يطمح كثير من معاصرينا إلى تخفيف الضغوط التي تُثقل كاهلهم، وإلى إلغاء ذلك الجهد الذي ينبغي بذله دون انقطاع لكي يظل المرء محتفظا بسلامته النفسية، وهو ما يوضحه " لوبروتون" مضيفا : " إن الفرد الذي لا يتوفر على إمكانات باطنية قوية لكي يتأقلم ويضفي على الأحداث دلالات وقيما، والذي تنقصه الثقة الكافية في نفسه، يشعر أنه عرضة للفشل، فيكون عليه أن يكون سند نفسه لكونه لم يتلق السند من الجماعة التي ينتمي إليها. وغالبا ما يغرق في جو من التوتر والقلق والارتياب، ما يجعل حياته عسيرة".
التعرف على الجيران
مع نهايات القرن العشرين ، تصدر ( مفهوم الهوية) اهتمام الدراسات الاجتماعية والنفسية، وهو ما دفع مؤلف الكتاب للإقرار بذلك في قوله " لقد غدت الهوية مفهوما أساسيا لمساءلة كل فرد، ومساءلة مجتمعاتنا الغربية، لأن تلك الهوية، هي اليوم في أزمة، كما أنها تغذي ارتيابا جذريا حول استمرار الذات ومتانتها».
لقد اختفت الشفافية بين مختلف مؤثرات التنشئة الاجتماعية والذاتية. فإذا ما أراد الفرد أن يحافظ على مكانه ضمن الروابط الاجتماعية، فإن ذلك يقتضي توترا وجهدا كبيرا. إن السرعة، وتدفّق الأحداث، وهشاشة الشغل، والانتقالات المتعددة، كل هذه الأمور تحول دون نشأة علاقات متميزة مع الآخرين، فترمي الفرد في العزلة. وحده تواصل الزمن، ومتانة الروابط الاجتماعية، وتجذرها، وحدها بإمكانها أن تتيح الفرصة لإقامة صداقات دائمة، وبالتالي، أشكالا من الاعتراف على المستوى اليومي. فالعلاقات الاجتماعية عن قرب، على سبيل المثال، تتم بكيفية أكثر سهولة وسيولة، وتكون سريعة الزوال وسطحية، بفعل الحركة الدائبة لساكني الشقق في الدرب أو في الحي. فيصبح من الصعب التعرف على الجيران. ويغدو الفرد الحديث غير مشدود إلى شيء بعينه، فهو يطلب الآخرين، ولكنه يطلب كذلك بُعدهم عنه.
فشل الفرد في التمسك بجسده
أطلق " لوبروتون" اسم " البياض" على حالة غياب الذات عن نفسها، مهما كانت درجتها حدةً. ذاكرا:
" إنها انفصال عن الذات، بشكل أو بآخر، نظرا لما يلقاه المرء من صعوبة أو من عقوبة كي يكون هو ذاته. في جميع الأحوال، تكون هناك رغبة في خفت الضغوط. الوجود لا يُعطى بيسر، وغالبا ما يكون مصدر عناء وتعب. حينئذ، يكون البياض استجابة للشعور بالتشبع، وبأنّ الفرد قد امتلأ عن آخره. إنه بحث عن علاقة مخفّفة مع الآخرين، وهو مقاومة تواجه مستلزمات بناء هوية في سياق النزعة الفردانية الديمقراطية للمجتمعات الغربية. بين الروابط الاجتماعية وبين العدم، ترسم منطقة وسيطة، وكيفية من افتعال الموت للحظة. في بعض الأحيان، فإن الاكتئاب والإرهاق، وانهيار الرابط المهم بالآخرين، وبالحياة الشخصية، كل هذه الأمور تعمل على تدمير كل نزعة نرجسية، فيفشل الفرد في التمسك بجسده، وتخار قواه بشكل مؤلم. يختفي المعنى، ويحيط الفراغ بالذات، إلا أن الموت لا تزال بعيدة. ليس الجسد وحده هو الذي يظلّ معلقا لوقت محدود، بل الفرد في كليته، وفي أفكاره على وجه الخصوص، ومشاريعه وعلاقته بالعالم. يتوقف عالم التمثلات التي تراوده بشكل دائم ويختل، وتنفصل واسطة المعنى. إنه يختفي في ما تطلق عليه اللغة الإنجليزية المكان المهجور، الفراغ. إنه يحافظ على وجوده كصفي نوارس بيضاء كي لا يضيع، أو يتعرض لخطر الانضواء، والتأثر بالعالم.
وهو يُقيم في لا مبالاة الأشياء، مرتاحًا لمجهوده في أن يكون هو ذاتَه، وفي بعض الأحيان لا يعود يدري حقا من هو، ولا أين يوجد، لا يعود يتحّمل أيّ مسؤولية نحو الآخرين أو نحو وجوده. لا يعود يأبه بالعالم، إنّه يتيه في مكان مجهول، لكي يستعيد أنفاسَه.
الحياة اللا شخصية
في بعض حكايات الحياة، يؤدي تفكك معين، قطيعة، فقدان قريب، فصل أو إرهاق، إلى انفصال تدريجي عن الوسط العائلي. لم يعد الفرد يشعر بمكانه، إذ لطالما أحس بأنه مستبعَد، لكنه كان يحاول أن يتلاءم، وفي تلك المرة، تخار قواه، أو أنه لم يكن قط قادرا على ذلك. ينفلت العالم من بين يديه. حينذاك، يهجر عالمه المهني أو المنزلي، فيمّحي، ولا يعود يغادر البيت إلا نادرا، كما لا يعود مهتما بمحيطه، ولا حتى بشؤونه الخاصة. إنه يلغي العالم من حوله. يبتعد الآخرون بدورهم، إذ تضعف جدوى مخالطته، أو أنهم ينزعجون من حال وجوده دوما في منأى عنهم. تنتهي رغبتهُ في أن يكون ذا شأن بالنسبة إلى الرباط الاجتماعي، أو بالنسبة إلى أسرته، فيتنازل، عن وجوده شاعرا بأنه يحيا مثقلا بالوجود. إنه هنا من غير أن يكون. لقد تخلّى عن شخصيته القديمة، فأصبح يتعذر التعرف عليه عمدا.
يتخلى البعض على هذا النحو عن مراكز ثقلهم، فيدَعون أنفسهم تتهاوى في اللامكان. فكأنهم يعملون على نفي ولادتهم، ويتخلصون من طبقات هويتهم كي يقلّصوها إلى أدنى درجة، ليس من أجل بدء حياة جديدة وبعث جديد، وإنّما من أجل التنحي بتكتم. عندما يتوفى البعض، فإنهم يكونون قد اختفوا منذ زمان مضى، ولا يعود الموت بالنسبة إليهم إلا إجراء شكليا.
في بعض الأحيان، لا يجد الفرد مكانه في العالم، فيحس بأنه مختلف، وأنه غير معني كثيرا بالحركات التي تجري من حوله. بما أنه يكون غارقا في منفى باطني، مستبعدا من الحياة الاجتماعية حتى ولو قبل المشاركة فيها بحد أدنى، فإنه يفصل عن عالم الآخرين، فيقتصر على العيش في عالمه الخاص.
حينها يغدو الفرد منفصلا، لامباليا، إلا أنه هنا من غير أن يشعر بأنّ عليه أن يشارك. مواجهةً لحركات العالم هذه، التي يعجز عن متابعتها، يطالب بالحق في الامتناع، وبالصمت، والامحاء والانسحاب. العيش في نطاق الحياة الاجتماعية المشتركة يشكل بالنسبة إليه مطلبا مضنيا. لذا ينعزل، ولا يغادر البيت إلا نادرا، تفاديا لكل لقاء إن لم يحس أن في مقدوره مواجهته، فيدخر بذلك قواه الباطنية، ويصبح ناسكا ضمن الحشد. إنه يظل يظهر في المجال، إلا أنه يمتنع عن المشاركة. ينتابه الإحساس أنه لم يعد لديه ما يعطيه.
دافيد لوبروتون (بالفرنسية: David Le Breton)
مواليد 26 أكتوبر 1953
أنثروبولوجي وعالم اجتماع فرنسي.
أستاذ بجامعة ستراسبورغ
عضو في المعهد الجامعي الفرنسي
باحث في مختبر الديناميات الأوروبي
متخصص في تمثيل الجسم البشري ووضعه في الاعتبار، وقد درسه بشكل خاص من خلال تحليل السلوك المحفوف بالمخاطر.
تكتسي أبحاث لوبروتون، أهمية خاصة، ضمن حقل العلوم الاجتماعية المعاصرة
عرف باهتمامه بمجالات هامشية، لا ينتبه لها علماء الأنثروبولوجيا، وعلماء الاجتماع إلا فيما ندر، من بينها بحثه «تجربة الألم».
تخرج في علم نفس الأمراض في أنجيه وباريس. بعد DESS
حصل في عام 1987 على درجة الدكتوراه في علم الاجتماع.
بدأ حياته المهنية في 1981 محاضرا في العديد من الجامعات.
درّسَ علم الاجتماع عام 1989 في جامعة ستراسبورغ، من 1992 إلى 1995 في جامعة غرب باريس نانتير لاديفونس.
نشر روايته الأولى «الموت على الطريق» التي نالت جائزة بولار ميشيل لوبرون
الفرنسي " دافيد لوبروتون" يتتبع في كتابه " اختفاء الذات عن نفسها" المسالك المتعددة التي تنهجها الذات لاختفائها، واستراتيجيات معاصرينا لكي يندسوا من بين ثغرات النسيج الاجتماعي، كي يولدوا من جديد في صيغة أخرى، أو كي يمّحوا في الغياب والعزلة... وهي إغراءات متعددة لكي يتخلصوا من إكراهات هوية تثقل كاهلهم في بعض الأحيان.
مع تقليب صفحات الكتاب - ترجمته للعربية زكية البدور، مراجعة: عبد السلام بنعبد العالي- تتقلب وجوه سعيدة وأخرى شقية. وما يستوقفك كقارئ عربي قول المؤلف: " كان طموحنا هو أن نقف على بعض أشكال الامحاء، في إطار مجتمعاتنا الغربية، حيث غدا الوجود أقل قسوة من ذي قبل، ولكن حيث صارت مهمة أن تكون فردا، مهمة صعبة بالنسبة إلى عدد كبير من معاصرينا، مهما كانت وضعيتهم الاجتماعية أومرجعياتهم الثقافية" .. .. ليثير بقوله هذا/ هنا : وماذا عن مجتمعاتنا العربية؟ .. سؤال!
الأنوريكسيا
توزعت صفحات الكتاب الـ 266 صفحة بين موضوعات تضمنت عناوين ( ألا تعود أحدا ..الحياة اللاشخصية .. لا مبالاة .. بيسوا: التعدد طريقا نحو اللا أحد من لورنس الجزيرة العربية إلى ج. . روس.. طرق متسترة للاختفاء .. الاختفاء في النوم .. الباشانكو أو حيل الإمحاء التعب المنشود ... الانهيار .. اكتئاب . . شخصيات متعددة ... الانغماس في نشاط من الأنشطة .. أشكال الاختفاء الذاتي في مرحلة المراهقة، محو إكراهات الهوية، تيهان المكان، تيهان عن الذات في قلب البياض، الانزلاق في لانهائية الافتراضي .. الاختفاء في الآخر، نشوة الامتناع عن الطعام "الأنوريكسيا"، التخدير سعيا وراء الغيبوبة، المضاد للمؤثرات النفسانية .. سعي وراء حالة الإغماء .. اختفاء وعودة.. الزهايمر، داء تلف الذاكرة: الاختفاء من الوجود الذاتي).
هويات معاصرة عسيرة
في فصل تحت هذا العنوان يؤكد المؤلف أنه ( يثقل علينا وجودنا في بعض الأحيان. فنرغب في أن نتحرَّر، ولو لمدة محدودة، من الضرورات التي ترتبط به. فكما لو أننا نمنح أنفسنا استراحة من أنفسنا كي نستعيد أنفاسنا، ونخلد إلى الراحة. إذا كانت ظروف عيشنا بلا شك أفضل من ظروف عيش أجدادنا، فإنها لا تعفينا مما هو أساس، أي أن نعطي معنى وقيمة لوجودنا، وأن نشعر بالارتباط بالآخرين، ونحس بأن لنا مكانا ضمن الروابط الاجتماعية. عندما يتّخذ المعنى طابعًا فرديًّا، فيحرر من التقاليد والقيم المشتركة، فإنّه يرفع كل سلطة. فيصبح كل فرد سيد نفسه، ولا يكون عليه أن يقدم الحساب إلا لذاته. إنَّ تفكك الروابط الاجتماعية يعزل كل فرد، ويجعله مسؤولا عن حريته، وعن التمتع باستقلاله الذاتي، أو أنه، يعمل، على العكس من ذلك، على رده إلى الإحساس بالنقص والفشل الشخصي) .
ولأن لذة العيش غير متوفرة على الدوام، يطمح كثير من معاصرينا إلى تخفيف الضغوط التي تُثقل كاهلهم، وإلى إلغاء ذلك الجهد الذي ينبغي بذله دون انقطاع لكي يظل المرء محتفظا بسلامته النفسية، وهو ما يوضحه " لوبروتون" مضيفا : " إن الفرد الذي لا يتوفر على إمكانات باطنية قوية لكي يتأقلم ويضفي على الأحداث دلالات وقيما، والذي تنقصه الثقة الكافية في نفسه، يشعر أنه عرضة للفشل، فيكون عليه أن يكون سند نفسه لكونه لم يتلق السند من الجماعة التي ينتمي إليها. وغالبا ما يغرق في جو من التوتر والقلق والارتياب، ما يجعل حياته عسيرة".
التعرف على الجيران
مع نهايات القرن العشرين ، تصدر ( مفهوم الهوية) اهتمام الدراسات الاجتماعية والنفسية، وهو ما دفع مؤلف الكتاب للإقرار بذلك في قوله " لقد غدت الهوية مفهوما أساسيا لمساءلة كل فرد، ومساءلة مجتمعاتنا الغربية، لأن تلك الهوية، هي اليوم في أزمة، كما أنها تغذي ارتيابا جذريا حول استمرار الذات ومتانتها».
لقد اختفت الشفافية بين مختلف مؤثرات التنشئة الاجتماعية والذاتية. فإذا ما أراد الفرد أن يحافظ على مكانه ضمن الروابط الاجتماعية، فإن ذلك يقتضي توترا وجهدا كبيرا. إن السرعة، وتدفّق الأحداث، وهشاشة الشغل، والانتقالات المتعددة، كل هذه الأمور تحول دون نشأة علاقات متميزة مع الآخرين، فترمي الفرد في العزلة. وحده تواصل الزمن، ومتانة الروابط الاجتماعية، وتجذرها، وحدها بإمكانها أن تتيح الفرصة لإقامة صداقات دائمة، وبالتالي، أشكالا من الاعتراف على المستوى اليومي. فالعلاقات الاجتماعية عن قرب، على سبيل المثال، تتم بكيفية أكثر سهولة وسيولة، وتكون سريعة الزوال وسطحية، بفعل الحركة الدائبة لساكني الشقق في الدرب أو في الحي. فيصبح من الصعب التعرف على الجيران. ويغدو الفرد الحديث غير مشدود إلى شيء بعينه، فهو يطلب الآخرين، ولكنه يطلب كذلك بُعدهم عنه.
فشل الفرد في التمسك بجسده
أطلق " لوبروتون" اسم " البياض" على حالة غياب الذات عن نفسها، مهما كانت درجتها حدةً. ذاكرا:
" إنها انفصال عن الذات، بشكل أو بآخر، نظرا لما يلقاه المرء من صعوبة أو من عقوبة كي يكون هو ذاته. في جميع الأحوال، تكون هناك رغبة في خفت الضغوط. الوجود لا يُعطى بيسر، وغالبا ما يكون مصدر عناء وتعب. حينئذ، يكون البياض استجابة للشعور بالتشبع، وبأنّ الفرد قد امتلأ عن آخره. إنه بحث عن علاقة مخفّفة مع الآخرين، وهو مقاومة تواجه مستلزمات بناء هوية في سياق النزعة الفردانية الديمقراطية للمجتمعات الغربية. بين الروابط الاجتماعية وبين العدم، ترسم منطقة وسيطة، وكيفية من افتعال الموت للحظة. في بعض الأحيان، فإن الاكتئاب والإرهاق، وانهيار الرابط المهم بالآخرين، وبالحياة الشخصية، كل هذه الأمور تعمل على تدمير كل نزعة نرجسية، فيفشل الفرد في التمسك بجسده، وتخار قواه بشكل مؤلم. يختفي المعنى، ويحيط الفراغ بالذات، إلا أن الموت لا تزال بعيدة. ليس الجسد وحده هو الذي يظلّ معلقا لوقت محدود، بل الفرد في كليته، وفي أفكاره على وجه الخصوص، ومشاريعه وعلاقته بالعالم. يتوقف عالم التمثلات التي تراوده بشكل دائم ويختل، وتنفصل واسطة المعنى. إنه يختفي في ما تطلق عليه اللغة الإنجليزية المكان المهجور، الفراغ. إنه يحافظ على وجوده كصفي نوارس بيضاء كي لا يضيع، أو يتعرض لخطر الانضواء، والتأثر بالعالم.
وهو يُقيم في لا مبالاة الأشياء، مرتاحًا لمجهوده في أن يكون هو ذاتَه، وفي بعض الأحيان لا يعود يدري حقا من هو، ولا أين يوجد، لا يعود يتحّمل أيّ مسؤولية نحو الآخرين أو نحو وجوده. لا يعود يأبه بالعالم، إنّه يتيه في مكان مجهول، لكي يستعيد أنفاسَه.
الحياة اللا شخصية
في بعض حكايات الحياة، يؤدي تفكك معين، قطيعة، فقدان قريب، فصل أو إرهاق، إلى انفصال تدريجي عن الوسط العائلي. لم يعد الفرد يشعر بمكانه، إذ لطالما أحس بأنه مستبعَد، لكنه كان يحاول أن يتلاءم، وفي تلك المرة، تخار قواه، أو أنه لم يكن قط قادرا على ذلك. ينفلت العالم من بين يديه. حينذاك، يهجر عالمه المهني أو المنزلي، فيمّحي، ولا يعود يغادر البيت إلا نادرا، كما لا يعود مهتما بمحيطه، ولا حتى بشؤونه الخاصة. إنه يلغي العالم من حوله. يبتعد الآخرون بدورهم، إذ تضعف جدوى مخالطته، أو أنهم ينزعجون من حال وجوده دوما في منأى عنهم. تنتهي رغبتهُ في أن يكون ذا شأن بالنسبة إلى الرباط الاجتماعي، أو بالنسبة إلى أسرته، فيتنازل، عن وجوده شاعرا بأنه يحيا مثقلا بالوجود. إنه هنا من غير أن يكون. لقد تخلّى عن شخصيته القديمة، فأصبح يتعذر التعرف عليه عمدا.
يتخلى البعض على هذا النحو عن مراكز ثقلهم، فيدَعون أنفسهم تتهاوى في اللامكان. فكأنهم يعملون على نفي ولادتهم، ويتخلصون من طبقات هويتهم كي يقلّصوها إلى أدنى درجة، ليس من أجل بدء حياة جديدة وبعث جديد، وإنّما من أجل التنحي بتكتم. عندما يتوفى البعض، فإنهم يكونون قد اختفوا منذ زمان مضى، ولا يعود الموت بالنسبة إليهم إلا إجراء شكليا.
في بعض الأحيان، لا يجد الفرد مكانه في العالم، فيحس بأنه مختلف، وأنه غير معني كثيرا بالحركات التي تجري من حوله. بما أنه يكون غارقا في منفى باطني، مستبعدا من الحياة الاجتماعية حتى ولو قبل المشاركة فيها بحد أدنى، فإنه يفصل عن عالم الآخرين، فيقتصر على العيش في عالمه الخاص.
حينها يغدو الفرد منفصلا، لامباليا، إلا أنه هنا من غير أن يشعر بأنّ عليه أن يشارك. مواجهةً لحركات العالم هذه، التي يعجز عن متابعتها، يطالب بالحق في الامتناع، وبالصمت، والامحاء والانسحاب. العيش في نطاق الحياة الاجتماعية المشتركة يشكل بالنسبة إليه مطلبا مضنيا. لذا ينعزل، ولا يغادر البيت إلا نادرا، تفاديا لكل لقاء إن لم يحس أن في مقدوره مواجهته، فيدخر بذلك قواه الباطنية، ويصبح ناسكا ضمن الحشد. إنه يظل يظهر في المجال، إلا أنه يمتنع عن المشاركة. ينتابه الإحساس أنه لم يعد لديه ما يعطيه.
دافيد لوبروتون (بالفرنسية: David Le Breton)
مواليد 26 أكتوبر 1953
أنثروبولوجي وعالم اجتماع فرنسي.
أستاذ بجامعة ستراسبورغ
عضو في المعهد الجامعي الفرنسي
باحث في مختبر الديناميات الأوروبي
متخصص في تمثيل الجسم البشري ووضعه في الاعتبار، وقد درسه بشكل خاص من خلال تحليل السلوك المحفوف بالمخاطر.
تكتسي أبحاث لوبروتون، أهمية خاصة، ضمن حقل العلوم الاجتماعية المعاصرة
عرف باهتمامه بمجالات هامشية، لا ينتبه لها علماء الأنثروبولوجيا، وعلماء الاجتماع إلا فيما ندر، من بينها بحثه «تجربة الألم».
تخرج في علم نفس الأمراض في أنجيه وباريس. بعد DESS
حصل في عام 1987 على درجة الدكتوراه في علم الاجتماع.
بدأ حياته المهنية في 1981 محاضرا في العديد من الجامعات.
درّسَ علم الاجتماع عام 1989 في جامعة ستراسبورغ، من 1992 إلى 1995 في جامعة غرب باريس نانتير لاديفونس.
نشر روايته الأولى «الموت على الطريق» التي نالت جائزة بولار ميشيل لوبرون