«العلوم الإنسانية لا تعوزها الأفكار، بل لديها الكثير منها! إنه الشعور الذي يتملكنا، عندما ننظر إلى حالِ مَعارفنا؛ إذ لشدة تعدد المُقاربات والنماذج والحقول البحثية، ربما فَقَدْنا الوضوحَ بشأن العالَم وأنفسنا». كانت هذه الفكرة الأساسية التي خصصت لها مجلة «Sciences Humaines» الفرنسية، في عددها رقم 167 الصادر في يناير من العام 2006، ملفًا خاصًا، ترجَمَ منه الباحثُ التونسي في عِلم الاجتماع محمود الذوادي مقالةً لجان فرانسوا دورتييه Jean - François Dortier، بعنوان «الذكاء المُبعْثَر L›intelligence dispersée»، لتقديمها إلى القارئ العربي.
دخلتِ العلومُ الإنسانية مرحلةً جديدة، حيث إن تعدد ميادين البحوث، وغياب الأُطر الفكرية الموحِدة يَجعلان، وكمُفارَقَة، أي رؤيةٍ كاملةٍ وشاملةٍ، أمرًا مستحيلًا.
الإنسانُ الذي انهارَ عالَمُه
يروي التاريخُ الصحيح أن جنديًا روسيًا جُرح في معركةٍ في العام 1943. اسمُ هذا الرجل الشاب «لاف زتسكيLev Zatteski». عندما صحا فوق سريره في المستشفى شَعَرَ بألمٍ غريب. زتسكي الذي كان قد أُصيب بانفجارِ قنبلة، لم يُحدِث له جُرحُهُ الذي طاوَل المُخ أضرارًا في النظر والذاكرة فقط، بل جَعَلَهُ عاجزًا عن فَهْمِ العالَم الذي يُحيط به. وجودُهُ أمام طعامه جَعَلَهُ يُدرِك بالكامل الشوكةَ والكأس، لكنه لم يكُن بمقدوره أن يتذكر ما هي السكين، وكان يَنظر إلى صَحنه كأنه شيءٌ غريب. ولَم يستطع، على وجه التحديد، إدراكَ المعنى الكامل للوضْع: فتساءلَ لِما تَصلح هذه الأشياء الموجودة أمام غطاء المائدة/ الطاولة؟ وهكذا «انهارَ عالَمُ لاف زتسكي وتطايَر من حوله». ذَكَرَ ذلك في مُستهل مذكراته: «كيف أَصبح صعبًا للغاية التعلمُ من جديد فَهْمَ العالَم (...)، وجمْعُ بقايا صغيرة منه لتغدوَ شيئًا واحدًا، أو كلًا واحدًا؟».
فيما يتعلق بالعالَم الذي يُحيط بنا، نحن مثل لاف زتسكي، نستطيع فَهْمَ أشياءٍ كثيرة؛ حتى أننا نتعرضُ لتدفقٍ هائلٍ ومُتواصِلٍ من المعلومات. لكن المعنى الشامل يفلتُ ويهرب منا. اختلطتِ الأوراقُ. فِكرُنا بات مُتفجرًا ومخلعًا ومُبعثَرًا وسْطَ عددٍ لا يُحصى من المَعارِف المحلية، يصعب معها على أي شبكةِ قراءةٍ كاملةٍ أن تَسمح بجَمْعِها في فكرٍ واحدٍ مُتماسِك. كتبَ لاف «تفكك كَوني». وتفككَ كونُنا أيضًا. الشك والروحُ النقدية
مما لا ريب فيه أنه ليس هناك من زمنٍ سعيد كانت الأفكار فيه واضحةً وبسيطةً وتخلو من الغموض، لكن كان بالإمكان قراءة العالَم بطريقةٍ شفافة. لكنْ كان هناك على الأقل زمنٌ طَرَحتْ فيه العلومُ الإنسانيةُ بضعَ شبكاتِ قراءةٍ شاملة للتفكير في الإنسان والمُجتمع. على مدى القرن العشرين بأكمله، توالى العديد من «البراديغمات الكبرى» التي تناوَبت وتشابَكتْ لكي تُعطي مفاتيحَ فكريةً قادرةً على التفسير: الماركسية، والتحليل النفسي، والمنظور الثقافي، والبنيوية، ونظرية الأنساق. فبالنسبة إلى الماركسيين وهُم كُثُر، كان بالإمكان تحليل المُجتمع والتاريخ استنادًا إلى أُسُسِهما أو قواعدهما الاقتصادية. مع التحليل النفسي، كان بمقدور سلوكياتنا أن تكشفَ الأمورَ الخفية: تلك التي تتعلق بالاندفاعات اللاشعورية؛ أما البنيوية فادعت قدرتها على الكشفِ عن هياكلِ الأساطير والشعائر والمُجتمع وأُسُسِهِم.
يبدو أنه كان للتاريخ معنىً، وللاقتصاد قوانين، وللمُجتمع نظامٌ، وللفَرد هدفٌ. باختصار، يبدو أنه كان هناك انسجامٌ في العالَم، وذلك على الرغم من أنه كان خَفيًا، وكان ينبغي على العلوم الإنسانية كشفُ النقاب عنه.
ثم، ابتداءً من عقد الثمانينيات من القرن الماضي، انهارت البراديغمات الكبرى، ورَحَلَ في الوقت نفسه «قادةُ الفكر وأساتذته»، الذين حَملوا تلك الأُطر الفكرية، الواحدَ تلوَ الآخر.
جاءَ، بعد ذلك، زمنُ التعقيد والفوضى وفقدان الحتمية؛ وفي حين بدا المُجتمعُ عصيًا على القراءة، والفردُ أقل خضوعًا للحتمية، دخلَ الشك العميق أكثر فأكثر في العقول. فكانت نهاية الإيديولوجيات الكبيرة و«الأحجار الفلسفية» التي ادعت تقييد العالَم ضمن قوانين بسيطة (مثل قوانين الاقتصاد، واللاشعور، والبِنى والرموز).
عرفتِ التسعينيات من القرن الماضي النسبيةَ، والشك، ونقْدَ كل ادعاءٍ بامتلاك الحقيقة، وبكونية الأشياء. عُلماء الأنثروبولوجيا شرعوا في نقْدِ خطابِهم؛ عُلماءُ الاجتماع تخلوا عن النظريات العامة للمُجتمع أو للتغيير الاجتماعي؛ التاريخ الشامل الذي حلمَ به مؤرخو مدرسة الحوليات Les Annales أصبح تاريخًا مُفتتًا. وَقَعَ هجرُ منظور النسق في المَيادين كافةً لمصلحة تفضيل الدراسات المحلية الأكثر تواضعًا.
في الوقتِ نفسِه، غَزتِ الانعكاسيةُ التأملية (نقد الذات) ميدانَ العِلم. ومَس تهافُتُ السلطة (كمَعْلَمٍ واضحٍ في كامل المُجتمع) عالَمَ الأفكار وروادَ الفكر أيضًا. أما الشك والروحُ النقدية، وهُما البُعدان الصحيحان أو المُفيدان دائمًا للذكاء، فقد أصبحا أداتَيْن لتذويب جميع المَعارِف. ومن ثم، نَجَحَ «الهدمُ» بقوة في القيام بعَمله. تعدد المعارف المحليةإنها لَمُفارَقة: بينما يبدو أن ذكاءَنا الشامل هو بصدد الذوبان، فإننا لم نتعلم أو نَفهَم أو نُشرحَ أو نُحللَ أو نَدرسَ بالقدر الذي نقوم به اليوم. لم تتجمع لدينا أبدًا في السابق هذه الكثرة الكثيرة من البحوث والدراسات والمفاهيم والمعلومات، وحول سائر الموضوعات. وكمثالٍ من بين أمثلةٍ كثيرة: منذ قَرن، عندما أراد روادُ عُلماء نَفْس الطفل فَهْمَ كيف يتكون العقلُ البشري، اعتمدوا على ملاحظاتٍ أولى. ومذْ ذاك باتت هناك عشرات الآلاف من المُلاحظات والبحوث والدراسات. وتضاعفتِ الدراسات في ما يخص كل مظاهر النمو لدى الطفل (اللغة، الذكاء، العاطفة، العلاقات الاجتماعية)، في فئات الأعمار كلها، من عُمر صفر إلى 3 أشهر، ومن 3 إلى 6 أشهر... إلخ.. وُضِعت نماذجٌ حول موضوع النمو هذا بأشكالٍ مُختلفة.
لكنْ منذ رحيل عالِم النفس السويسري جان بياجيه Jean Piaget الذي كانَ له نَوعٌ من الهَيْمَنة النظرية في ميدان عِلم النفس، يبدو أن مضمار عِلم نَفْس الطفل لم يكُن مُزدهرًا ومُبعْثَرًا في الوقت عَيْنه، مثلما هو عليه الآن. يُمكن قول الشيء نفسه بالنسبة إلى عديدٍ من المَيادين الأخرى مثل اللغة والدين والاقتصاد والتاريخ وعِلم النفس والذاكرة والاضْطرابات العقلية والتنظيمات والضواحي والقرون الوسطى... فليس ثمة استثناءٌ لأي من تلك الموضوعات في البحوث المكثفة المُتزايدة والمُتواصلة. الأرقام مُذهلة هنا: ثمة 3500 مجلة في العلوم الاجتماعية في العالَم تَنشر سنويًا أكثر من 150000 مقالة. هذا من دون الحديث عن نَشْرِ 6000 كتابٍ سنويًا في فرنسا في مجال العلوم الإنسانية (من بين 50000 كتابٍ منشور).
ثمة مُفارَقة بالنسبة إلى المعرفة: فكلما تقدم البحثُ، قل مقدارُ الوضوح. يغمرنا طوفانٌ مُتواصلٌ من المعلومات، الأمر الذي يَجعل من غير السهل الحصول على أُطرٍ فكرية موحدة. وكلما كَثُرَت أماكن إنتاج المَعرفة، ازدادت الصعوبةُ أمام كل منا في فرْضِ وجهةِ نَظَرٍ معينة. باختصار، نَعرف كل شيء، لكننا لا نَعرف أي شيء.
إعادة تركيبات خفية
يُشبِه الفكرُ المُعاصِر ورشةً ضخمةً تمر بعملياتِ إعادة تركيبٍ ليس لها نهاية. وإنه لَمِن الصعب جدًا في المُقابل أن نرى تنظيمًا عامًا وخطوطَ قوة. وعلى الرغم من ذلك، ثمة من وراء الضباب السطحي إعادةُ تركيباتٍ خفية جارية. ثمة أُطُرٌ فكريةٌ جديدة تنوبُ عن القديمة حتى لو لم تأتِ بها «شخصياتٌ فكرية كبيرة» أو مؤلفاتٌ بارزة. فالإطار الفكري المَعرفي/ الذهني أو نظيره في وسائل التواصل الاجتماعي، يؤثر بعضُهُ كثيرًا في مجالاتٍ ضيقة: الانعكاسية التأملية أو الحداثة الثانية لعُلماء الاجتماع، المأْسَسَة في عِلم الاقتصاد أو عِلم السياسة، التطورية التي وَلَجَت عِلم الاقتصاد أو عِلم النفس، المُقارَبة الثقافية في عِلم الجغرافيا، أنثروبولوجيا القريب، ظهور اللغويات المعرفية.. إلخ، تتمثل الصعوبة كلها هنا في إدماجِ هذا العدد الكبير من البحوث للحصول على رؤيةٍ شاملةٍ موحدة.
وإذا كان الكثيرُ من التصورات الجديدة الجارية حاليًا قد بقيَ محصورًا في معارف مُختصة، فذلك عائد إلى فقدانِ الدافع إلى التأليفِ بينها، وإلى الحصاد والتقييم، وخرائط المَعارف. لكن هناك أيضًا، وبخاصة، فقدان الأدوات المفاهيمية الموجهة نحو إعادة دمْج المعارف المحلية بينها.
هكذا، وعلى عتبة القرن الحادي والعشرين، ثمة تحد كبير أمام العلوم الإنسانية؛ فعلى ما يبدو أن جَمْعَ قطع اللغز في إطارٍ واحدٍ أو في كل مُتكامِل أمرٌ مُتعذر، ومُتعذر أيضًا جَمْعُ قِطع اللغز في كل واحدٍ مُتكامِل وإعادةُ إلصاقِ أجزاءٍ من معرفةٍ مفتتة، والعثورُ على حماسة المؤسسين اعتمادًا على المادة الغنية بالمعارف المُتراكِمة في آن. باختصارٍ شديد، تبدو أمامنا عمليةُ «إعادة البناء» صعبةً للغاية.
بعد جرحه، عاشَ الجندي لاف زتسكي، بحسب تعبيره في «عالَمٍ غير مُندمِج». ومن ثم، عزمَ على القيام بعملٍ بطيء لإعادة وضْع نظامٍ في عَقله المسحوق. فأعاد تعلمَ القراءة والكتابة وتفكيكَ العالَم الذي يُحيط به. سردية إعادة البناء سجلها في سيرةٍ ذاتية قرر إعطاءَها عنوان: أنا أستأنِف المعركة.
*عالِم اجتماع من تونس
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.
دخلتِ العلومُ الإنسانية مرحلةً جديدة، حيث إن تعدد ميادين البحوث، وغياب الأُطر الفكرية الموحِدة يَجعلان، وكمُفارَقَة، أي رؤيةٍ كاملةٍ وشاملةٍ، أمرًا مستحيلًا.
الإنسانُ الذي انهارَ عالَمُه
يروي التاريخُ الصحيح أن جنديًا روسيًا جُرح في معركةٍ في العام 1943. اسمُ هذا الرجل الشاب «لاف زتسكيLev Zatteski». عندما صحا فوق سريره في المستشفى شَعَرَ بألمٍ غريب. زتسكي الذي كان قد أُصيب بانفجارِ قنبلة، لم يُحدِث له جُرحُهُ الذي طاوَل المُخ أضرارًا في النظر والذاكرة فقط، بل جَعَلَهُ عاجزًا عن فَهْمِ العالَم الذي يُحيط به. وجودُهُ أمام طعامه جَعَلَهُ يُدرِك بالكامل الشوكةَ والكأس، لكنه لم يكُن بمقدوره أن يتذكر ما هي السكين، وكان يَنظر إلى صَحنه كأنه شيءٌ غريب. ولَم يستطع، على وجه التحديد، إدراكَ المعنى الكامل للوضْع: فتساءلَ لِما تَصلح هذه الأشياء الموجودة أمام غطاء المائدة/ الطاولة؟ وهكذا «انهارَ عالَمُ لاف زتسكي وتطايَر من حوله». ذَكَرَ ذلك في مُستهل مذكراته: «كيف أَصبح صعبًا للغاية التعلمُ من جديد فَهْمَ العالَم (...)، وجمْعُ بقايا صغيرة منه لتغدوَ شيئًا واحدًا، أو كلًا واحدًا؟».
فيما يتعلق بالعالَم الذي يُحيط بنا، نحن مثل لاف زتسكي، نستطيع فَهْمَ أشياءٍ كثيرة؛ حتى أننا نتعرضُ لتدفقٍ هائلٍ ومُتواصِلٍ من المعلومات. لكن المعنى الشامل يفلتُ ويهرب منا. اختلطتِ الأوراقُ. فِكرُنا بات مُتفجرًا ومخلعًا ومُبعثَرًا وسْطَ عددٍ لا يُحصى من المَعارِف المحلية، يصعب معها على أي شبكةِ قراءةٍ كاملةٍ أن تَسمح بجَمْعِها في فكرٍ واحدٍ مُتماسِك. كتبَ لاف «تفكك كَوني». وتفككَ كونُنا أيضًا. الشك والروحُ النقدية
مما لا ريب فيه أنه ليس هناك من زمنٍ سعيد كانت الأفكار فيه واضحةً وبسيطةً وتخلو من الغموض، لكن كان بالإمكان قراءة العالَم بطريقةٍ شفافة. لكنْ كان هناك على الأقل زمنٌ طَرَحتْ فيه العلومُ الإنسانيةُ بضعَ شبكاتِ قراءةٍ شاملة للتفكير في الإنسان والمُجتمع. على مدى القرن العشرين بأكمله، توالى العديد من «البراديغمات الكبرى» التي تناوَبت وتشابَكتْ لكي تُعطي مفاتيحَ فكريةً قادرةً على التفسير: الماركسية، والتحليل النفسي، والمنظور الثقافي، والبنيوية، ونظرية الأنساق. فبالنسبة إلى الماركسيين وهُم كُثُر، كان بالإمكان تحليل المُجتمع والتاريخ استنادًا إلى أُسُسِهما أو قواعدهما الاقتصادية. مع التحليل النفسي، كان بمقدور سلوكياتنا أن تكشفَ الأمورَ الخفية: تلك التي تتعلق بالاندفاعات اللاشعورية؛ أما البنيوية فادعت قدرتها على الكشفِ عن هياكلِ الأساطير والشعائر والمُجتمع وأُسُسِهِم.
يبدو أنه كان للتاريخ معنىً، وللاقتصاد قوانين، وللمُجتمع نظامٌ، وللفَرد هدفٌ. باختصار، يبدو أنه كان هناك انسجامٌ في العالَم، وذلك على الرغم من أنه كان خَفيًا، وكان ينبغي على العلوم الإنسانية كشفُ النقاب عنه.
ثم، ابتداءً من عقد الثمانينيات من القرن الماضي، انهارت البراديغمات الكبرى، ورَحَلَ في الوقت نفسه «قادةُ الفكر وأساتذته»، الذين حَملوا تلك الأُطر الفكرية، الواحدَ تلوَ الآخر.
جاءَ، بعد ذلك، زمنُ التعقيد والفوضى وفقدان الحتمية؛ وفي حين بدا المُجتمعُ عصيًا على القراءة، والفردُ أقل خضوعًا للحتمية، دخلَ الشك العميق أكثر فأكثر في العقول. فكانت نهاية الإيديولوجيات الكبيرة و«الأحجار الفلسفية» التي ادعت تقييد العالَم ضمن قوانين بسيطة (مثل قوانين الاقتصاد، واللاشعور، والبِنى والرموز).
عرفتِ التسعينيات من القرن الماضي النسبيةَ، والشك، ونقْدَ كل ادعاءٍ بامتلاك الحقيقة، وبكونية الأشياء. عُلماء الأنثروبولوجيا شرعوا في نقْدِ خطابِهم؛ عُلماءُ الاجتماع تخلوا عن النظريات العامة للمُجتمع أو للتغيير الاجتماعي؛ التاريخ الشامل الذي حلمَ به مؤرخو مدرسة الحوليات Les Annales أصبح تاريخًا مُفتتًا. وَقَعَ هجرُ منظور النسق في المَيادين كافةً لمصلحة تفضيل الدراسات المحلية الأكثر تواضعًا.
في الوقتِ نفسِه، غَزتِ الانعكاسيةُ التأملية (نقد الذات) ميدانَ العِلم. ومَس تهافُتُ السلطة (كمَعْلَمٍ واضحٍ في كامل المُجتمع) عالَمَ الأفكار وروادَ الفكر أيضًا. أما الشك والروحُ النقدية، وهُما البُعدان الصحيحان أو المُفيدان دائمًا للذكاء، فقد أصبحا أداتَيْن لتذويب جميع المَعارِف. ومن ثم، نَجَحَ «الهدمُ» بقوة في القيام بعَمله. تعدد المعارف المحليةإنها لَمُفارَقة: بينما يبدو أن ذكاءَنا الشامل هو بصدد الذوبان، فإننا لم نتعلم أو نَفهَم أو نُشرحَ أو نُحللَ أو نَدرسَ بالقدر الذي نقوم به اليوم. لم تتجمع لدينا أبدًا في السابق هذه الكثرة الكثيرة من البحوث والدراسات والمفاهيم والمعلومات، وحول سائر الموضوعات. وكمثالٍ من بين أمثلةٍ كثيرة: منذ قَرن، عندما أراد روادُ عُلماء نَفْس الطفل فَهْمَ كيف يتكون العقلُ البشري، اعتمدوا على ملاحظاتٍ أولى. ومذْ ذاك باتت هناك عشرات الآلاف من المُلاحظات والبحوث والدراسات. وتضاعفتِ الدراسات في ما يخص كل مظاهر النمو لدى الطفل (اللغة، الذكاء، العاطفة، العلاقات الاجتماعية)، في فئات الأعمار كلها، من عُمر صفر إلى 3 أشهر، ومن 3 إلى 6 أشهر... إلخ.. وُضِعت نماذجٌ حول موضوع النمو هذا بأشكالٍ مُختلفة.
لكنْ منذ رحيل عالِم النفس السويسري جان بياجيه Jean Piaget الذي كانَ له نَوعٌ من الهَيْمَنة النظرية في ميدان عِلم النفس، يبدو أن مضمار عِلم نَفْس الطفل لم يكُن مُزدهرًا ومُبعْثَرًا في الوقت عَيْنه، مثلما هو عليه الآن. يُمكن قول الشيء نفسه بالنسبة إلى عديدٍ من المَيادين الأخرى مثل اللغة والدين والاقتصاد والتاريخ وعِلم النفس والذاكرة والاضْطرابات العقلية والتنظيمات والضواحي والقرون الوسطى... فليس ثمة استثناءٌ لأي من تلك الموضوعات في البحوث المكثفة المُتزايدة والمُتواصلة. الأرقام مُذهلة هنا: ثمة 3500 مجلة في العلوم الاجتماعية في العالَم تَنشر سنويًا أكثر من 150000 مقالة. هذا من دون الحديث عن نَشْرِ 6000 كتابٍ سنويًا في فرنسا في مجال العلوم الإنسانية (من بين 50000 كتابٍ منشور).
ثمة مُفارَقة بالنسبة إلى المعرفة: فكلما تقدم البحثُ، قل مقدارُ الوضوح. يغمرنا طوفانٌ مُتواصلٌ من المعلومات، الأمر الذي يَجعل من غير السهل الحصول على أُطرٍ فكرية موحدة. وكلما كَثُرَت أماكن إنتاج المَعرفة، ازدادت الصعوبةُ أمام كل منا في فرْضِ وجهةِ نَظَرٍ معينة. باختصار، نَعرف كل شيء، لكننا لا نَعرف أي شيء.
إعادة تركيبات خفية
يُشبِه الفكرُ المُعاصِر ورشةً ضخمةً تمر بعملياتِ إعادة تركيبٍ ليس لها نهاية. وإنه لَمِن الصعب جدًا في المُقابل أن نرى تنظيمًا عامًا وخطوطَ قوة. وعلى الرغم من ذلك، ثمة من وراء الضباب السطحي إعادةُ تركيباتٍ خفية جارية. ثمة أُطُرٌ فكريةٌ جديدة تنوبُ عن القديمة حتى لو لم تأتِ بها «شخصياتٌ فكرية كبيرة» أو مؤلفاتٌ بارزة. فالإطار الفكري المَعرفي/ الذهني أو نظيره في وسائل التواصل الاجتماعي، يؤثر بعضُهُ كثيرًا في مجالاتٍ ضيقة: الانعكاسية التأملية أو الحداثة الثانية لعُلماء الاجتماع، المأْسَسَة في عِلم الاقتصاد أو عِلم السياسة، التطورية التي وَلَجَت عِلم الاقتصاد أو عِلم النفس، المُقارَبة الثقافية في عِلم الجغرافيا، أنثروبولوجيا القريب، ظهور اللغويات المعرفية.. إلخ، تتمثل الصعوبة كلها هنا في إدماجِ هذا العدد الكبير من البحوث للحصول على رؤيةٍ شاملةٍ موحدة.
وإذا كان الكثيرُ من التصورات الجديدة الجارية حاليًا قد بقيَ محصورًا في معارف مُختصة، فذلك عائد إلى فقدانِ الدافع إلى التأليفِ بينها، وإلى الحصاد والتقييم، وخرائط المَعارف. لكن هناك أيضًا، وبخاصة، فقدان الأدوات المفاهيمية الموجهة نحو إعادة دمْج المعارف المحلية بينها.
هكذا، وعلى عتبة القرن الحادي والعشرين، ثمة تحد كبير أمام العلوم الإنسانية؛ فعلى ما يبدو أن جَمْعَ قطع اللغز في إطارٍ واحدٍ أو في كل مُتكامِل أمرٌ مُتعذر، ومُتعذر أيضًا جَمْعُ قِطع اللغز في كل واحدٍ مُتكامِل وإعادةُ إلصاقِ أجزاءٍ من معرفةٍ مفتتة، والعثورُ على حماسة المؤسسين اعتمادًا على المادة الغنية بالمعارف المُتراكِمة في آن. باختصارٍ شديد، تبدو أمامنا عمليةُ «إعادة البناء» صعبةً للغاية.
بعد جرحه، عاشَ الجندي لاف زتسكي، بحسب تعبيره في «عالَمٍ غير مُندمِج». ومن ثم، عزمَ على القيام بعملٍ بطيء لإعادة وضْع نظامٍ في عَقله المسحوق. فأعاد تعلمَ القراءة والكتابة وتفكيكَ العالَم الذي يُحيط به. سردية إعادة البناء سجلها في سيرةٍ ذاتية قرر إعطاءَها عنوان: أنا أستأنِف المعركة.
*عالِم اجتماع من تونس
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.