محمد دياب

تفيد المعطيات المتوافرة بأنّ قرابة 40% من النّزاعات المسلَّحة، الإقليميّة والدوليّة، والحروب الأهليّة في العالَم على امتداد القرن العشرين وفي الربع الأوّل من القرن الحاليّ، نشبت بسبب النزاعات على امتلاك الموارد الطبيعيّة. فخلال العقدَيْن الأخيرَيْن وحدهما اندلع 18 نزاعاً من هذا النَّوع في مناطق مُختلفة من العالَم. ومع احتدام الصراع اليوم بين الغرب الآيل نفوذه إلى الأفول، والشرق الصاعد وإلى جانبه قسم مُعتبر من الجنوب العالميّ، تلفح النيرانُ مناطق عديدة من العالَم بسبب الثروات الكامنة في باطن أراضيها.

غدت الحروب على الموارد السمة الأبرز للبيئة الأمنيّة العالميّة. وذلك لأسباب أساسيّة أبرزها: أولويّة الاعتبارات الاقتصاديّة في التنافُس الدولي، والطلب المتزايد دوماً على السلع الأساسيّة، وندرة بعض الموارد الرئيسة، والأهميّة المتزايدة للمعادن الثمينة النادرة وغير التقليديّة في الصناعات التكنولوجيّة الحديثة فائقة الدقّة، وعدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق تضمّ مخزوناتٍ كبيرة من الموارد الحيويّة.

تناول مفكّرون سياسيّون بارزون مفهوم "المبدأ المُحدِّد للبيئة الدوليّة الجديدة"، من أمثال صموئيل هانتغتون الذي يزعم بأنّ القوى المحرّكة للأمن العالَمي سوف يحكمها "صِدام الحضارات"، وروبرت كابلان الذي يصوِّر عالماً تستبدّ به الفوضى وزيادة السكّان، وتوماس فريدمان الذي يُجادل بأنّ "العولمة الاقتصاديّة" غدت السمة السائدة في العالَم. وفي الواقع فإنّ كلّ واحدة من هذه المُقاربات لحقيقة الصراعات على الساحة الدوليّة تملك ما يُسهم به في فهمنا لطبيعة هذه الصراعات وخلفيّاتها، إلّا أنّ أيّاً منها لا تُقدّم تفسيراً متكاملاً لشؤون العالَم الرّاهنة.

تَفترض أطروحة هانتنغتون حول صدام الحضارات العالمي أنّ الدول سوف تُطوِّر سياساتها الأمنيّة على قاعدة الولاء لجماعةٍ دينيّة أو "حضاريّة" بعَيْنِها؛ بيد أنّ الواقع يشير إلى أنّ السعي المحموم وراء "وفرة الموارد" يجري مع تجاهلٍ كلّيّ لأيّ ولاءات "حضاريّة" بعيْنِها. وهذا ما نراه في منطقة حوض قزوين أو الشرق الأوسط أو أفريقيا.

أمّا اندلاع العنف والفوضى في أفريقيا، كما يصوّره كابلان، فلم يثنِ شركات الطاقة الكبرى عن إقامة أعمال تجاريّة نفطيّة مربحة وتطويرها في هذه المناطق، ولا الشركات الغربيّة الأخرى عن العمل على وضع اليد على مكامن المعادن الثمينة والنادرة في القارّة السوداء.

وفي حين تقطع نظريّة فريدمان في العولمة شوطاً طويلاً في اتّجاه تفسير الأسبقيّة الرّاهنة للعلاقات الاقتصاديّة في الشؤون الدوليّة، فإنّها تفترض أنّ معظم النزاعات على الموارد سوف تُحَلّ من خلال آليّات السوق، متجاهلةً بذلك حقيقة أنّ الحكومات شنّت الحروب مراراً من أجل ما اعتبرته "مصالح قوميّة حيويّة". خلاصة القول إنّه من غير المُمكن تفسير القوى المحرّكة لشؤون الأمن العالمي من دون الاعتراف بالأهميّة المحوريّة للمُنافسة على الموارد (من دون التقليل من أولويّة العوامل الجيوسياسيّة بالطبع)، مع التركيز على مسألتَيْن أساسيّتَيْن هما "ندرة الموارد" والطلب المتزايد عليها "الذي لا يشبع".

مع انهيار الاتّحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة وتولّي بيل كلينتون السلطة مطلع العام 1993 أصبحت المُقارَبة المرتكزة على الاقتصاد (econocentric) للأمن القومي سياسة رسميّة للإدارة الأميركيّة، عُبِّر عنها رسميّاً على لسان وزير الخارجيّة كريستوفر آنذاك، حين قال: "لن نخجل من ربط دبلوماسيّتنا الرفيعة بأهدافنا الاقتصاديّة". وبعدما أشار إلى أنّ العالَم دخلَ حقبةً تتفوّق فيها المُنافَسة الاقتصاديّة على التنافُس الإيديولوجي، وعدَ بأنّ الإدارة سوف "تدفع الأمن الاقتصادي لأميركا إلى الأمان بالقوّة نفسها وسعة الحيلة اللّتَيْن كرّسناهما لشنّ الحرب الباردة".

من هذا المنطلق يُمكن فهم الاستراتيجيّة الأميركيّة. لقد تمثَّل الهدف الأعلى لهذه الاستراتيجيّة على الدوام في خلْق وصوْن وتعزيز منظومة عالميّة من التحالُفات العسكريّة والسياسيّة قادرة على احتواء الخصوم وإلحاق الهزيمة بهم عند الضرورة. ولكن إلى جانب هذا الهدف الأعلى، ثمّة مجموعة من الأهداف الكبرى الأخرى، من بينها ضمان وصول الولايات المتّحدة إلى مخزوناتِ ما وراء البحار من الموارد الحيويّة، وفي مقدّمها النفط والغاز، تُضاف إليهما الآن باقة من المعادن النادرة والثمينة التي لا بديل منها في الاقتصاد الحديث، اقتصاد المعرفة القائم على التكنولوجيا فائقة الدقّة. وهكذا، تُشكّل حماية تدفّقات الموارد الحيويّة العالميّة سمةً بارزة للسياسة الأمنيّة الأميركيّة، والغربيّة عموماً (وكذلك بالنسبة إلى القوى الكبرى الأخرى أيضاً). بحيث أصبح تحقيق الربط بين المصالح الاقتصاديّة والمصالح الجيوسياسيّة على نحوٍ لا ينفصم في رأس الأولويّات العليا للإدارات الأميركيّة المُتعاقبة. فمن دون تدفُّقٍ ثابتٍ وموثوقٍ للموارد الأساسيّة لا يُمكن للاقتصاد الأميركي أن يتوسّع وينمو ويُنتِج على نحوٍ يَضمن تفوّقه في خضمّ المُنافسة العالميّة في وجه أقطابٍ صاعدة واقتصاداتٍ ناشئة. وفي هذا الإطار فإنّ التدفّق المتواصل لإمدادات الطّاقة أمرٌ حاسم بشكلٍ خاصّ بالنسبة إلى الولايات المتّحدة. فهي، بوصفها المُستهلِك الرئيس للنفط والغاز في العالَم، تَضع في صلب عقيدتها الأمنيّة ضرورة امتلاك حريّة الوصول إلى الإمدادات من ما وراء البحار.

من هنا يَبرز الدور الرئيس للقوّات المسلّحة الأميركيّة في "حماية إمدادات الطّاقة للأمّة". وتبدو الحاجة لاستعمال هذه القوّات في حماية تلك الإمدادات مسألة مفهومة سلفاً من الجمهور الأميركي بشكل عامّ.

المعادن النادرة "نفط" الاقتصاد الحديث

عند الحديث عن الموارد والصراع عليها، كان أوّل ما يتبادر إلى الذّهن مصادر الطّاقة من نفط وغاز، لِما لهما من أهميّة عظمى بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي ولموازين القوى الاقتصاديّة في العالَم. ولكن اليوم، في ظروف الاقتصاد الحديث، الاقتصاد المرتكز على المعرفة، حيث التكنولوجيا فائقة الدقّة وصناعة الإلكترونيّات تلعب دوراً محوريّاً في ترسيخ قوّة هذا الاقتصاد أو ذاك وتعزيز قدرته التنافسيّة وتحديد موقعه في ميزان الاقتصاد العالمي، تبرز أهميّة المعادن النادرة والثمينة التي تدخل في تصنيع تلك التكنولوجيا. من أهمّ تلك المعادن اللّيثيوم Lithium (يُستخدَم في مجال الإلكترونيّات وصناعة البطّاريّات وصناعة أجزاء الطائرات)؛ البالاديوم Palladium (يُستخدم في صناعة عوادم السيّارات وفي مجال الإلكترونيّات وطبّ الأسنان وتنقية الهيدروجين ومعالجة المياه والمجوهرات)؛ البيريليوم Beryllium (يدخل في تصنيع المركبات الفضائيّة والصواريخ والأقمار الصناعيّة ومكابح الطائرات الحربيّة، وتُستخدم صفائح البيريليوم في تصميم الأسلحة النوويّة)؛ التانتالوم Tantalum (يُستخدم في الصناعات الدقيقة للطائرات وبخاصّة مراوح الطائرات النفّاثة وأجزاء الصواريخ والمفاعلات النوويّة وفي الهواتف النقّالة ومعدّات الجراحة)؛ الزركونيوم Zirconium (يدخل في تصنيع المركبات الفضائيّة والتجهيزات المخبريّة والأجهزة الطبيّة وتلبيس المفاعلات النوويّة)؛ الكوبالت Cobalt (تُستخدم سبائك الكوبالت في صناعة ريش العنفات الغازيّة والمحرّكات الفضائيّة)؛ النيوبيوم Niobium (يُستخدم على نطاقٍ واسع في صناعة الهواتف النقّالة والمؤثّرات البصريّة وفي أنظمة التصوير بالرنين المغناطيسي)؛ الكولتان Coltan (يُستخدم في صناعة المكثّفات الكهربائيّة التي تُعتبر أساساً للكثير من الأجهزة الإلكترونيّة، كالهواتف النقّالة والحواسب المحمولة ومُحرِّك الأقراص الضوئيّة)؛ التنغستن tungsten (يُستخدم كعنصر انصهاري مع اليورانيوم المُستخدم في محرّكات الصواريخ النوويّة وفي تحويل الطّاقة الحراريّة والكهربائيّة، وكذلك في الفيزياء النوويّة والطبّ النووي)؛ الهافنيوم Hafnium (يُستخدَم في تصنيع أشباه الموصلات وفي محطّات الطّاقة النووويّة).. وغيرها.

هذه المعادن هي في الواقع كنوز لا تُقدَّر بثمن، لا تقلّ أهميّتها عن الثروات الطاقيّة من نفط وغاز، لا بل يُمكن القول إنّها تفوقها أهميّة في ظروف الاقتصاد الحديث، ويدور حول الوصول إلى مصادرها والاستحواذ عليها اليوم صراعٌ عنيف بين القوى الاقتصاديّة الكبرى في العالَم.

فالنّزاع الدائر على الأرض الأوكرانيّة بين التحالف الذي تقوده الولايات المتّحدة من جهة، وروسيا من جهة أخرى، له من دون شكّ أبعاده الجيوسياسيّة، وهي أبعاد تناولناها في مقالاتٍ سابقة. بيد أنّه ينطوي في الوقت نفسه على بُعدٍ آخر لا بدّ من التوقّف عنده. فباطن الأرض الأوكرانيّة غنيٌّ بثروةٍ طائلة من المعادن الثمينة التي يسيل عليها لعاب الدول الغربيّة والشركات الكبرى العابرة للقوميّات. وتفيد المعطيات المتوافرة، لفترة ما قبل الحرب، بأنّ باطن الأرض الأوكرانيّة يحتوي على قرابة خُمس الثروات من هذه المعادن في الكرة الأرضيّة. وتُشير معطيات نشرة Mining World Russia (وهو المعرض الدولي للآلات والمعدّات التي تُستخدم في الصناعات الاستخراجيّة وصناعة معالجة الموادّ الأوليّة، ويُنظَّم سنويّاً في روسيا) إلى أنّ أوكرانيا تملك احتياطيّات مؤكّدة وأخرى مُحتملة ضخمة من المعادن الثمينة والنادرة، بما فيها مكامن فريدة من نوعها من البيريليوم والزركونيوم والتانتالوم، وكذلك مجموعة من خامات الفوسفور وفلزات المعادن النادرة الأخرى. ويلفت الخبراء الانتباه إلى أنّ أوكرانيا تملك أيضاً أضخم احتياطيّات في أوروبا من اللّيثيوم وكذلك كميّات كبيرة من الكوبالت والنيكل وخامات المنغنيز.

أشارت نشرة Forbes العام الماضي إلى أنّ القيمة الإجماليّة للثروات في باطن الأرض الأوكرانيّة تُقدَّر بنحو 14 تريليون دولار. علماً أنّ المناطق الأكثر "ثراء"، حيث تتركّز حوالي 50% من المعادن الثمينة، خرجت من تحت سيطرة نظام كييف. أمّا المناطق المتبقّية فأقلّ ثراءً بكثير. فتقدَّر ثروة منطقة كييف مثلاً، بحسب معطيات فوربس، ﺑ 21 مليار دولار فقط، في حين تقدَّر "قيمة" المناطق الغربيّة من أوكرانيا بقرابة 700 مليار دولار. الأمر الذي يُشكّل إغراءً كبيراً لبولندا التي تتطلّع إلى استعادة المناطق التي انتُزعت منها عقب الحرب العالميّة الثانية.

من الضروري، بالطبع، التعامل بشيء من الحذر مع التقديرات الأوكرانيّة والغربيّة لحَجْم هذه الثروات، والتي قد يكون فيها قدرٌ معيّن من المبالغة، إلّا أنّ ذلك لا ينفي حقيقة وجود ثروة كبيرة في باطن الأرض الأوكرانيّة تُسهم بحدّ ذاتها في تسعير الصراع الدائر بأبعاده الجيوسياسيّة، وتُضفي عليه أبعاداً جيواقتصاديّة واضحة.

سرّ الاندفاع الأوروبيّ ضدّ روسيا

لذلك لم يكُن من المُستغرَب أن تَجذب هذه الثروات "السائبة" ("السائبة" نتيجة حالة الفوضى وعدم الاستقرار السياسي والأمني التي سادت في أوكرانيا بعد الاستقلال ولا تزال) اهتمام الدول الغربيّة، وخصوصاً في الاتّحاد الأوروبي، بعد تفكُّك الاتّحاد السوفياتي؛ فالدول الأوروبيّة فقيرة بالموادّ الأوليّة، وتطوُّر الاقتصادات الحديثة فيها وصناعة الإلكترونيّات المعقّدة بحاجة للوصول بسهولة إلى هذه الثروات ووضْع اليد عليها من دون تكلفة باهظة. وهو سلوك درجت عليه هذه الدول منذ الحقبة الاستعماريّة في بلدان آسيا وأفريقيا وأميركا اللّاتينيّة. وهذا ما يُفسِّر الحماسة الكبيرة والاندفاع "المتهوّر" أحياناً في انخراط دول الاتّحاد الأوروبي في المُواجَهة مع روسيا ودخولها الفعلي طَرَفاً في الحرب إلى جانب أوكرانيا.

أمّا واشنطن التي امتلكت أسوأ سمات "الحضارة الاستعماريّة" الأوروبيّة، فقد رأت في أوكرانيا مصدراً مضموناً لسدّ جزء من حاجاتها إلى المعادن النادرة. فبحسب معطيات صحيفة Financial Times نحو 80% من حاجات الولايات المتّحدة من هذه المعادن، بما في ذلك للصناعات الحربيّة، تُستورد من الخارج، وتحديداً من آسيا، بما في ذلك من الصين. وتشير الصحيفة نفسها إلى أنّ المعنيّين في بكين يدرسون فكرة وقف الإمدادات من هذه المعادن إلى الولايات المتّحدة في حال تجاوَزت الأخيرة "الخطوط الحمر" في صراعها معها.

لذلك، وفي ظلّ احتدام الصراع بين القطبَيْن العالميَّيْن على الزعامة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، تسعى واشنطن إلى تنويع مصادر الحصول على المعادن النادرة. وهي تَستخدم في ذلك وسائلَها المعهودة لتغيير الأنظمة، سواء من خلال التدخّل المباشر أم "الثورات الملوّنة" ومن ثمّ إقامة أنظمة موالية لها في البلدان التي تمتلك مثل هذه الثروات.

في هذا السياق، سياق الوصول إلى مصادر المعادن النادرة، فضلاً عن المُجابهة الجيوسياسيّة الأوسع مدى مع روسيا، يبدو انقلاب العام 2014 في كييف "مشروعاً" أميركيّاً مربحاً وذا جدوى اقتصاديّة وجيوسياسيّة كبرى. علماً أنّ القسم الأكبر من الموارد الطبيعيّة في أوكرانيا التي تَجذب اهتمامَ الدول الغربيّة تَقع في المناطق الشرقيّة منها:

فلزات المعادن في حوض كريفوروج، خامات المنغنيز في منطقة نيكولوبولسك، اللّيثيوم في منطقتَيْ الدونباس وكريفوغرادسك، الهافيوم والنيبيوم والتانتالوم والبيريليوم والزركونيوم في مناطق زاباروجيه وخيرسون والدنيبر. وليس من قبيل المصادفة أن تكون كلّ هذه المناطق ساحةً للمعارك الدائرة منذ أكثر من عامَيْن ونصف العام؛ فالخلفيّة الجيواقتصاديّة للحرب لا تقلّ أهميّة عن خلفيّاتها الجيوسياسيّة.

وما يحصل في أوكرانيا ليس مثالاً منعزلاً. بل إنّ ما جرى ويجري في أفريقيا قد يكون أشدّ وطأة؛ فبعدما تكشَّف حجْم الكنوز من المعادن الثمينة الكامنة في باطن الأرض الأفريقيّة، تحوّلت القارّة إلى ساحةٍ لتنافُسٍ شديد بين القوى العالميّة التقليديّة التي هيْمنت على القارّة على امتداد قرون (الولايات المتّحدة، فرنسا، بريطانيا، ألمانيا..)، والقوى الصاعدة (روسيا، الصين، الهند، تركيا..). فتُشير الأبحاث بشأن الاحتياطيّات من المعادن النادرة والثمينة في أفريقيا إلى أنّه تتوافر في القارّة احتياطيّاتٌ ضخمة من 17 من أصل 50 صنفاً من هذه المعادن، وأبرزها الكوبالت والكولتان واللّيثيوم والبوكسيت، فضلاً عن الكروم والبلاتين والألماس والذهب.

والجدير بالذكر أنّ عمالقة مُنتجي التكنولوجيا الحديثة في العالَم يُلبّون ما بين 60 و70% من احتياجاتهم من هذه المعادن النادرة والضروريّة للابتكارات الحديثة من القارّة الأفريقيّة. وهذا ما يُفسّر الصراعَ المحموم بين الدول والشركات العالميّة الكبرى من أجل الحصول عليها. وشكَّل هذا التنافسُ الفتيلَ لصراعاتٍ محليّة دمويّة في العديد من بلدان القارّة السوداء. وأبرز مثال على ذلك المأساة الكونغوليّة. فباطن أرض جمهوريّة الكونغو الديمقراطيّة يحتوي على احتياطيّاتٍ ضخمة لمعدن الكولتان الذي يُشكّل عنصراً بالغ الأهميّة لا بديل منه لإنتاج الإلكترونيّات الحديثة. ويتركّز في الكونغو 70% من الإنتاج العالمي من الكوبالت، وهي تحتلّ المركز الأوّل في أفريقيا والثالث في العالَم في تصدير النحاس. كما أنّ أراضيها تحتوي على احتياطيّاتٍ ضخمة من الذهب والألماس والقصدير والتنغستن.

من أجل السيطرة على هذه الثروات تعمل القوى الغربيّة على خلق وتنظيم وتسليح مجموعات كبيرة من الميليشيات والعصابات المحليّة المتصارعة التي تسيطر على أجزاءٍ واسعة من الأراضي الكونغوليّة وعلى عددٍ من مناجم المعادن الثمينة فيها، ومن خلالها تستحوذ الشركات الغربيّة على حصّة الأسد من هذه الثروات تاركةً الفتات للكونغوليّين. فيُنقل الكولتان، مثلاً، بطائرات بلجيكيّة إلى أوروبا لتنتقل بعدها إلى شركة Cobatt الأميركيّة وشركة H.C. Strack الألمانيّة.

كانت محصّلة الصراع بين الدول الكبرى على الثروات الأفريقيّة مؤخّراً نجاح روسيا وكذلك الصين في إخراج دولة كفرنسا، مثلاً، من دول أفريقيّة عدّة ظلّت لعقود طويلة ساحة متاحة للشركات الفرنسيّة، وكذلك في تقليص النفوذ الأوروبي والأميركي في عدد من الدول الأفريقيّة. هذا الصراع كما ذكرنا له أبعاد جيوسياسيّة وجيواقتصاديّة في آن واحد.

والصورة لا تختلف كثيراً في أميركا اللّاتينيّة. فباطن الأرض في هذه القارّة يحتوي على ثروات كبيرة من الموارد الطبيعيّة، من نفط وغاز طبيعي وفحم حجري، فضلاً عن مناجم الحديد والرصاص والزنك والقصدير والفضّة والذهب والبوكسيت ونيترات البوتاسيوم. ونظراً لكون أميركا اللّاتينيّة تُعتبر بمثابة الباحة الخلفيّة للولايات المتّحدة، تبدو القوى العالميّة الأخرى شبه غائبة في التنافُس على هذه الثروات. فتبقى هذه القارّة ساحةً لمحاولات الجارة الكبرى وجهودها لوضْع اليد عليها، والتي تأخذ أشكال انقلاباتٍ مدبَّرة وثوراتٍ ملوَّنة وعقوباتٍ تُفرض على الأنظمة المتمرّدة، بل وتدخّلات مباشرة أحياناً. وشكّلت محاولة الانقلاب الفاشلة مؤخّراً في بوليفيا، والتي تشير كلّ الدلائل إلى أنّ واشنطن كانت محرِّضاً لها، مثالاً ساطعاً على هذه الجهود. فباطن الأرض البوليفيّة يكتنز 24% من احتياطيّات اللّيثيوم في العالم (21 مليون طنّ)، وكانت واشنطن تتطلّع لوضع اليد عليها. بيد أنّ فشلَ المحاولة أفقدها هذه الفرصة، التي لا يعني أنّها لن تتكرّر في المستقبل.

ويبقى الصراع على الموارد، التقليديّة منها، من نفطٍ وغازٍ وفحمٍ حجري وغير ذلك، وكذلك المعادن النادرة الثمينة التي هي بمثابة "نفط" الاقتصاد الحديث، قائماً ومُسبِّباً لحروب وصدامات ونزاعات متناسلة تزداد احتداماً في أكثر من مكان من العالَم، وهو يُنذر بنشوبِ حريقٍ يلفح الكرة الأرضيّة بمُجملها. وهذا ليس بالأمر الجديد، فقد كان الصراع على الموارد سبباً لحروبٍ عالميّة كبرى في الماضي.

*باحث في الشؤون الاقتصاديّة- لبنان

* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.