الحروب الافتراضية تدور رحاها على الشبكة العنكبوتية، لذا فقد بدأت الدول المتقدمة بتقليص ميزانيات الإنفاق العسكري على الأسلحة التقليدية وضاعفت قدراتها على تطوير تقنيات الواقع الافتراضي
الحروب القادمة لن تعتمد على الجيوش البرية والطائرات والبوارج الحربية والقنابل الذرية، بل ستكون حروباً افتراضية تعتمد على القدرات الذاتية للدول في حماية شبكاتها المعلوماتية ومواقعها الإلكترونية، بالإضافة لخبراتها الفنية وعلومها التقنية في توجيه الضربات المؤلمة لأعدائها لشل شبكاتهم وإعطاب مواقعهم وتعطيل جميع قدراتهم الهجومية والدفاعية والتشغيلية.
مُصطلح الافتراضية يعود إلى قدرة تقنية المعلومات على محاكاة الواقع بصورة تُقارب ما يجري على أرض الواقع، مثل برامج الكومبيوتر المستخدمة في التدريب على الطيران والملاحة الجوية والبحرية. أما الحروب الافتراضية فهي تحاكي الصراعات بين الدول دون سفك الدماء واحتلال الأراضي، لكونها صراعاً بين الموجات والإلكترونيات والبرمجيات. ويعمل جنود الحروب الافتراضية من خلال لوحات المفاتيح وأزرار الحاسوب، بينما تتكون ميادين القتال فيها من الألياف الضوئية وأشباه الموصلات والفضاء الإلكتروني. وتضم أسلحتها ترسانة معقدة من فيروسات الكومبيوتر والنبضات الإلكترونية وإشارات الليزر التي تحدث تدميراً جوهرياً في البنية الأساسية للعدو دون علمه بمصدر الاعتداء. لذا بدأت الدول المتقدمة في تقليص ميزانيات الإنفاق العسكري على الأسلحة التقليدية وضاعفت قدراتها على تطوير تقنيات الواقع الافتراضي.
التعاملات الإلكترونية أصبحت اليوم أكثر الخدمات استخداماً في الدول لمعالجة المعلومات وتوفير البيانات وتوليد الطاقة وتحلية المياه وتشغيل البنوك والمستشفيات والجامعات وتوجيه الطائرات والقطارات والسفن وإدارة معظم العمليات الأمنية والحربية. لذا تحولت الحروب عبر التاريخ من حروب برية وبحرية وجوية وفضائية إلى ما يعرف اليوم بالحروب الافتراضية التي تدور رحاها على الشبكة العنكبوتية. كل ما نحتاج إليه خبراء في تقنية المعلومات وعلماء في فك التشفير وضغطة واحدة على زر الكومبيوتر لنصيب أهداف العدو بالشلل التام ونفقده السيطرة والتحكم الكامل على كافة إمكانياته الدفاعية والاقتصادية والمالية، لتفوق حجم خسائره البشرية والاجتماعية والمالية والاقتصادية كل تقدير وتتجاوز مئات أضعاف خسائر الهجوم العسكري التقليدي.
خلال الأشهر الثلاثة الماضية وعلى نحو غير مسبوق اكتشفت شركة جوجل وحدها 3000 مليون رسالة ملغومة بالهجمات الافتراضية، وفي يوم واحد أبطلت مفعول 188 مليون فيروس إلكتروني. هذا في الوقت الذي وصل عدد مستخدمي الإنترنت في العالم إلى 2400 مليون نسمة، يتبادلون آلاف الملايين من الرسائل داخل 622 مليون موقع افتراضي و3763 مليون حساب إلكتروني، نصفهم يستخدم شبكات التواصل الاجتماعي وربعهم لديه حسابات في فيسبوك وتويتر.
مجلة الإيكونوميست البريطانية كشفت في عددها الماضي أن الدول المتقدمة بدأت قبل ثلاث سنوات بإنشاء قيادات أمنية تقنية جديدة تحت اسم إدارة الحروب الافتراضية، لتتولى مهام الدفاع ضد الهجمات الإلكترونية المحتملة، وتقوم بتنفيذ عمليات الهجوم الإلكتروني ضد أهداف العدو عند الضرورة. واعتبر حلف شمال الأطلنطي ناتو أن الحروب الافتراضية أصبحت حقيقة عسكرية واقعية وينبغي التعامل معها بجدية والتهيؤ لها. كما أعلنت بريطانيا خلال الشهر الجاري أن الاعتداء عليها عبر الفضاء الافتراضي هو أحد ثلاثة تهديدات تشكل خطراً على الأمن القومي البريطاني بعد الإرهاب وتباطؤ الاقتصاد العالمي. لذا أنشأت بريطانيا جهازاً أمنياً مميزاً تحت اسم جي سي إتش كيو لتمكينها من مراقبة الأعداء في الفضاء الافتراضي وإعداد الخطط الاستراتيجية لمهاجمتهم وشل حركتهم.
منذ بدء استخدام الإنترنت في 1985 والعالم يتنافس على العلوم والتقنية لمواكبة مسيرة انتشار مفهوم الحرب الافتراضية. في إحصائية سنوية لنسبة الأشخاص في دول العالم المختلفة الذين يحملون شهادات في العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات، فوجئت أميركا في العام الماضي بأن النسبة تصل إلى 47% في الصين و38% في كوريا الجنوبية و28% في ألمانيا و4% فقط في أميركا.
في العام الماضي استيقظت إيران ذات صباح على أعطاب شديدة وخلل كبير ينتشر في عدد من مواقعها الصناعية، حيث تم تدمير 30 ألف جهاز كمبيوتر بواسطة فيروس ستاكس نت الذي تعتقد طهران أن إسرائيل وأميركا وراء هذا الهجوم الافتراضي لتعطيل برنامجها النووي. وبعد تحليل طهران للفيروس، ثبت أنه معقد للغاية ويتكون من عدة تشفيرات لا يمكن فكها أو تحييدها.
وكانت أول حرب افتراضية قد وقعت في أبريل 2001 بين أميركا والصين عندما اصطدمت طائرة تابعة للبحرية الأميركية بطائرة نفاثة صينية، وهو الحادث الذي أودى بحياة الطيار الصيني، في حين اضطرت الطائرة الأميركية إلى الهبوط الاضطراري في جزيرة هينان الصينية وتعرض طاقمها للاعتقال لمدة 11 يوماً وسط اتهامات بهجمات أميركية على شبكات الكمبيوتر الخاصة بمؤسسات الصين.
وفي أواخر عام 2006، أغلقت مراكز الكمبيوتر بوزارة الدفاع الأميركي لمنع هجوم افتراضي واسع النطاق لم يتم الإعلان عنه، كما أغلقت الشبكة الإلكترونية لكلية الحرب البحرية الأميركية تماما بفعل هجوم افتراضي صيني، وأصيبت أجهزة الكمبيوتر الخاصة بمكاتب الصناعة والعلوم بوزارة التجارة بأعطال جعلتها عاجزة عن الاتصال بشبكة الإنترنت لمدة شهر كامل. وفي يونيو 2007 تعطلت أنظمة الاتصال الإلكتروني بمكتب وزير الدفاع الأميركي من دون أن يسمي البنتاجون مصدر الهجوم، وإن كانت تقارير إعلامية وجهت أصابع الاتهام إلى الصين.
تطور تقنية الحروب الافتراضية وعلوم الإلكترونيات والحاسبات والاتصالات ونظم المعلومات جعل من الجهاز العصبي المركزي للفرد أقل تكيفاً للتعامل مع متطلبات حروب القرن الـ21، لذا على أجهزتنا العسكرية والأمنية اللجوء فوراً لمقومات الذكاء الاصطناعي واستخدام شبكات المشبّهات واكتساب الخبرات العملية التفاعلية ودعمها بأدوات التقنية الافتراضية في مجالات النشاط العسكري والأمني.