أثير السادة

هذا الصباح كانت المذيعة الإخبارية تحصي لنا عدد ضحايا غارات الأمس، مجزرة جديدة، هكذا قال المراسل حينها، ارتقى فيها إلى السماء أربعون، وبقي ستون يعالجون أوجاعهم وجراحاتهم المفتوحة على حد الموت، عوائل دفنت بالكامل تحت التراب، قيل إنهم كانوا يمضون الليلة في مربع إنساني، هذا وصف المكان، ويراد به مساحة صغيرة يلوذ بها الناس مخافة الوقوع في مرمى النيران، ومقابر النسيان، وعربات الموت الليلية.

لعله اليوم الثامن والثلاثون بعد الثلاثمئة من أيام العدوان على الإنسان في غزة، أيام خفقت فيها القلوب مرارا، دون أن تلقي هذه الحرب الظالمة أوزارها، الحرب التي تقترب من إكمال عامها الأول، وكل إنجازاتها هو تحويل الإنسانية إلى قيم مصلوبة على خشبة الانتقام والإجرام، شاحبة تبدو الكرة الأرضية وهي تكمل فصول الفرجة على أطول عرض تراجيدي على هذا الكوكب، جرى فيها تصريف بضاعة القتل لأجل الظفر بأنهار من الدم، لوحش لا يرتوي إلا بإغماضة عين الحياة.

يأتي اليوم الجديد وحلم كل إنسان في ذلك البلد المنكوب هو أن يتحسس رأسه، وأن يحيل الأمل خبزا يعتاش به لكي يحيا إلى يوم آخر، يحصون أنفاسهم بمثل ما يحصون عدد القتلى، يألفون الموت حد السكر، لكنهم يصرون على الحياة، أولئك الذين باتوا يجمعون أشلاء أحبائهم في أكياس، ويزنونها في ميزان الآخرة، لا يغادرون الثقة بالله، كلما غادروا من مكان لآخر، بحثا عن خشبة خلاص، حملوا معهم أرواحهم المشدودة إلى نور الله، فتهبهم الصبر والسكينة والرضا، كما تهبهم الإيمان العميق بحقهم في هذا التراب الذي ارتوى من دمائهم كثيرا طيلة العقود الماضية.

لم يتعلق إنسان بوطنه كما تعلق هؤلاء المحاصرون من كل مكان، حتى حين طاروا باتجاه كل الدروب وانتشروا في أصقاع الأرض، جعلوا من حب وطنهم وثيقة سفر، وعنوانا دائما، يعودون إليه كلما أظلم الليل، وفاض الحنين، تهبط أرواحهم على صوره وذكرياته، يتعطرون من هوائه ونسمات سمائه، لأنه بمثابة المبتدأ والخبر في وجودهم، والمقدمة والخاتمة في حياتهم التي كتب عليها الشتات والضياع، أو البقاء كحراس لأنفاس المكان المغدور به.

عام كامل وغزة في طاحونة الموت، ونحن في عالم الفرجة نتأرجح على حد الشعور بالوخز، والعجز، جاءت الحرب ومشهد القضية يكاد يمضي إلى متحف النسيان، إلى الحد الذي نسي الناس فيه عواطفهم معلقة على شماعات في الأرشيف، يعلوها الغبار، ويغلب عليها الانكسار، عواطفهم لا تنهض إلا مثقلة، وكأنها محمولة على الخوف من الخسارات، مشغولة فقط بتحديد من أطلق صافرة الحرب، ومن أيقظ مارد القتل من سباته، إلى الحد الذي أصبحت فيه مشاعرنا توزن بميزان، ومواقفنا تتقاذفها أرصدة الخصومة مع هذا الفريق أو ذاك.

هم على حافة الموت يوميا بمثل ما هم على حافة الأمل، يفخخون شمس اليوم التالي بالكثير من الأمنيات، يصلون على جنائزهم، ثم يعودون للصلاة في محراب الصبر، فسلاحهم الوحيد هو مقاومة اليأس، لأن حياتهم مستحيلة من دونه، وهذا ما يجعلهم يبتكرون في كل يوم سببا آخر للحياة، يتعبون فيصرخون، وفي صراخهم دعوة مفتوحة إلى السماء بفرج قريب، تكفيهم صورة الأكفان الملطخة بالدم، ويهبهم اخضرار الشجر الذي ما زال هو الآخر يحامي عن وجوده في حقول فلسطين.