متى؟ وكيف؟ ولماذا بدأ الإنسان يولي اهتمامًا إلى ذاته اللّا ماديّة؟ ذاته الفرديّة وذاته الجماعيّة على حدّ سواء؟
في سياق هذا السؤال كان انشغال فلسفة التاريخ بالأمر؛ فقد نَشأ نَوعٌ من الرواية «العضويّة» للتاريخ على يد الألمانيّ أوسفالد شبنغلر (1880 – 1936) والبريطانيّ أرنولد توينبي (1889 – 1975).
هذه السرديّة تسلِّط الضوءَ على نشأة ثقافات أو عضويّات ثقافيّة من الكتلة السديميّة للوجود البدائيّ. هذه العضويّات الثقافيّة تبلْورت على مدى ستّة قرون، وهو ما سمّاه الفيلسوف الألمانيّ كارل ياسبرس بـ«العصر المحوريّ».
والعصر المحوري مفهوم يتعلّق بتاريخ الفلسفة اليونانيّة والأديان السماويّة والحكمة الآسيويّة (الصين، الهند، والفرس)، قامَ بصياغته كارل ياسبرس بعد فيكتور فون (1859) وإرنست فون لاسولكس (1870)، للإشارة إلى الحقبة التاريخيّة القديمة الممتدّة من 800 إلى 200 قَبل المسيح.
أَدخل ياسبرس هذا المفهوم في كِتابه «أصل التاريخ وهدفه» (1949). وضربَ مثلًا بأهمّ الشخصيّات الروحيّة وقادة الفكر، أمثال الحكيمَيْن الصينيَّيْن كونفوشيوس ولاوتسي والهندي بوذا، والفارسي زرادشت والعبقريّة اليونانيّة وكذلك الديانات السماويّة. ففي كلّ مكان من بلاد الرافدين وبلاد النيل وبحر إيجه وبلاد الصين والهند، شهدَ هذا العصر سماتٍ مُشترَكة، وفق ياسبرس.
وحول ما سمّاه «بنية تاريخ العالَم»، وبحثًا عن منبرٍ يتيح له الحديث باسم البشريّة بعدما عَثَرَ على المُسوِّغ، انطلقَ من أنّ البشريّة اليوم هي خلاصة تاريخ «جَعَلَ منّا ما نحن عليه اليوم وصيَّرَنا إلى ما صرنا إليه في الحاضر، وأنّ ديمومة هذا التاريخ إلى الآن، مهما كانت قصيرة، تدفعنا إلى طرح السؤال: ترى، من أين أتى هذا التاريخ؟ وإلى أين يقود؟ وما الذي يعنيه؟»
النسق التاريخي
ياسبرس يدعو إلى البحث عن «معايير» لقياس معنى ما يحدث في الزمن الحاضر؛ ذلك أنّه من شأن إلقاء نظرة على تاريخ البشريّة أن يقودنا، معشر بشر الحاضر، إلى مُلاقاة سرّ/ لغز بشريّتنا المحيِّر، والمُتمثّل في حقيقة كَوننا نمتلك تاريخًا. التاريخ الذي يوجد أساسه في «الحقبة المحوريّة» من منظور كارل ياسبرس ليس ماديًّا فحسب، بل هو لا ماديّ أيضًا. في هذا السياق يتحدّث ياسبرس عن «الروح، الوعي، أعماق الذّات، رهبة العالَم، التفكير الواعي بذاته، المقولات الجوهريّة ومعركة اللّوغوس ضدّ الميتوس....».
السؤال هنا: كيف نُدرك التاريخ إدراكًا كلّيًّا؟ أو كيف نَجعل من التاريخ مُدركًا كلّيًّا؟
هذه الحالة من الإدراك، شاعت منذ القدم لدى الأديان والفلسفات. في القرن الأخير نجدها، تمثيلًا لا حصرًا، لدى كارل ياسبرس (منتصف القرن العشرين) أو لدى ألفن توفلر وإيمانويل والرشتاين (نهاية القرن العشرين).
بخصوص ياسبرس، فقد أسَّس «العصر المحوري» للتاريخ الكوني وجذبَ كلّ بني البشر إلى نفسه، واقترحَ تحقيبًا حصره في أربعة أزمنة شكَّلت منطلقاتٍ جديدة لكي ينطلق منها الإنسان على أساس جديد:
1 ـ ما قَبل التاريخ، وهو ما يسمّيه «العصر البروميثوسي»، وهو عصر ما قَبل الكتابة، والذي اتَّسم، على وجه الإجمال، بنشأة الألسنة وباختراع الأدوات وبتبادُل النار.
2 ـ عصر الحضارات القديمة المعروفة (النفس الأوّل).
3 ـ «العصر المحوري» الذي من خلاله حقَّق الإنسان، روحيًّا، إمكانات البشريّة كاملة.
4 ـ «العصر العلمي - التكنولوجي» الذي أعاد صَوْغ وعيَنا بذواتِنا، والذي نحن شهوده في زمننا هذا (زمن كارل ياسبرس، وهو النفس الثاني).
وحول العصر الذي شهدت فيه البشريّة قاطبةً تحوّلًا عميقًا، يقول، أَمكننا أن نتبيّن أنّ تاريخ البشريّة اتَّخذ، إن شئنا التعبير، «نفَسَيْن» اثنَيْن أو «جرعتَيْن»:
- يقود النفَس الأوّل من العصر البروميثوسي إلى العصر المحوري وما ترتّب عنه، وذلك عبر عصر الحضارات القديمة.
- ويبدأ النفَس الثاني من العصر العلمي/ التكنولوجي، الذي هو بمثابة عصر بروميثيوسي جديد، يكون من مخرجاته «عصر محوري جديد»، ويكون هذا الأخير مدخلًا إلى سيرورة تاريخيّة تسمح للإنسان أن يصير إنسانًا.
ما هي أوجه الاختلاف والتشابُه بين هذَيْن «النفَسيْن» أو «الجرعتَيْن»؟
- في «النفَس الثاني» وفق ياسبرس (منتصف القرن العشرين)، أصبحت البشريّة تمتلك خبرةَ التاريخ، وهو ما لم يكُن متوفّرًا في «النفَس الأوّل».
- عاشت البشريّة «نَفَسَها الأوّل» من وضْعِ التقارُب والتوازي إلى وضْعِ التباعُد (انفصال ثقافاتها التي نشأت في توازٍ وتقارُب)، بينما تعيش «نفَسها الثاني» بشكلٍ مجمل. ذلك أنّه خلال طور «النّفَس الأوّل» كان كلّ حدث حَدَثًا محليًّا؛ بينما كلّ حَدَث من أحداث «النفَس الثاني» بات كونيًّا. وما سوف يحدث في المستقبل، سوف يكون كونويًّا.
تبدو لنا التطوّرات النّاجمة عن «النَّفس الأوّل» «كليّة مُبَنْيَنَة» ما كان لها أن تكتسي معنىً لو لم تحدث تطوّرات ترتَّبت عن سقوط القسطنطينيّة وانبثاق عصر النهضة. والسؤال: هل ستنجح البشريّةُ في الوصول إلى ما هو إنساني؟
وحول كيف يُمكن لهذا أن يحدث؟ كان جواب ياسبرس: لا نعلم عنه أيّ شيء، وهو الجواب ذاته لدى وارلشتاين صاحب كتاب «نهاية العالَم كما نعرفه» حول النسق التاريخي الذي سينبثق عن النسق التاريخي الحالي.
العصر المحوري الثاني
أطروحة ياسبرس، ما زالت موضوعَ اهتمام البحّاثة عبر العالَم، حيث يرى الأنثروبولوجي والأنارشي الأمريكي ديفيد جريبر (David Graeber) أنّ شخصيّات العصر المحوري، الفكريّة والروحيّة التي ذكرها ياسبرس، عاشت في مجتمعاتٍ تبنَّتْ التعامل التجاري بالنقد/المال بعدما تخلَّصت من المُقايَضة، وأنّ أفكار هذه الشخصيّات اكتسبت شهرةً عالَميّة مع انتشار المال. فالعملة، من هذا المنظور، لم تكُن مجرّد اختراع بديل للمُقايضة، بل كانت نسقًا جديدًا في التواصُل وحتّى في حركة الأفكار. وتفاعُلًا مع أطروحة ياسبرس، كتبَ إيف لامبيرت (Yves Lambert)، الفرنسي المُختصّ في سوسيولوجيا الديانات عن المنعطف المحوري الكوني الذي يؤسِّس لعصرٍ محوري جديد يمتدّ إلى المنعطف المحوري التالي، وهو الحداثة.
ووفق محمّد الشيخ المفكّر المغربي، يتأسّس مشروع ياسبرس على منظورَيْن متفاعلَيْن ومتكاملَيْن: اختزال بنية تاريخ البشر والإدراك الكلّي لهذه البنية، من حيث إنّ مهمّة المؤرِّخ وفيلسوف التاريخ تنحصر فيما هو «جوهري» و«أساسي» في تاريخ البشر، وبالتالي، ولأسبابٍ منهجيّة يكون التحقيب والتصنيف. في ضوء ما وفَّره «النّفَس الثاني» من معطياتٍ علميّة وما أنتجه من رؤىً ونظريّات تتيح لنا الوقوف في وضعيّة أفضل للمُراقَبة والرصد، فإنّ عمليّة الرصد تبدأ من «العالَم المُظلم» لِما قَبل التاريخ، الذي يمتدّ إلى ملايين الأعوام، والذي أفضت صيرورته إلى تجلّي الحضارات القديمة لآلاف الأعوام منذ اختراع الكتابة إلى العصر الهيلنستي، في بلاد الرافدين وبلاد النيل والبحر الميديتيراني ونهر الهندوس وعلى طول ضفاف النهر الأصفر هوانغ هو.
في محاولةٍ لرصْدِ خيط السَّيْرِ البشري، نبدأ من العصر المحوري حيث يبرز الأساس الروحي للبشريّة. فوفق ياسبرس، مع سقوط الإمبراطوريّة الفارسيّة يبدأ العصر الهيلنستي، من حيث إنّ الإسكندر الأكبر أَطلق مشروعًا أُمميًّا سَمَحَ لأُمم العصر المحوري أن تتواصل وتتفاعل وتتبادل الأفكار والتمثّلات.
حَدَثَ تحوُّلٌ عميق في ثقافات أُمم ملتقى قارّات العالَم القديم، وذلك تفاعلًا مع صعود الإمبراطوريّة الرومانيّة. في هذا الغمار، أصيبت أغلب الثقافات بحالة ضمور وفَقدت قدرتَها على المقاومة لأسبابٍ يتعذَّر سرْدها الآن. تلاشى «النسق الهيلنستي» مع نشأة القسطنطينيّة في غمار «النسق القسطنطيني»، تأسَّست الإمبراطوريّة الإسلاميّة (العربيّة)، ومعها الإمبراطوريّة اليهوديّة (الخزريّة) جنبًا إلى جنب مع الإمبراطوريّة المسيحيّة (الرومانيّة). على مدى ألف عام أو ما يُسمّى «القرون الوسطى» تناسلت عشرات الإمبراطوريّات والممالك باسم الإسلام والمسيحيّة واليهوديّة. في الإمبراطوريّة العربيّة- الإسلاميّة نبغت نخبةٌ فتحت باب أثينا ونفضت الغبار عن الإرث الأثيني الفلسفي والعلمي، كما أنقذت بحسب المُتاح إرثَ الحضارات الأخرى «لقد سبق للعرب أن قادوا العالَم في مرحلتَيْن طويلتَيْن من مراحل التقدُّم البشري»، يقول المؤرِّخ جورج سارتون في كِتابه «مدخل إلى تاريخ العالَم»: الأولى طيلة ألفَيْ عام على الأقلّ قَبل اليونان، والثانية في العصور الوسطى لمدّة تسعة قرون تقريبًا، وليس ثمّة ما يَمنع العرب أن يقودوا العالَم مرّةً ثالثة في «المستقبل».
بعد ألف عام، تلاشى العصر القسطنطيني مع سقوط القسطنطينيّة، وحلَّ محلّه عصر النهضة. في هذا السياق، أمسكت الشعوب الجرمانيّة بزمام القيادة بعدما أَمسكت بزمام العقل، وبعد نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، عصر التكنولوجياـ وهو التطوّر الجديد الأوّل التامّ في المضمار الروحيّ أو المادّي منذ العصر المحوري.
ومن أوروبا الجرمانيّة بدأ التعمير في أمريكا التي تزامن اكتشافها مع عصر النهضة. ومثلما نقلت أوروبا الغربيّة حضارتها إلى إفريقيا وآسيا من خلال التوسُّع البرتغالي، البريطاني والفرنسي... ثمّ الأمريكي، تولّى الاتّحاد السوفييتي ولو بشكلٍ مُختلف نقلَ الحضارة الأوروبيّة إلى أوراسيا، ولا سيّما الصين وآسيا الوسطى وبلدان أوروبا الشرقيّة.
وهكذا، مع منتصف القرن العشرين، أمسى العالَم المُعاصر أكثر تواصلًا، بفضل التطوُّر التكنولوجي المعمَّم، وأصبح، بتعبير ياسبرس، «وحدة فريدة من التواصُل»، نَشأ عنها «توجُّه متنامٍ نحو وحدة سياسـيّة»، وذلك سواء بالقوّة في إمبراطوريّة عالميّة استبداديّة، أم عبر التوافُق في نظامٍ عالَمي (world order) مَبنيّ على القانون، وهذا ما حدث في نهاية الحرب الباردة تحت اسم «العولمة» بعد رحيل ياسبرس.
أصدر الفيلسوف إدغار موران في العام 2007 كتابه «أين يسير العالَم؟» وفي العام نفسه، كما لو أنّه يقدِّم جوابًا أو يقرع ناقوس الخطر، أَصدر كتابه «نحو الهاوية». ولأنّ في عصرنا الحالي قِسطًا وافرًا من العصر الذي سبقه، يبقى السؤال: متى تخرج الأمم من ذاكراتها الضيّقة إلى تاريخها الكلّي؟ وكيف يتمّ القطع الإبيستيمولوجي مع التمثّلات المحليّة للماضي؟ وما هو العائق الإبيستيمولوجي الذي يحرم البشر من تمثُّل تاريخهم الكلّي؟ وهل سيكون للفضاء الجيوسياسي النّاطق باللّسان العربي دَورٌ إيجابيّ في بناء هذا الإدراك؟
كارل تيودور ياسبرس
(Karl Jaspers)
(1969 - 1883)
بروفيسور في الطب النفسي
أحد فلاسفة ألمانيا المعدودين في القرن العشرين
ولد في أولدنبورغ بألمانيا
ينتمي إلى التيار المؤمن بالفلسفة الوجودية
من أشهر أعماله الباثولوجيا النفسية العامة.
* شاعر وباحث من الجزائر
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.
في سياق هذا السؤال كان انشغال فلسفة التاريخ بالأمر؛ فقد نَشأ نَوعٌ من الرواية «العضويّة» للتاريخ على يد الألمانيّ أوسفالد شبنغلر (1880 – 1936) والبريطانيّ أرنولد توينبي (1889 – 1975).
هذه السرديّة تسلِّط الضوءَ على نشأة ثقافات أو عضويّات ثقافيّة من الكتلة السديميّة للوجود البدائيّ. هذه العضويّات الثقافيّة تبلْورت على مدى ستّة قرون، وهو ما سمّاه الفيلسوف الألمانيّ كارل ياسبرس بـ«العصر المحوريّ».
والعصر المحوري مفهوم يتعلّق بتاريخ الفلسفة اليونانيّة والأديان السماويّة والحكمة الآسيويّة (الصين، الهند، والفرس)، قامَ بصياغته كارل ياسبرس بعد فيكتور فون (1859) وإرنست فون لاسولكس (1870)، للإشارة إلى الحقبة التاريخيّة القديمة الممتدّة من 800 إلى 200 قَبل المسيح.
أَدخل ياسبرس هذا المفهوم في كِتابه «أصل التاريخ وهدفه» (1949). وضربَ مثلًا بأهمّ الشخصيّات الروحيّة وقادة الفكر، أمثال الحكيمَيْن الصينيَّيْن كونفوشيوس ولاوتسي والهندي بوذا، والفارسي زرادشت والعبقريّة اليونانيّة وكذلك الديانات السماويّة. ففي كلّ مكان من بلاد الرافدين وبلاد النيل وبحر إيجه وبلاد الصين والهند، شهدَ هذا العصر سماتٍ مُشترَكة، وفق ياسبرس.
وحول ما سمّاه «بنية تاريخ العالَم»، وبحثًا عن منبرٍ يتيح له الحديث باسم البشريّة بعدما عَثَرَ على المُسوِّغ، انطلقَ من أنّ البشريّة اليوم هي خلاصة تاريخ «جَعَلَ منّا ما نحن عليه اليوم وصيَّرَنا إلى ما صرنا إليه في الحاضر، وأنّ ديمومة هذا التاريخ إلى الآن، مهما كانت قصيرة، تدفعنا إلى طرح السؤال: ترى، من أين أتى هذا التاريخ؟ وإلى أين يقود؟ وما الذي يعنيه؟»
النسق التاريخي
ياسبرس يدعو إلى البحث عن «معايير» لقياس معنى ما يحدث في الزمن الحاضر؛ ذلك أنّه من شأن إلقاء نظرة على تاريخ البشريّة أن يقودنا، معشر بشر الحاضر، إلى مُلاقاة سرّ/ لغز بشريّتنا المحيِّر، والمُتمثّل في حقيقة كَوننا نمتلك تاريخًا. التاريخ الذي يوجد أساسه في «الحقبة المحوريّة» من منظور كارل ياسبرس ليس ماديًّا فحسب، بل هو لا ماديّ أيضًا. في هذا السياق يتحدّث ياسبرس عن «الروح، الوعي، أعماق الذّات، رهبة العالَم، التفكير الواعي بذاته، المقولات الجوهريّة ومعركة اللّوغوس ضدّ الميتوس....».
السؤال هنا: كيف نُدرك التاريخ إدراكًا كلّيًّا؟ أو كيف نَجعل من التاريخ مُدركًا كلّيًّا؟
هذه الحالة من الإدراك، شاعت منذ القدم لدى الأديان والفلسفات. في القرن الأخير نجدها، تمثيلًا لا حصرًا، لدى كارل ياسبرس (منتصف القرن العشرين) أو لدى ألفن توفلر وإيمانويل والرشتاين (نهاية القرن العشرين).
بخصوص ياسبرس، فقد أسَّس «العصر المحوري» للتاريخ الكوني وجذبَ كلّ بني البشر إلى نفسه، واقترحَ تحقيبًا حصره في أربعة أزمنة شكَّلت منطلقاتٍ جديدة لكي ينطلق منها الإنسان على أساس جديد:
1 ـ ما قَبل التاريخ، وهو ما يسمّيه «العصر البروميثوسي»، وهو عصر ما قَبل الكتابة، والذي اتَّسم، على وجه الإجمال، بنشأة الألسنة وباختراع الأدوات وبتبادُل النار.
2 ـ عصر الحضارات القديمة المعروفة (النفس الأوّل).
3 ـ «العصر المحوري» الذي من خلاله حقَّق الإنسان، روحيًّا، إمكانات البشريّة كاملة.
4 ـ «العصر العلمي - التكنولوجي» الذي أعاد صَوْغ وعيَنا بذواتِنا، والذي نحن شهوده في زمننا هذا (زمن كارل ياسبرس، وهو النفس الثاني).
وحول العصر الذي شهدت فيه البشريّة قاطبةً تحوّلًا عميقًا، يقول، أَمكننا أن نتبيّن أنّ تاريخ البشريّة اتَّخذ، إن شئنا التعبير، «نفَسَيْن» اثنَيْن أو «جرعتَيْن»:
- يقود النفَس الأوّل من العصر البروميثوسي إلى العصر المحوري وما ترتّب عنه، وذلك عبر عصر الحضارات القديمة.
- ويبدأ النفَس الثاني من العصر العلمي/ التكنولوجي، الذي هو بمثابة عصر بروميثيوسي جديد، يكون من مخرجاته «عصر محوري جديد»، ويكون هذا الأخير مدخلًا إلى سيرورة تاريخيّة تسمح للإنسان أن يصير إنسانًا.
ما هي أوجه الاختلاف والتشابُه بين هذَيْن «النفَسيْن» أو «الجرعتَيْن»؟
- في «النفَس الثاني» وفق ياسبرس (منتصف القرن العشرين)، أصبحت البشريّة تمتلك خبرةَ التاريخ، وهو ما لم يكُن متوفّرًا في «النفَس الأوّل».
- عاشت البشريّة «نَفَسَها الأوّل» من وضْعِ التقارُب والتوازي إلى وضْعِ التباعُد (انفصال ثقافاتها التي نشأت في توازٍ وتقارُب)، بينما تعيش «نفَسها الثاني» بشكلٍ مجمل. ذلك أنّه خلال طور «النّفَس الأوّل» كان كلّ حدث حَدَثًا محليًّا؛ بينما كلّ حَدَث من أحداث «النفَس الثاني» بات كونيًّا. وما سوف يحدث في المستقبل، سوف يكون كونويًّا.
تبدو لنا التطوّرات النّاجمة عن «النَّفس الأوّل» «كليّة مُبَنْيَنَة» ما كان لها أن تكتسي معنىً لو لم تحدث تطوّرات ترتَّبت عن سقوط القسطنطينيّة وانبثاق عصر النهضة. والسؤال: هل ستنجح البشريّةُ في الوصول إلى ما هو إنساني؟
وحول كيف يُمكن لهذا أن يحدث؟ كان جواب ياسبرس: لا نعلم عنه أيّ شيء، وهو الجواب ذاته لدى وارلشتاين صاحب كتاب «نهاية العالَم كما نعرفه» حول النسق التاريخي الذي سينبثق عن النسق التاريخي الحالي.
العصر المحوري الثاني
أطروحة ياسبرس، ما زالت موضوعَ اهتمام البحّاثة عبر العالَم، حيث يرى الأنثروبولوجي والأنارشي الأمريكي ديفيد جريبر (David Graeber) أنّ شخصيّات العصر المحوري، الفكريّة والروحيّة التي ذكرها ياسبرس، عاشت في مجتمعاتٍ تبنَّتْ التعامل التجاري بالنقد/المال بعدما تخلَّصت من المُقايَضة، وأنّ أفكار هذه الشخصيّات اكتسبت شهرةً عالَميّة مع انتشار المال. فالعملة، من هذا المنظور، لم تكُن مجرّد اختراع بديل للمُقايضة، بل كانت نسقًا جديدًا في التواصُل وحتّى في حركة الأفكار. وتفاعُلًا مع أطروحة ياسبرس، كتبَ إيف لامبيرت (Yves Lambert)، الفرنسي المُختصّ في سوسيولوجيا الديانات عن المنعطف المحوري الكوني الذي يؤسِّس لعصرٍ محوري جديد يمتدّ إلى المنعطف المحوري التالي، وهو الحداثة.
ووفق محمّد الشيخ المفكّر المغربي، يتأسّس مشروع ياسبرس على منظورَيْن متفاعلَيْن ومتكاملَيْن: اختزال بنية تاريخ البشر والإدراك الكلّي لهذه البنية، من حيث إنّ مهمّة المؤرِّخ وفيلسوف التاريخ تنحصر فيما هو «جوهري» و«أساسي» في تاريخ البشر، وبالتالي، ولأسبابٍ منهجيّة يكون التحقيب والتصنيف. في ضوء ما وفَّره «النّفَس الثاني» من معطياتٍ علميّة وما أنتجه من رؤىً ونظريّات تتيح لنا الوقوف في وضعيّة أفضل للمُراقَبة والرصد، فإنّ عمليّة الرصد تبدأ من «العالَم المُظلم» لِما قَبل التاريخ، الذي يمتدّ إلى ملايين الأعوام، والذي أفضت صيرورته إلى تجلّي الحضارات القديمة لآلاف الأعوام منذ اختراع الكتابة إلى العصر الهيلنستي، في بلاد الرافدين وبلاد النيل والبحر الميديتيراني ونهر الهندوس وعلى طول ضفاف النهر الأصفر هوانغ هو.
في محاولةٍ لرصْدِ خيط السَّيْرِ البشري، نبدأ من العصر المحوري حيث يبرز الأساس الروحي للبشريّة. فوفق ياسبرس، مع سقوط الإمبراطوريّة الفارسيّة يبدأ العصر الهيلنستي، من حيث إنّ الإسكندر الأكبر أَطلق مشروعًا أُمميًّا سَمَحَ لأُمم العصر المحوري أن تتواصل وتتفاعل وتتبادل الأفكار والتمثّلات.
حَدَثَ تحوُّلٌ عميق في ثقافات أُمم ملتقى قارّات العالَم القديم، وذلك تفاعلًا مع صعود الإمبراطوريّة الرومانيّة. في هذا الغمار، أصيبت أغلب الثقافات بحالة ضمور وفَقدت قدرتَها على المقاومة لأسبابٍ يتعذَّر سرْدها الآن. تلاشى «النسق الهيلنستي» مع نشأة القسطنطينيّة في غمار «النسق القسطنطيني»، تأسَّست الإمبراطوريّة الإسلاميّة (العربيّة)، ومعها الإمبراطوريّة اليهوديّة (الخزريّة) جنبًا إلى جنب مع الإمبراطوريّة المسيحيّة (الرومانيّة). على مدى ألف عام أو ما يُسمّى «القرون الوسطى» تناسلت عشرات الإمبراطوريّات والممالك باسم الإسلام والمسيحيّة واليهوديّة. في الإمبراطوريّة العربيّة- الإسلاميّة نبغت نخبةٌ فتحت باب أثينا ونفضت الغبار عن الإرث الأثيني الفلسفي والعلمي، كما أنقذت بحسب المُتاح إرثَ الحضارات الأخرى «لقد سبق للعرب أن قادوا العالَم في مرحلتَيْن طويلتَيْن من مراحل التقدُّم البشري»، يقول المؤرِّخ جورج سارتون في كِتابه «مدخل إلى تاريخ العالَم»: الأولى طيلة ألفَيْ عام على الأقلّ قَبل اليونان، والثانية في العصور الوسطى لمدّة تسعة قرون تقريبًا، وليس ثمّة ما يَمنع العرب أن يقودوا العالَم مرّةً ثالثة في «المستقبل».
بعد ألف عام، تلاشى العصر القسطنطيني مع سقوط القسطنطينيّة، وحلَّ محلّه عصر النهضة. في هذا السياق، أمسكت الشعوب الجرمانيّة بزمام القيادة بعدما أَمسكت بزمام العقل، وبعد نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، عصر التكنولوجياـ وهو التطوّر الجديد الأوّل التامّ في المضمار الروحيّ أو المادّي منذ العصر المحوري.
ومن أوروبا الجرمانيّة بدأ التعمير في أمريكا التي تزامن اكتشافها مع عصر النهضة. ومثلما نقلت أوروبا الغربيّة حضارتها إلى إفريقيا وآسيا من خلال التوسُّع البرتغالي، البريطاني والفرنسي... ثمّ الأمريكي، تولّى الاتّحاد السوفييتي ولو بشكلٍ مُختلف نقلَ الحضارة الأوروبيّة إلى أوراسيا، ولا سيّما الصين وآسيا الوسطى وبلدان أوروبا الشرقيّة.
وهكذا، مع منتصف القرن العشرين، أمسى العالَم المُعاصر أكثر تواصلًا، بفضل التطوُّر التكنولوجي المعمَّم، وأصبح، بتعبير ياسبرس، «وحدة فريدة من التواصُل»، نَشأ عنها «توجُّه متنامٍ نحو وحدة سياسـيّة»، وذلك سواء بالقوّة في إمبراطوريّة عالميّة استبداديّة، أم عبر التوافُق في نظامٍ عالَمي (world order) مَبنيّ على القانون، وهذا ما حدث في نهاية الحرب الباردة تحت اسم «العولمة» بعد رحيل ياسبرس.
أصدر الفيلسوف إدغار موران في العام 2007 كتابه «أين يسير العالَم؟» وفي العام نفسه، كما لو أنّه يقدِّم جوابًا أو يقرع ناقوس الخطر، أَصدر كتابه «نحو الهاوية». ولأنّ في عصرنا الحالي قِسطًا وافرًا من العصر الذي سبقه، يبقى السؤال: متى تخرج الأمم من ذاكراتها الضيّقة إلى تاريخها الكلّي؟ وكيف يتمّ القطع الإبيستيمولوجي مع التمثّلات المحليّة للماضي؟ وما هو العائق الإبيستيمولوجي الذي يحرم البشر من تمثُّل تاريخهم الكلّي؟ وهل سيكون للفضاء الجيوسياسي النّاطق باللّسان العربي دَورٌ إيجابيّ في بناء هذا الإدراك؟
كارل تيودور ياسبرس
(Karl Jaspers)
(1969 - 1883)
بروفيسور في الطب النفسي
أحد فلاسفة ألمانيا المعدودين في القرن العشرين
ولد في أولدنبورغ بألمانيا
ينتمي إلى التيار المؤمن بالفلسفة الوجودية
من أشهر أعماله الباثولوجيا النفسية العامة.
* شاعر وباحث من الجزائر
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.