خالد بن يحيى القحطاني

في عام 1988 م نشر الفيلسوف النمساوي كارل بوبير كتاباً بعنوان (The Myth of the Framework: In Defense of Science and Rationality) أسطورة الإطار: دفاعاً عن العلم والعقلانية، وفيه قدم مفهوماً جديداًيُعرف بـ "العوالم الثلاثة" لتجربة الإنسان، والتي تشمل: عالم الأشياء؛ والتي يعني فيها الواقع المادي، وعالم الوعي، والتي يعني فيها كل ما يتعلق بالأفكار والمشاعر، وعالم الثقافة؛ والذي يتضمن النظم الاجتماعية والثقافيةبما في ذلك القيم والأنظمة والسياسات.

التحليل الفلسفي العميق لتجربة الإنسان وفقاً لمفهوم Popper يمكن أن يؤدي بنا إلى إعادة النظر في الكثير من التجارب التي تحيط بنا من خلال تحليلها بشكلٍ عميق و فهمها بشكل أفضل وفهم كل ما يحيط بها وكل ما يمكن أن يؤثر فيها. وفي هذا السياق؛ يمكن إعادة النظر في مفهوم وتجربة الابتكار وفقاً لما يلي:

1. الابتكار في العالم الأول (عالم الأشياء):

وفي هذا العالم يمكن رؤية الابتكار في التقدم الماديوالتقني وفي تطوير كل جديدي سواء منتجات أو تقنيات أووأدوات، ويمكن قياس الابتكارات في هذا العالم من خلالالمعايير الكمية مثل كفاءة الأداء وتكاليف الإنتاج والنتائجالملموسة. وهنا يعتمد الابتكار على البحث العلميوالتجريبي، والتي يمكن على ضوءها تحسين العملياتوالمنتجات الحالية.

2. الابتكار في العالم الثاني (عالم الوعي):

هنا، يرتبط الابتكار بالتفكير الناقد و بالتفكير الإبداعيوبغيرها من مهارات الوعي أو المهارات الفكرية والتي تعطي الابتكار الفرصة للرؤية من زوايا جديدة ومن مستويات مختلفة تعطيه الفرصة لتحدي المعتقدات الراسخة والنظر لها بنظرة (الشك)، والابتكار في هذا العالم يعتمد على المهارات الفكرية والتي تبدأ في النمو مع الطفل منذ نشأته وفقاً لما تؤول إليه تجاربه.

3. الابتكار في العالم الثالث (عالم الثقافة):

في هذا العالم، يمكن رؤية الابتكار من خلال بيئته المحيطة به والتي يمكن أن تتمثل في كلاً من: القيم الاجتماعية، أو التنظيمية، أو الاقتصادية، أو غيرها من القيم التي تحيط به والتي يمكن أن يكون لها دور اما للتشجيع على الابتكارودعمه أو يكون لها دور في تعطيله.

وعلى ضوء ما سبق؛ يمكن الوصول الى تصورٍ مستدام في كيفية دعم الابتكار والمبتكرين على ضوء تحليل الفلسفة للابتكار ويمكن إيضاح ذلك فيما يلي:

دعم الابتكار في العالم الأول- المادي : ويتم ذلك من خلال الاستثمار في البحث العلمي والتطوير للمساهمة في القدرة على وصف وتحليل جذور المشكلات والتحديات تمهيداً لتطوير الحلول والمنتجات والأدوات المبتكرة التي يمكن أن تتصدى لها، و يتم ذلك أيضاً من خلال إنشاءبيئات تجريبية - معامل ابتكار على سبيل المثال - لاستيعابأنشطة تطوير الأفكار واختبارها وتحويلها إلى منتجات ذات قيمة.

دعم الابتكار في العالم الثاني - الوعي الإبداعي:من خلال عمل كل ما من شأنه تحسين وتعزيز مهارات التفكير النقدي والإبداعي لجميع شرائح المجتمع بشكل عام وللأطفال بشكل خاص نظراً لطبيعة تجاربهم التي لا تزال قابلة للتشكيل.

دعم الابتكار في العالم الثالث - الثقافة الداعمة: من خلال تطوير الأنظمة والسياسات الداعمة والمحفزة للابتكار وهو ما نلامسه في معظم مؤسساتنا في جميع القطاعات والتي بدأت تولي الابتكار اهتمام خاص في هياكلها التنظيمية وسياساتها وأنظمتها خاصة بعد أن أسدل الستار عن هيئة تنمية البحث والتطوير والابتكار في المملكة العربية السعودية في عام 1442هـ بقرارٍ من مجلس الوزراء، والتي أخذت على عاتقها منذ ذلك الوقت مسؤولية دعم وتشجيع قطاع البحث والتطوير والابتكار، وتنسيق نشاطات المؤسسات ومراكز البحوث العلمية، واقتراح السياسات والتشريعات والتنظيمات وتقديم التمويل المتصلة بالقطاع.

وفي الختام يمكن القول إن النظر إلى الابتكار من خلال الفلسفة يمكن أن يوفر لنا إطارًا يساعد في فهم العلاقات المعقدة التي تؤثر في الابتكار، ومن خلال هذا الفهم، يمكننا تعزيز الابتكار والمبتكرين بشكل فعّال، ما يسهم في تحسين المجتمع والاقتصاد.