دارتْ معركةٌ أدبيّةٌ في القرن الماضي بين عَلَمَيْن كبيرَيْن هُما طه حسين وعبّاس محمود العقّاد حول الثقافتَيْن اللّاتينيّة (ممثَّلةً بفرنسا) والأنغلوسكسونيّة (ممثَّلةً بإنكلترا). دافعَ الأوّل عن اللّاتينيّة والثاني عن الأنغلوسكسونيّة. وكانت المعركة تشمل كلَّ مناحي الثقافة، كأنّها معركة بين قوميّتَيْن. ولم يتطرّق المفكّران لناحية الانتشار والانحسار، مع أنّ الثقافة، بكلّ فروعها، لا تتطوّر دائماً على نحوٍ متصاعد.
كانت المعركةُ أشبه بدعوةٍ انتخابيّة، على القارئ أن يقترعَ لواحدةٍ من الثقافتَيْن، أو أشبه بعقارَيْن لمرضٍ واحد، وعلى القارئ أن يختارَ العقار الذي يشفي أسرع أو أوسع من غيره. والاثنان كانا على حقّ من حيث إنّ الشرق العربي كان من أهمّ المتأثّرين بهاتَيْن الثقافتَيْن، اللّتَيْن حتّى الآن ما تزالان مؤثّرتَيْن في شرقنا، وقلّما نافَسهما مُنافسٌ آخر. قد يقول قائل إنّ الروسيّة حقَّقت تقدّماً، أو إنّ الأدب التشيكي أو البولوني، أو أيّ أدبٍ آخر خارج اللّاتينيّة والأنغلوسكسونيّة، حقَّق تقدّماً مرموقاً.... صحيح، ولا أحد ينكر ذلك. لكنّ هذا التقدّم لم يكُن على حساب هاتَيْن الثقافتَيْن القويّتَيْن، إذ كانت أيّ ثقافة أدبيّة وافدة تصطفّ إلى جانب هاتَيْن الثقافتَيْن، فيغتني المتلقّي. وما نريد أن نبيّنه في بحثنا هذا ينحصر في أهمّ الظروف الفاعلة في الانتشار والانحسار بين هاتَيْن الثقافتَيْن فقط، بعيداً عن التقييم، فكلّ وافدٍ ثقافي يُغني المعدة السليمة، ويزيد الضعيفة سقاماً.
المعايير
لا يُمكن لأحد أن يركن إلى معايير ثابتة في تحديد الانتشار. فعلى سبيل المثال لا يُمكننا القول إنّ انتشار اللّغة يكفي لتحديد انتشار الثقافة الأدبيّة. فقد انتشرتِ اللّغةُ التركيّة في آسيا وأفريقيا وأوروبا، في وقتٍ من الأوقات، بيد أنّ الأدبَ التركيّ لم يَترك ولو بصمةً باهتة في الشعوب التي كانت خاضعة للسلطنة العثمانيّة. ولا يشكّ أحد في أنّ نفوذ اللّغة يساعد في الانتشار، لكنّ هذا ليس بالمعيار الكافي للتحديد الدقيق. والثقافة الأدبيّة الفارسيّة لا نعتقد أنّ آثارها متناسبة مع انتشارها، فقد اجتاحت الإمبراطوريّةُ الفارسيّةُ أكثرَ من قارّة.
سوفييتيّة وروسيّة
يُقدِّم لنا العصر الحديث، الذي عشنا فيه، وعاينّا مجرياته الثقافيّة، مثالاً بارزاً. فبعد الحرب العالميّة الثانية انتشرت كتبُ الثقافة السوفييتيّة بقوّة، وصارت مفرداتٌ معيّنة لهذه الثقافة تدور على كلّ لسان. وأشارت الإحصاءاتُ إلى أنّ كُتب لينين تأتي في الدرجة الثانية بعد الكتاب المقدَّس في الانتشار، فلا تكاد لغةٌ من لغات الأرض الكبرى لم تنقل كتبَ لينين الكبرى إليها. والسبب لا يعود إلى اللّغة الروسيّة، التي لم تحقِّق تقدّماً مرموقاً في تلك الفترة، وأخذت تتراجع بعد همود الموجة العقائديّة. وبعد نصف قرن، وقبيل حلول القرن الحادي والعشرين، ظهرَ انحسارُ هذه الثقافة العقائديّة، وبالتالي الثقافة الأدبيّة، وتسارعَ الانحسار بشدّة، حتّى بات الحصول على كتابٍ من الثقافة السوفييتيّة، التي انتعشت في أعقاب الحرب، أمراً عسيراً، إن لم نقل بات مستحيلاً. وتلا ذلك خفوتُ ترجمة هذه الثقافة عن اللّغات الروسيّة والفرنسيّة والإنكليزيّة إلى درجةٍ كبيرة، في حين نشطت الترجمةُ من هذه اللّغات، ومن لغاتٍ أخرى، لكتب الثقافة الروسيّة، فظهرت كتبُ تورغنيف وأرتسيباشيف وتولستوي ودستويفسكي ويفيجيني زمياتين وكلّ ما كان ممنوعاً أيّام السلطة السوفييتيّة. واليوم بمقدورك أن تجد طبعاتٍ وطبعات للكُتب الروسيّة المترجَمة من شتّى اللّغات إلى العربيّة، وتعجز - مثلاً - أن تجدَ نسخةً واحدة من «الحرس الفتيّ» أو «الأوبكوم السريّ» أو «الحبّ الأوّل» أو سواها من كُتب الثقافة السوفييتيّة، مع بعض الاستثناءات، كروايات جنكيز إيتماتوف، التي كُتبت في زمن الحُكم السوفييتي.
أمثلة من التاريخ
من هذه الأمثلة نستخلص أنّه لا يُمكن لعنصرٍ من العناصر أن يكون حاسماً في تحديد مسار الانتشار والانحسار. وإذا أردنا الاقترابَ من معيارٍ مقبول، لا بدّ من القول إنّ ما يبقى من الثقافة، بعد الانحسار، هو ما يقرّر عُمق التأثير، وليس ما يرافق الانتشار السريع الذي يأتي عن طريق السياسة والحروب التوسّعيّة. إنّ رائز القبول العميق لدى البشر معقّد. ولكن بصورة عامّة يُمكن القول إنّ الثقافة التي تعبّر عن الثابت الإنساني العميق، هي التي تبقى بعد انزياح المظاهر التسلّطيّة التي تفرضها دولةٌ كبرى على مساحاتٍ كبيرة من سكّان المسكونة. إنّ اجتياحات الإسكندر للعالَم انتهت، وتراجَعت معها اللّغةُ اليونانيّة من كلّ الأقطار التي غزتها واستعادتِ اللّغاتُ المحليّة مكانتَها، ولكنّ الثقافة الأدبيّة اليونانيّة ما تزال حتّى يومنا هذا، تقوم بفاعليّة التحريك الفكري والجمالي. إنّ اليونان الغابرة ما تزال قائمة، واليونان الحاضرة شبه غائبة عن المشهد الثقافي. والثقافة الأدبيّة السوفييتيّة تراجعت تراجُعاً كبيراً جدّاً في الأقطار التي كانت خاضعة للسلطة الموسكوفيّة، وانتشرت انتشاراً كبيراً الثقافة الأدبيّة الروسيّة، التي نمت في أيّام الحُكم القيصري. فلْنعترف بخصوصيّة كلّ ثقافة، ولْنحترس من الإصرار على «العوامل».
بين ثقافتَيْن
لا حاجة لأن نشرح كيف تشكّلت الثقافتان اللّاتينيّة والأنغلوسكسونيّة، هاتان الثقافتان الكبيرتان حقّاً، وكيف رفدت أميركا وكندا وأستراليا التيّارَ السكسونيّ، بينما رفدت أميركا اللّاتينيّة التيّارَ اللّاتيني. ولا بدّ من التأكيد أنّ النهضة الإيطاليّة كانت ذات فاعليّةٍ كبيرة جدّاً في عالَميّة الثقافتَيْن، بعدما اهتضمت التراثَ اليونانيّ الروماني، أيّام النهضة، فأَبدعت، وبإبداعها غيَّرت كلّ أوروبا من الأوضاع الثقافيّة القديمة إلى أوضاعٍ حديثة.
حقَّقت إنكلترا تفوّقاً من حيث المساحة، ولكنّ هذا لم يؤثِّر كثيراً على الثقافة الأخرى. ولا بدّ من الدخول إلى طبيعة الظروف الخاصّة، لا بدّ من العودة إلى القرن الرّابع عشر، بعدما عاد فرسان الهيكل من الشرق، وقاموا بمشاريعهم في أوروبا وإنكلترا، حتّى أنّك لتَجد اسم «الهيكل» يملأ بلاد الإنكليز: شارع الهيكل، متنزّه الهيكل، مشفى الهيكل، مدرسة الهيكل... لكنّ ملك فرنسا احتاج إلى الأموال، فاتّفق مع البابا، أو ربّما أجبره، على اعتقال الفرسان ومحاكمتهم، ومصادرة أموالهم ومُمتلكاتهم، ورميهم بشتّى التّهم، وبالأخصّ الكفر بالربّ، ومُمارسة السحر، والتجديف على يسوع، واحتقار الصليب.... وقد نجا مَن هَرَبَ إلى الجزيرة، وهلكَ مَن بقي في القارّة بتهمةٍ موضوعة لكلّ فارسٍ منهم، وقد قُبض على قادتهم في ليلةٍ واحدة. وصار المحفل الإسكتلندي مَوئلاً للنجاة، ومنارةً للتوجيه. ومن هنا نفسِّر لماذا يكره الفرنسيّون النظام الملكي، ولماذا صارت إنكلترا محجّة، فزارها كلُّ زعماء فرنسا الفكريّين من جان جاك روسّو إلى فولتير، بل إنّ هيبوليت تين ألَّف كتاباً عن تاريخ الأدب الإنكليزي في أربعة أجزاء، ولا حاجة إلى التذكير أنّ شكسبير كان معبود فيكتور هيغو، يترجمه ويروّج لأسلوبه... يبدو أنّ إنكلترا بعدما احتضنتِ الفرسان، وحرصت على متابعة أعمالهم الكبرى في أرجائها، صارت عاصمةً لكلّ أنصارهم، من فرنسيّين وغير فرنسيّين. وعندما قامَ أنصار الفرسان، في أوروبا، بالثورة الفرنسيّة، لم يرُق ذلك لإنكلترا، بسبب الفوضى التي أعقبتها، ففضّلت الاحتفاظَ بنظامها الملكي، والحفاظَ على السير الهادئ المتأنّي، فحتّى حين أطاحَ كرومويل بالمَلك وأعاد نشاط البرلمان، رفضَ ما عُرض عليه من أن يكون ملكاً، واكتفى بلقب الوصيّ على العرش.
كان للثورة الفرنسيّة تأثيرُها الهائل في العالَم، كلّ العالَم تقريباً، ولكنّ الفوضى التي صاحبتها، والمقتلة العظمى التي أعقبتها في عهد الإرهاب، جعلَ إنكلترا شديدةَ النفور من تغيير النظام الملكي، الذي يضمن لها التطوّر البسيط والهادئ، فهي لا تحبّ القفزات، وبالأخصّ بعدما عانت من عقابيل الثورة الصناعيّة.
أدّى هذا في إنكلترا إلى ظهور أدبٍ على نارٍ هادئة، كما يُقال، أقرب إلى الأعماق البشريّة المُشترَكة، بينما أدّى أدبُ الثورة الفرنسيّة إلى ظهور الأدب «الموجي» المتعلّق بعابر الأحداث. فمنذ فرنسيس بيكون وحتّى نيوتن وداروين كان التطوّر في إنكلترا هادئاً بعيداً عن الاندفاعات المضْطربة التي تتغيّر أمواجها بين مرحلةٍ وأخرى. إنّ جون لوك وتوماس هوبز ودافيد هيوم وجورج باركلي من أبرز المفكّرين الذين خفَّفوا من غلواء التطوّرات الهوجاء التي أصابت فرنسا. كانت ثورة كرومويل والثورة الصناعيّة درسَيْن كبيرَيْن، هدأت بعدها إنكلترا، وتمسَّكت بالطريق الهادئ، بينما بعد الثورة الفرنسيّة، التي استغرقت أكثر من ثلاثة أرباع القرن، حدثتْ أمواجٌ وأمواجٌ من النظام الجمهوري، إلى النظام الملكي، إلى النظام القنصلي، إلى النظام الإمبراطوري، إلى الكثير من الثورات والفِتن التي لم تعرفها إنكلترا، حيث كان الأدبُ يسير ببطء ورويّة. ومقارنة بسيطة بين الرومانسيّة الإنكليزيّة وأختها الفرنسيّة كافية لنعرف مدى العُمق الذي تتمتّع به أعمال ووردزورث وكولردج وبايرون وشللي وسواهم، ومدى الاندفاع التي ظهرَ في الرومانسيّة الفرنسيّة في أعمال ألفريد دي فيني وألفريد دي موسيه، إلى جانب جورج صاند وفكتور هيغو... وبقيّة الرومانسيّين.
على أنّ الأدب الكندي والأدب الأسترالي كانا رديفَيْن للأدب الإنكليزي، لِما تمتّعا به من هدوءٍ وعُمقٍ في استشراف البنية الفكريّة والعاطفيّة للإنسان، حتّى يُمكن القول إنّ أدبهما «مَلكيّان» وليسا «جمهوريّين». لكنّ الشيء الذي دَعَمَ الانتشارَ الإنكليزي هو الولايات المتّحدة الأميركيّة. فعلى الرّغم من أنّها سارت في الطريق الجمهوري، مثل فرنسا، إلّا أنّها ظلّت محافظة على تقاليد الثقافة الإنكليزيّة، وعلى مسيرتها الهادئة. ويكفي أن نشير إلى ناقدٍ أميركي مشهور هو هارولد بلوم، حتّى نلمس الحماسة الكبيرة للأدب الإنكليزي. إنّه يجعل شكسبير الممثّل الأكمل للتقليد الغربي، فهو المقياس والحجّة، ففيه تجد كلّ المذاهب التي ظهرت في ما بعد، ومنه استلهم الفرنسيّون والألمان وبقيّة الجغرافية الأوروبيّة التقاليدَ الأدبيّة العميقة، فكأنّه رجل الماضي والحاضر والمستقبل.
لكنّ بلوم، بعيداً عن التعصُّب، يَضع دانتي ممثّل الغرابة المتخيّلة، مقابل شكسبير، ممثّل الغرابة الاجتماعيّة، ويرى أنّه لا علاقة بالعرق والبيئة والعصر، العناصر التي أصرّ عليها هيبوليت تين للإبداع. إنّ للثقافة الأدبيّة خصوصيّتها، ولذلك نجد التراث الأدبي العالَمي يضمّ «الإلياذة» و»الإنياذة» إلى جانب «الكوميديا الإلهيّة»، إلى جانب «فاوست» غوتيه، إلى جانب «دون كيشوت» و»دون جوان»، إلى جانب «هاملت» و»عطيل»، إلى جانب «الزمن المفقود»... وهكذا، بحيث يحمل كلّ أثرٍ ثقافيّ وزر نفسه بنفسه، وإلّا كيف نُفسّر استمرارَ آثارٍ مثل «الإلياذة» و»الكوميديا الإلهيّة» و»رسالة الغفران» و»ألف ليلة وليلة» و»دون كيشوت» و»الأب غوريو» و»الجريمة والعقاب» و»الشيخ والبحر»...
هل هناك إطارٌ عامّ؟
ويُمكن التوصّل إلى إطارٍ عامّ وهو أنّ الثقافة الأدبيّة التي ترتبط بالمُعاصِر العابر، تنتشر سريعاً، وتنحسر سريعاً، والثقافة التي تقتنص اللّحظةَ العابرة لتغوص إلى عُمق الانعكاس الإنساني المُشترَك، تنتشر بهدوء وبطء، ولا تنحسر بسرعة. ومن أمثلة النوع الثاني رواية «جسر على نهر الدرينا» التي تقع خارج سيطرة اللّاتين والأنغلوسكسون، فهي رواية ملتزمة بكلّ موجات الواقع التاريخي، ولكنّها تصل إلى العمق العاطفي، أمثال انتحار الفتاة التي أُكرهت على الزواج، أو موت شخصيّة بسبب تغيُّر العادات، وعدم قدرتها على مجاراتها... إنّها نماذج بشريّة عميقة، تمسك بالموقف العاطفي العميق جدّاً، ولا يتركها المؤلِّف تنجرف مع الظروف العابرة.
فلا غرابة إذا جَذبت فرنسا العالَمَ وأدهشته بألوان الكلاسيكيّة الجديدة والرومانسيّة والواقعيّة والسرياليّة والرمزيّة والانطباعيّة والوجوديّة والبنيويّة والحداثة وما بعد الحداثة... بينما لا توجد مثل هذه المذاهب في إنكلترا، حتّى أنّ الكلاسيكيّة الجديدة والوجوديّة والبنيويّة والسرياليّة لم تجد لها أنصاراً كثراً في إنكلترا، وقد نعشق هذا التغيير، فهو يُنعش النَّفس والذّهن، ولكنّه ينحسر بانحسار الظروف العابرة التي اعتمدها.
فرنسا تبحث عن التجديد، وإنكلترا تتمسّك بالتقليد، فرنسا تعشق الثورات وإنكلترا تمقتها. وما نريد قوله إنّ إنكلترا أقلّ تمسُّكاً بالعابر من فرنسا بكثير، بيد أنّ الثقافتَيْن لا غنىً عنهما، وهُما الأكثر احتلالاً للمشهد العالَمي.
*كاتب وناقد من سوريا
*ينشر بالتزامن مع نشرة افق الإلكترونية.
كانت المعركةُ أشبه بدعوةٍ انتخابيّة، على القارئ أن يقترعَ لواحدةٍ من الثقافتَيْن، أو أشبه بعقارَيْن لمرضٍ واحد، وعلى القارئ أن يختارَ العقار الذي يشفي أسرع أو أوسع من غيره. والاثنان كانا على حقّ من حيث إنّ الشرق العربي كان من أهمّ المتأثّرين بهاتَيْن الثقافتَيْن، اللّتَيْن حتّى الآن ما تزالان مؤثّرتَيْن في شرقنا، وقلّما نافَسهما مُنافسٌ آخر. قد يقول قائل إنّ الروسيّة حقَّقت تقدّماً، أو إنّ الأدب التشيكي أو البولوني، أو أيّ أدبٍ آخر خارج اللّاتينيّة والأنغلوسكسونيّة، حقَّق تقدّماً مرموقاً.... صحيح، ولا أحد ينكر ذلك. لكنّ هذا التقدّم لم يكُن على حساب هاتَيْن الثقافتَيْن القويّتَيْن، إذ كانت أيّ ثقافة أدبيّة وافدة تصطفّ إلى جانب هاتَيْن الثقافتَيْن، فيغتني المتلقّي. وما نريد أن نبيّنه في بحثنا هذا ينحصر في أهمّ الظروف الفاعلة في الانتشار والانحسار بين هاتَيْن الثقافتَيْن فقط، بعيداً عن التقييم، فكلّ وافدٍ ثقافي يُغني المعدة السليمة، ويزيد الضعيفة سقاماً.
المعايير
لا يُمكن لأحد أن يركن إلى معايير ثابتة في تحديد الانتشار. فعلى سبيل المثال لا يُمكننا القول إنّ انتشار اللّغة يكفي لتحديد انتشار الثقافة الأدبيّة. فقد انتشرتِ اللّغةُ التركيّة في آسيا وأفريقيا وأوروبا، في وقتٍ من الأوقات، بيد أنّ الأدبَ التركيّ لم يَترك ولو بصمةً باهتة في الشعوب التي كانت خاضعة للسلطنة العثمانيّة. ولا يشكّ أحد في أنّ نفوذ اللّغة يساعد في الانتشار، لكنّ هذا ليس بالمعيار الكافي للتحديد الدقيق. والثقافة الأدبيّة الفارسيّة لا نعتقد أنّ آثارها متناسبة مع انتشارها، فقد اجتاحت الإمبراطوريّةُ الفارسيّةُ أكثرَ من قارّة.
سوفييتيّة وروسيّة
يُقدِّم لنا العصر الحديث، الذي عشنا فيه، وعاينّا مجرياته الثقافيّة، مثالاً بارزاً. فبعد الحرب العالميّة الثانية انتشرت كتبُ الثقافة السوفييتيّة بقوّة، وصارت مفرداتٌ معيّنة لهذه الثقافة تدور على كلّ لسان. وأشارت الإحصاءاتُ إلى أنّ كُتب لينين تأتي في الدرجة الثانية بعد الكتاب المقدَّس في الانتشار، فلا تكاد لغةٌ من لغات الأرض الكبرى لم تنقل كتبَ لينين الكبرى إليها. والسبب لا يعود إلى اللّغة الروسيّة، التي لم تحقِّق تقدّماً مرموقاً في تلك الفترة، وأخذت تتراجع بعد همود الموجة العقائديّة. وبعد نصف قرن، وقبيل حلول القرن الحادي والعشرين، ظهرَ انحسارُ هذه الثقافة العقائديّة، وبالتالي الثقافة الأدبيّة، وتسارعَ الانحسار بشدّة، حتّى بات الحصول على كتابٍ من الثقافة السوفييتيّة، التي انتعشت في أعقاب الحرب، أمراً عسيراً، إن لم نقل بات مستحيلاً. وتلا ذلك خفوتُ ترجمة هذه الثقافة عن اللّغات الروسيّة والفرنسيّة والإنكليزيّة إلى درجةٍ كبيرة، في حين نشطت الترجمةُ من هذه اللّغات، ومن لغاتٍ أخرى، لكتب الثقافة الروسيّة، فظهرت كتبُ تورغنيف وأرتسيباشيف وتولستوي ودستويفسكي ويفيجيني زمياتين وكلّ ما كان ممنوعاً أيّام السلطة السوفييتيّة. واليوم بمقدورك أن تجد طبعاتٍ وطبعات للكُتب الروسيّة المترجَمة من شتّى اللّغات إلى العربيّة، وتعجز - مثلاً - أن تجدَ نسخةً واحدة من «الحرس الفتيّ» أو «الأوبكوم السريّ» أو «الحبّ الأوّل» أو سواها من كُتب الثقافة السوفييتيّة، مع بعض الاستثناءات، كروايات جنكيز إيتماتوف، التي كُتبت في زمن الحُكم السوفييتي.
أمثلة من التاريخ
من هذه الأمثلة نستخلص أنّه لا يُمكن لعنصرٍ من العناصر أن يكون حاسماً في تحديد مسار الانتشار والانحسار. وإذا أردنا الاقترابَ من معيارٍ مقبول، لا بدّ من القول إنّ ما يبقى من الثقافة، بعد الانحسار، هو ما يقرّر عُمق التأثير، وليس ما يرافق الانتشار السريع الذي يأتي عن طريق السياسة والحروب التوسّعيّة. إنّ رائز القبول العميق لدى البشر معقّد. ولكن بصورة عامّة يُمكن القول إنّ الثقافة التي تعبّر عن الثابت الإنساني العميق، هي التي تبقى بعد انزياح المظاهر التسلّطيّة التي تفرضها دولةٌ كبرى على مساحاتٍ كبيرة من سكّان المسكونة. إنّ اجتياحات الإسكندر للعالَم انتهت، وتراجَعت معها اللّغةُ اليونانيّة من كلّ الأقطار التي غزتها واستعادتِ اللّغاتُ المحليّة مكانتَها، ولكنّ الثقافة الأدبيّة اليونانيّة ما تزال حتّى يومنا هذا، تقوم بفاعليّة التحريك الفكري والجمالي. إنّ اليونان الغابرة ما تزال قائمة، واليونان الحاضرة شبه غائبة عن المشهد الثقافي. والثقافة الأدبيّة السوفييتيّة تراجعت تراجُعاً كبيراً جدّاً في الأقطار التي كانت خاضعة للسلطة الموسكوفيّة، وانتشرت انتشاراً كبيراً الثقافة الأدبيّة الروسيّة، التي نمت في أيّام الحُكم القيصري. فلْنعترف بخصوصيّة كلّ ثقافة، ولْنحترس من الإصرار على «العوامل».
بين ثقافتَيْن
لا حاجة لأن نشرح كيف تشكّلت الثقافتان اللّاتينيّة والأنغلوسكسونيّة، هاتان الثقافتان الكبيرتان حقّاً، وكيف رفدت أميركا وكندا وأستراليا التيّارَ السكسونيّ، بينما رفدت أميركا اللّاتينيّة التيّارَ اللّاتيني. ولا بدّ من التأكيد أنّ النهضة الإيطاليّة كانت ذات فاعليّةٍ كبيرة جدّاً في عالَميّة الثقافتَيْن، بعدما اهتضمت التراثَ اليونانيّ الروماني، أيّام النهضة، فأَبدعت، وبإبداعها غيَّرت كلّ أوروبا من الأوضاع الثقافيّة القديمة إلى أوضاعٍ حديثة.
حقَّقت إنكلترا تفوّقاً من حيث المساحة، ولكنّ هذا لم يؤثِّر كثيراً على الثقافة الأخرى. ولا بدّ من الدخول إلى طبيعة الظروف الخاصّة، لا بدّ من العودة إلى القرن الرّابع عشر، بعدما عاد فرسان الهيكل من الشرق، وقاموا بمشاريعهم في أوروبا وإنكلترا، حتّى أنّك لتَجد اسم «الهيكل» يملأ بلاد الإنكليز: شارع الهيكل، متنزّه الهيكل، مشفى الهيكل، مدرسة الهيكل... لكنّ ملك فرنسا احتاج إلى الأموال، فاتّفق مع البابا، أو ربّما أجبره، على اعتقال الفرسان ومحاكمتهم، ومصادرة أموالهم ومُمتلكاتهم، ورميهم بشتّى التّهم، وبالأخصّ الكفر بالربّ، ومُمارسة السحر، والتجديف على يسوع، واحتقار الصليب.... وقد نجا مَن هَرَبَ إلى الجزيرة، وهلكَ مَن بقي في القارّة بتهمةٍ موضوعة لكلّ فارسٍ منهم، وقد قُبض على قادتهم في ليلةٍ واحدة. وصار المحفل الإسكتلندي مَوئلاً للنجاة، ومنارةً للتوجيه. ومن هنا نفسِّر لماذا يكره الفرنسيّون النظام الملكي، ولماذا صارت إنكلترا محجّة، فزارها كلُّ زعماء فرنسا الفكريّين من جان جاك روسّو إلى فولتير، بل إنّ هيبوليت تين ألَّف كتاباً عن تاريخ الأدب الإنكليزي في أربعة أجزاء، ولا حاجة إلى التذكير أنّ شكسبير كان معبود فيكتور هيغو، يترجمه ويروّج لأسلوبه... يبدو أنّ إنكلترا بعدما احتضنتِ الفرسان، وحرصت على متابعة أعمالهم الكبرى في أرجائها، صارت عاصمةً لكلّ أنصارهم، من فرنسيّين وغير فرنسيّين. وعندما قامَ أنصار الفرسان، في أوروبا، بالثورة الفرنسيّة، لم يرُق ذلك لإنكلترا، بسبب الفوضى التي أعقبتها، ففضّلت الاحتفاظَ بنظامها الملكي، والحفاظَ على السير الهادئ المتأنّي، فحتّى حين أطاحَ كرومويل بالمَلك وأعاد نشاط البرلمان، رفضَ ما عُرض عليه من أن يكون ملكاً، واكتفى بلقب الوصيّ على العرش.
كان للثورة الفرنسيّة تأثيرُها الهائل في العالَم، كلّ العالَم تقريباً، ولكنّ الفوضى التي صاحبتها، والمقتلة العظمى التي أعقبتها في عهد الإرهاب، جعلَ إنكلترا شديدةَ النفور من تغيير النظام الملكي، الذي يضمن لها التطوّر البسيط والهادئ، فهي لا تحبّ القفزات، وبالأخصّ بعدما عانت من عقابيل الثورة الصناعيّة.
أدّى هذا في إنكلترا إلى ظهور أدبٍ على نارٍ هادئة، كما يُقال، أقرب إلى الأعماق البشريّة المُشترَكة، بينما أدّى أدبُ الثورة الفرنسيّة إلى ظهور الأدب «الموجي» المتعلّق بعابر الأحداث. فمنذ فرنسيس بيكون وحتّى نيوتن وداروين كان التطوّر في إنكلترا هادئاً بعيداً عن الاندفاعات المضْطربة التي تتغيّر أمواجها بين مرحلةٍ وأخرى. إنّ جون لوك وتوماس هوبز ودافيد هيوم وجورج باركلي من أبرز المفكّرين الذين خفَّفوا من غلواء التطوّرات الهوجاء التي أصابت فرنسا. كانت ثورة كرومويل والثورة الصناعيّة درسَيْن كبيرَيْن، هدأت بعدها إنكلترا، وتمسَّكت بالطريق الهادئ، بينما بعد الثورة الفرنسيّة، التي استغرقت أكثر من ثلاثة أرباع القرن، حدثتْ أمواجٌ وأمواجٌ من النظام الجمهوري، إلى النظام الملكي، إلى النظام القنصلي، إلى النظام الإمبراطوري، إلى الكثير من الثورات والفِتن التي لم تعرفها إنكلترا، حيث كان الأدبُ يسير ببطء ورويّة. ومقارنة بسيطة بين الرومانسيّة الإنكليزيّة وأختها الفرنسيّة كافية لنعرف مدى العُمق الذي تتمتّع به أعمال ووردزورث وكولردج وبايرون وشللي وسواهم، ومدى الاندفاع التي ظهرَ في الرومانسيّة الفرنسيّة في أعمال ألفريد دي فيني وألفريد دي موسيه، إلى جانب جورج صاند وفكتور هيغو... وبقيّة الرومانسيّين.
على أنّ الأدب الكندي والأدب الأسترالي كانا رديفَيْن للأدب الإنكليزي، لِما تمتّعا به من هدوءٍ وعُمقٍ في استشراف البنية الفكريّة والعاطفيّة للإنسان، حتّى يُمكن القول إنّ أدبهما «مَلكيّان» وليسا «جمهوريّين». لكنّ الشيء الذي دَعَمَ الانتشارَ الإنكليزي هو الولايات المتّحدة الأميركيّة. فعلى الرّغم من أنّها سارت في الطريق الجمهوري، مثل فرنسا، إلّا أنّها ظلّت محافظة على تقاليد الثقافة الإنكليزيّة، وعلى مسيرتها الهادئة. ويكفي أن نشير إلى ناقدٍ أميركي مشهور هو هارولد بلوم، حتّى نلمس الحماسة الكبيرة للأدب الإنكليزي. إنّه يجعل شكسبير الممثّل الأكمل للتقليد الغربي، فهو المقياس والحجّة، ففيه تجد كلّ المذاهب التي ظهرت في ما بعد، ومنه استلهم الفرنسيّون والألمان وبقيّة الجغرافية الأوروبيّة التقاليدَ الأدبيّة العميقة، فكأنّه رجل الماضي والحاضر والمستقبل.
لكنّ بلوم، بعيداً عن التعصُّب، يَضع دانتي ممثّل الغرابة المتخيّلة، مقابل شكسبير، ممثّل الغرابة الاجتماعيّة، ويرى أنّه لا علاقة بالعرق والبيئة والعصر، العناصر التي أصرّ عليها هيبوليت تين للإبداع. إنّ للثقافة الأدبيّة خصوصيّتها، ولذلك نجد التراث الأدبي العالَمي يضمّ «الإلياذة» و»الإنياذة» إلى جانب «الكوميديا الإلهيّة»، إلى جانب «فاوست» غوتيه، إلى جانب «دون كيشوت» و»دون جوان»، إلى جانب «هاملت» و»عطيل»، إلى جانب «الزمن المفقود»... وهكذا، بحيث يحمل كلّ أثرٍ ثقافيّ وزر نفسه بنفسه، وإلّا كيف نُفسّر استمرارَ آثارٍ مثل «الإلياذة» و»الكوميديا الإلهيّة» و»رسالة الغفران» و»ألف ليلة وليلة» و»دون كيشوت» و»الأب غوريو» و»الجريمة والعقاب» و»الشيخ والبحر»...
هل هناك إطارٌ عامّ؟
ويُمكن التوصّل إلى إطارٍ عامّ وهو أنّ الثقافة الأدبيّة التي ترتبط بالمُعاصِر العابر، تنتشر سريعاً، وتنحسر سريعاً، والثقافة التي تقتنص اللّحظةَ العابرة لتغوص إلى عُمق الانعكاس الإنساني المُشترَك، تنتشر بهدوء وبطء، ولا تنحسر بسرعة. ومن أمثلة النوع الثاني رواية «جسر على نهر الدرينا» التي تقع خارج سيطرة اللّاتين والأنغلوسكسون، فهي رواية ملتزمة بكلّ موجات الواقع التاريخي، ولكنّها تصل إلى العمق العاطفي، أمثال انتحار الفتاة التي أُكرهت على الزواج، أو موت شخصيّة بسبب تغيُّر العادات، وعدم قدرتها على مجاراتها... إنّها نماذج بشريّة عميقة، تمسك بالموقف العاطفي العميق جدّاً، ولا يتركها المؤلِّف تنجرف مع الظروف العابرة.
فلا غرابة إذا جَذبت فرنسا العالَمَ وأدهشته بألوان الكلاسيكيّة الجديدة والرومانسيّة والواقعيّة والسرياليّة والرمزيّة والانطباعيّة والوجوديّة والبنيويّة والحداثة وما بعد الحداثة... بينما لا توجد مثل هذه المذاهب في إنكلترا، حتّى أنّ الكلاسيكيّة الجديدة والوجوديّة والبنيويّة والسرياليّة لم تجد لها أنصاراً كثراً في إنكلترا، وقد نعشق هذا التغيير، فهو يُنعش النَّفس والذّهن، ولكنّه ينحسر بانحسار الظروف العابرة التي اعتمدها.
فرنسا تبحث عن التجديد، وإنكلترا تتمسّك بالتقليد، فرنسا تعشق الثورات وإنكلترا تمقتها. وما نريد قوله إنّ إنكلترا أقلّ تمسُّكاً بالعابر من فرنسا بكثير، بيد أنّ الثقافتَيْن لا غنىً عنهما، وهُما الأكثر احتلالاً للمشهد العالَمي.
*كاتب وناقد من سوريا
*ينشر بالتزامن مع نشرة افق الإلكترونية.