أصالة عبدالرحمن كنبيجه

بذلت القطاعات الحيوية في المملكة العربية السعودية جهودها نحو عملية التغيير وإحداث النقلات فيها ،انطلاقًا من الممكّنات التي أتاحتها القيادة الرشيدة والرؤية الطموحة التي نسترشد بمساراتها ومستهدفاتها في كل مجال. وإذ نعاصر اليوم عالمَا أصبحت فيه التقنية أداة نافذة لتحقيق التطلعات والمستهدفات ومواكبة التغيرّات الطارئة اجتماعيًا واقتصاديًا وبيئيًا.

فللقطاعين العام والخاص حظوة السبق في هذا المضمار، إلّا أن القطاع غير الربحي ما زال يخطو خطوات متمهلة، وربما كانت متأخرة - أحيانًا - لتوظيف التقنيات الحديثة وأدوات الذكاء الاصطناعي سواء في تقديم خدمات المستفيدين أو في تصميم المنتجات الاجتماعية التي تخدمهم، أو حتى في عملية إدارة الموارد الملية وتنظيم عمليتي التبرع والمنح.

حيث أجرت إحدى الشركات التقنية المتخصصة في رقمنة القطاع غير الربحي، دراسة حديثة نشرتها خلال العام الجاري تحت عنوان (دراسة واقع التقنية في الجمعيات الأهلية بالمملكة العربية السعودية)، رصدت أهم النتائج المتمثلة في الآتي:

أكثر من 50% من المنظمات في هذا القطاع لا تملك خطة تنفيذية للتقنية، و25% من المنظمات فقط تستخدم مبادئ أتمتة الأعمال في كل العمليات والإجراءات، 65% من المنظمات تملك حلولا تقنية لأمن المعلومات. أما فيما يخص المستفيدين فإن 70% من المنظمات ليست لديها معايير لقياس جودة الخدمات الرقمية ومراقبة توافرها للمستفيد.

ومن هُنا تبرز أهمية تسريع عملية التحوّل الرقمي في القطاع غير الربحي، استنادًا على دوره الجوهري في تلمّس احتياجات الناس، والكشف عن مواطن الضعف الاجتماعي أو الاقتصادي لديهم وخدمتهم بأفضل طريقة تستثمر الموارد المتاحة. بالإضافة إلى تحسين عمليات الإدارة مع المانحين والمتبرعين والمتطوعين، فضلًا عن توسيع نطاق الأثر والتأثير بالتكامل الرقمي مع الجهات ذات العلاقة.

ما تجدر الإشارة إليه الإسهام الفاعل للكثير من المؤسسات والشركات والأكاديميين والباحثين المهتمين في قياس الواقع الرقمي للمنظمات الاجتماعية تحت هذا القطاع، وتحديد فجوات الاحتياج وتقديم الحلول ذات العلاقة في سبيل تحقيق الأهداف المرجوة، وتعظيم الأثر المأمول وفقًا لرؤية السعودية 2030.

في هذا الصدد يَلزم الإشادة بالجهود المحلية البارزة خلال العام الجاري (2024) التي جاء في طليعتها تنظيم ملتقيين نوعيين، الأول منهم إطلاق النسخة الثالثة من ملتقى مستقبل القطاع غير الربحي التي استهدفت مناقشة تطبيقات التقنيات الذكية وتوظيفها لتحقيق الأهداف المجتمعية في إطار مواجهة التغيرات الاقتصادية والاجتماعية الطارئة في عالم اليوم.

أما الملتقى الآخر " ملتقى التحول الرقمي للقطاع غير الربحي" في نسخته الأولى التي تناولت أبرز القضايا الرقمية وأهم الممارسات التقنية في إطار من التفاعل المثمر بين الزوّار والمختصين، للخروج بحلول مبتكرة ومرئيات بناءة تُثري مفاهيم وممارسات الرقمنة في هذا القطاع.

حشد الجهود للنهوض بالقطاع غير الربحي على هذا النحو، حاجة ملحة في هذا العصر التي تتزايد فيه الإمكانيات الرقمية، مقابل تزايد المشكلات الاجتماعية وتعدد الاحتياجات الإنسانية. ومما لا شكّ فيه أن جزء كبيرا من أهداف التنمية المستدامة التي نعمل باستمرار لتحقيقها في السعودية، يُمكن تحقيقه من خلال تمكين القطاع غير الربحي الذي يقوم على عاتق أصحاب المسؤولية الاجتماعية ممن هم أقدر على التصدي لاحتياجات الفئات التي يقدّرون ظروفها أو يمثلون رغباتها أو يشعرون بمعاناتها، للمساهمة في تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية المنشودة .

وطننا طموح، وأبناؤه يتمتعون بقدرٍ عالٍ من المسؤولية التي تجعلهم أكفاء ومؤهلين لكسب الرّهان، فالإنسان أولًا في السعودية، ليس على مستوى تقديم الخدمات التي تليق به وتلبي آماله فحسب، هو أولًا أيضًا بمسؤوليته وطموحه وإمكانياته التي تجعله حقيقًا بالسبق والريادة.

للتقنية دور كبير في تشكيل المستقبل الذي نتطلع إليه، ورسم ملامحه وأبعاده؛ لذا يُمكن لرقمنة القطاع غير الربحي أن تصنع تحولًا نوعيًا في المفاهيم والممارسات من قبيل:

تعزيز مفاهيم الوعي التقني لدى العاملين في القطاع، وتدريبيهم على أحدث التقنيات لإدارة قواعد البيانات الخاصة بالمتبرعين، وتوظيف وسائل التواصل الاجتماعي بشكل فاعل يُمكن أن يُعزز وصول الخدمات إلى الناس بسهولة وسرعة. وتوظيف التقنية في تصميم المنتجات الاجتماعية ترفع من مستوى ثقة الناس في هذا القطاع، وتعزز الصورة الذهنية الإيجابية عنه وعن دوره في التنمية. بالإضافة إلى عملية تحليل البيانات التي تُسهل على المنظمات إمكانية التنبؤ بالاحتياجات أو المشكلات الطارئة في المجتمع خلال فترات قادمة.

التحول الرقمي ليس مجرد عملية تقنية، بل هو تغيير ثقافي يبدأ من قادة القطاع والعاملين فيه لتغيير السياسيات وتوجيهها توجيهًا داعمًا وميسّرًا، ينعكس على واقع العمل واستدامة الأثر.