محمد السعد

لا أحد يستطيع إنكار هيمنة الثقافة الأمريكية وشدة تأثيرها اليوم في شعوب العالم قاطبة. جميعاً نعيش حالة شد وجذب مع نمط الحياة الأمريكي ونتأثر بوعي أو دون بقِدر الصهر الثقافي الأمريكي. فإذا كانت الثقافة الأمريكية تؤثر في من هم خارج حدودها فكيف بمن يعيش على أرض هذه الثقافة. أفراد المجتمع الأمريكي تعود أصولهم غالباً لمجموعة من المهاجرين من شتى بقاع الأرض. جاؤوا للأرض الجديدة بحثاً عن مصادر الرزق وفرص العمل والنجاح، وفي سبيل ذلك كانوا يقبلون الهوية الجديدة بصدر رحب ولو أدى ذلك لقطع كل العلاقات الثقافية مع بلدانهم الأم.

أصبح اللسان الأمريكي بالنسبة لهذا الحشد الكبير والمتنوع -عرقياً وثقافياً ودينياً- هو لسان التداول في التعليم والاقتصاد والفن والأدب وفي كل مناحي الحياة. فالكل خرج من قِدر الصهر الأمريكي إنساناً جديداً والكل يحمل مشتركاً يربطه بباقي الأعراق والقوميات ألا وهو اللسان والثقافة الأمريكية. وعملية الإدماج الثقافي لمختلف العرقيات والقوميات لم تكن ناعمة وسلسة، فمن الطبيعي أن تقابل في البداية بنوع من المقاومة الثقافية ورفض الانصهار في المجتمع المضيف وهو المجتمع صاحب الثقافة المهيمنة بطبيعة الحال، ورفض الانصهار بالذات مع الأجيال الأولى من المهاجرين، يبدو واضحاً جلياً وغالباً ما ينتج عنه أشكال من الصراع الثقافي والعرقي قد يصل مستوى أعمال العنف والإرهاب والقتل.

حالة المجتمع الأمريكي مع التعددية الثقافية والمهاجرين الجدد، تبدو مشابهة لحد كبير لحال المجتمع العربي في العصر العباسي وما بعده. فبعد الفتوحات الواسعة التي حققها الإسلام لم يعد الإسلام ديناً محدوداً على فئة صغيرة من البشر، بل أصبح عالمياً تعتنقه عناصر متعددة الأجناس والبلدان عرفوا بالموالي. وهؤلاء رغم استعرابهم من حيث اللغة لم تكن عملية امتزاجهم بالمجتمع العربي المضيف سلسة ومباشرة ولم يتنكروا لماضيهم وتقاليدهم ومعتقداتهم الدينية. ويمكن اعتبار حضور الفلسفة اليونانية في المجتمع العباسي شكلاً من أشكال المقاومة الثقافية في ظل مجتمع يؤمن بالقرآن الكريم كتاباً مقدساً وأساساً للحياة الدينية ومبدأ لكل القيم الثقافية والاجتماعية.

ومع وجود أقليات دينية تتألف من أفلاطونية وزرادشتية ومانوية، وكان وضعها غير معترف به قانوناً ورغم هذا ظلت تحافظ على تقاليدها الدينية وحاولت تكييفها مع الديانة الجديدة كي تبدو منسجمة مع تعاليم الإسلام. فكثير من الموالي من الفرس من الجيل الأول والثاني لم ينسوا أصلهم الأجنبي ولم يذوبوا في البوتقة العربية الكبرى بشكل كامل، فأخذ الانقسام بين العرب والعجم يبرز يوماً بعد يوم، وما انتبه صناع القرار في الدولة العباسية لخطر الوافدين الجدد إلا بعدما استفحل أمرهم. فأخذوا يعطون مسألة «إدارة التنوع الثقافي» اهتماماً أكبر وأكثر شمولاً فكانت ترجمة كتب الفلسفة اليونانية نتيجة طبيعية لفهم ثقافة الآخر ومعتقداته الدينية وطريقته في التفكير.

ففي أي خانة نضع شخصية مثقفة كالجاحظ داخل إطار حركة المجتمع العربي المتسارعة، وما الأدوار التي لعبها في خضم التغيرات المجتمعية السريعة التي يمر بها المجتمع العربي منذ البعثة النبوية وحتى عصر الجاحظ الذي شهد تنوعاً عرقياً وثقافياً كبيراً؟ لعب الجاحظ بشخصيته البراغماتية أدواراً مزدوجة ومتداخلة. فقد عرفنا الجاحظ أديباً وناقداً اجتماعياً ولكنه في الحقيقة كان يلعب أدواراً سياسية حساسة في كثير من مؤلفاته وأهمها كتاب «البيان والتبيين». هذا الكتاب وإن كان مرجعاً أدبياً يأصل للبلاغة العربية وثقافتها ولكنه يتضمن شيئاً من التحيز للمعتزلة. كانت الغاية من كتابته الرد على الشعوبية بتبيان تفوق العرب في البلاغة وكانت حملته النقدية ضد الأعاجم وخصوم الدولة العباسية موازياً لرغبته في خلق دعاية سياسية للمعتزلة كذلك، ففي كتابه «البيان والتبيين» يظهر الجاحظ منحازاً فقد منح مساحة من كتابه للدعاية لرموز المعتزلة والتعريف بهم.

الطابع السياسي لمؤلفات الجاحظ ودوافعه المزدوجة يتجلى في هجومه الشرس على خصوم الدولة العباسية من العجم والشعوبيين، ولكنه في السياق ذاته يقدم دعاية لموروث غير عربي يتمثل في فكر الاعتزال وعنوانه الأبرز قضية نفي الصفات عن الخالق. لم تكن إثارة قضية الصفات نتيجة لتحكيم العقل أو تقديم العقل على النقل في تأويل النصوص بل هي موروثات دينية جاءت مع الوافدين الجدد للمجتمع العربي واصطدمت بالثقافة الإسلامية وبالنصوص القرآنية، وهنا يتجلى الموقف المزدوج للجاحظ في كتابه الشهير والأبرز «البيان والتبيين».