أتابع أحيانًا تعليقات المشاهدين على الأعمال الدرامية في الـ«يوتيوب»، ولا أذكر أنَّ تعليقًا استوقفني، لكن قد تسقط العينُ على تعليقٍ لافت، كسؤالٍ طرحته فتاةٌ على صُنّاع عملٍ تلفزيوني: «لماذا لا تعملون للحلقة التلفزيونية بروفات؟»، وقد أعجبني سؤالُها؛ لأنَّ لفظةَ بروفة معروفة مسبقًا في الذهن، لكنّها مجهولة المعنى حين تُمعن النظرَ بها في سياقها الإبداعي، وقد يتّضح أكثر بسؤالٍ كهذا: طالما أنَّ المخرجَ التلفزيوني أو السينمائي قادر على إعادة تصوير المشهد، فهل التصوير نفسه بروفة، أم إنَّ البروفةَ تتجاوز هذا إلى صناعةِ الممثّلِ وتفجير أدائه إلى أقصاه؟
هذا السُؤالُ جعلني أقلّبُ أوراقي وأضربُ أخماسًا لأسداس؛ علَّها تُخرج معنىً يُطرِب حولَ مفهوم البروفة، قرأتُ مذكرات مخرجين سينمائيين، وسمعتُ لقاءات متعددة لمهتمين فيما وراء الكواليس، فوقعتُ على معنى يُمكن أن يجمع رؤيتَهم للبروفة، أختصره بمقولة: «لا بروفات دون مكان». ويعني هذا القول أنَّ الممثلَ لابدَّ أن يستحضر الطقسَ كاملًا؛ لكي يتفجَّر إبداعُه، وهذا ممكن في المسرح فحسب؛ حيث المكان لا يتغيّر؛ فهو التَّحرك في حدود الخشبة، بغضِّ النظر عن أي تَغيّرات في الديكور أثناء عرض المسرحية أمام الجمهور، أما في التلفزيون والسينما فلا يتحقّق ذلك؛ لاختلاف مكان البروفة عن مكان العمل الفعلي.
إذن المكان شَرطُ البروفة الحقيقية، والمكان له وظيفة -كما يقول باشلار- تتركّز في احتواءِ الزمن وهو في حالةِ كثافة، وهذا يعني أنَّ الممثّلَ -أثناء البروفة- سينتقل حقيقةً إلى زمنِ العملِ وما يُحيط به، وإذا أخفقَ بالانتقال الزمني فالبروفة تُعاني من علة، لن يتقدم أداءُ الممثّل إلا بسدّ خللها.
وقد أنتج هذا الأمر سؤالًا حول علاقة الموت بالقبر بوصفه مكانًا يصح أن يُعمل به بروفة للموت، إذ قد فعل هذا أناسٌ في التسعينيات الميلاديّة، وذلك بأن مَنْتَجُوا (العلاقة بين الله والإنسان) فتحوّل القبر إلى مكانٍ لعملِ بروفة موت. وطالما أنَّ البروفةَ لا تتم إلا إذا انتقل الممثلُ حقيقةً إلى زمنِ العمل، فإنَّ الإنسانَ الذي مثَّل دور الميّت في القبر سيكون عاجزًا عن سَدّ خلل المكان، لأنَّ البروفةَ أداء متكامل يتعلق بحقيقة الزمن الفعليِّ وهو -هنا- ما بعد الموت؛ ولهذا لا بُدَّ للممثل من وضع (بروفة الموت) بين قوسين حتى يكتمل العمل في مكانٍ ما. وعدم الاكتمال هذا يُحيلني إلى ما قاله المخرج السوري حاتم علي عن قدرة التلفزيون بأن يجعلَ من الممثّل أحمقَ وهو عظيم، وقصده أنَّ المونتاجَ قد يضع ثواني قبل بدايةِ الجملة التي يقولها الممثّلُ وثواني بعدها، فيتحول الممثّل إلى شَخصٍ أهبل أمام المشاهدين مع أنَّه مسرحيٌ عظيم، وربما هذا ما جرى في التسعينيات عندما تَحوّل ممثلو الموت إلى بُلهاء بين يدي ممنتجين سَجنوا الوعيَ في قارورة، ومقولة حاتم علي لا تُقلّل من المونتاج بالضرورة، بل قد تُكثّر منه، وتجعله في مقام أثير، يَخترق الحجبَ إلى مواطن إبداعيّة تجعلنا نتواضع أمام الطبيعة والحياة، ولا نَسجن الواقعَ بالنظريات الكبرى، ونتقوقع في حماها.
وبروفةُ الموتِ لا بدَّ أن تنقلنا إلى تَصوراتِ صُنّاعها، وكيف اختاروا القبر مسرحًا لأحداثِ ما بعد الموت؟ أو كيفَ نقلوا أحداثَ ما بعد الموت من تَفلسفٍ لا يتعلق بالحيز المكاني، إلى أنها تُدرَك بسطحٍ باطني متجسّم حاوٍ للشيء كالقبر؟
هؤلاء الصُنَّاع -صناع بروفة الموت- اشتغلوا بالمسرح، بل اهتمّوا به كثيرًا، وعوّلوا على نتائجِه، لدرجة أن صنعوا مسرحَهم مسرحَ الجَوّالة على أنقاضِ شُعبةِ المسرح في جامعة الملك سعود، وبما أنَّ ذلك الوقت كان المشايخ السَّلفيون يُحرّمون التمثيلَ، فإننا أمام مشهدٍ ليس سلفيًا، إنما أمام تحويل المسرح السلفي من المقولات إلى التجريب، إذ هؤلاء الصُنّاع تَخلّوا عن ضربِ الأمثال والتشبيهات وتقريب مشاهد الموت وما بعده نظريًا، إلى تمثيلِ الموت مسرحيًا. وبيان هذا أنَّ العربَ لا تَعرف فنَ التمثيل إلا بكونه متخيلًا ذهنيًا يتجلى بالشعر وسحر البيان، وبما أنَّ هذا الفن المتخيّل يُفضِي إلى الكذب ومراوغةِ الجد في الحياة، كَرِهَه السلفيون، وفي هذا يقول القرآن: «والشعراء يتبعهم الغاوون/ ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون»، فكانوا في أمرهم كأفلاطون حين رأى أنَّ الفنونَ تَضرّ بالمجتمع لأنها تُعلي من شأنِ العواطف، إلا أنَّ أرسطو غيّر المعادلةَ ووضع للفن وظيفةَ التطهير، وقد اتّبع صُنّاعُ بروفةِ الموت أرسطو، وتركوا آباءهم السلفيين يُسامرون أفلاطون، واتخذوا من الاستثناء في الآية «إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات» منهجًا لأسلمةِ الفنون.
إذن فِعلُ هؤلاء الصُنّاع ينتمي لمفهوم المسرح بوصفه مكانًا يكتمل فيه الطقس، وبوصفه مُطهِّرا، كما هي نظرية أرسطو في المسرح، التي تُسَاعد المتفرجَ على التَخلّص من مشاعره الفائضة، ولكن باستحضار التَّطهير الإسلامي، المتعلق بالتقديس، أي أن يُرفع الإنسانُ عن كل ما يَشينه في الحياة، ومن هذا ما جاء في القرآن: «ونحن نُسبّح بحمدك، ونُقدّس لك»، أي نُطهّر أنفسنا لك. إلا أنَّ بروفةَ الموت لم تُوصِل هؤلاء إلا إلى طُرقٍ مسدودة، كانسداد منافذ القبر، لهذا تَحوّل بعضُ الممثّلين إلى إرهابيين، كما جرى لمحمد شظاف الشهري، وهو أحد ممثلي مسرح الجوالة؛ إذ فَجَّر نفسَه في حادثةٍ إرهابية عام 2003م، وكأنَّه بهذا الفعل أوصل رسالةً إلى حزبه بأنَّ بروفةَ الموت لا تكفي.
التفاتة:
«هل يجوز أن نضع كاميرا في القبر، لنرى عذاب الكافرين»؟! هذا سؤالٌ طرحه -حقيقةً- أحدُ الأشخاص على مفتٍ، وربما كان يأمل أن يجدَ الإجابةَ الشافية التي تمنحه فرصةَ إكمال تقنية بروفة الموت.
هذا السُؤالُ جعلني أقلّبُ أوراقي وأضربُ أخماسًا لأسداس؛ علَّها تُخرج معنىً يُطرِب حولَ مفهوم البروفة، قرأتُ مذكرات مخرجين سينمائيين، وسمعتُ لقاءات متعددة لمهتمين فيما وراء الكواليس، فوقعتُ على معنى يُمكن أن يجمع رؤيتَهم للبروفة، أختصره بمقولة: «لا بروفات دون مكان». ويعني هذا القول أنَّ الممثلَ لابدَّ أن يستحضر الطقسَ كاملًا؛ لكي يتفجَّر إبداعُه، وهذا ممكن في المسرح فحسب؛ حيث المكان لا يتغيّر؛ فهو التَّحرك في حدود الخشبة، بغضِّ النظر عن أي تَغيّرات في الديكور أثناء عرض المسرحية أمام الجمهور، أما في التلفزيون والسينما فلا يتحقّق ذلك؛ لاختلاف مكان البروفة عن مكان العمل الفعلي.
إذن المكان شَرطُ البروفة الحقيقية، والمكان له وظيفة -كما يقول باشلار- تتركّز في احتواءِ الزمن وهو في حالةِ كثافة، وهذا يعني أنَّ الممثّلَ -أثناء البروفة- سينتقل حقيقةً إلى زمنِ العملِ وما يُحيط به، وإذا أخفقَ بالانتقال الزمني فالبروفة تُعاني من علة، لن يتقدم أداءُ الممثّل إلا بسدّ خللها.
وقد أنتج هذا الأمر سؤالًا حول علاقة الموت بالقبر بوصفه مكانًا يصح أن يُعمل به بروفة للموت، إذ قد فعل هذا أناسٌ في التسعينيات الميلاديّة، وذلك بأن مَنْتَجُوا (العلاقة بين الله والإنسان) فتحوّل القبر إلى مكانٍ لعملِ بروفة موت. وطالما أنَّ البروفةَ لا تتم إلا إذا انتقل الممثلُ حقيقةً إلى زمنِ العمل، فإنَّ الإنسانَ الذي مثَّل دور الميّت في القبر سيكون عاجزًا عن سَدّ خلل المكان، لأنَّ البروفةَ أداء متكامل يتعلق بحقيقة الزمن الفعليِّ وهو -هنا- ما بعد الموت؛ ولهذا لا بُدَّ للممثل من وضع (بروفة الموت) بين قوسين حتى يكتمل العمل في مكانٍ ما. وعدم الاكتمال هذا يُحيلني إلى ما قاله المخرج السوري حاتم علي عن قدرة التلفزيون بأن يجعلَ من الممثّل أحمقَ وهو عظيم، وقصده أنَّ المونتاجَ قد يضع ثواني قبل بدايةِ الجملة التي يقولها الممثّلُ وثواني بعدها، فيتحول الممثّل إلى شَخصٍ أهبل أمام المشاهدين مع أنَّه مسرحيٌ عظيم، وربما هذا ما جرى في التسعينيات عندما تَحوّل ممثلو الموت إلى بُلهاء بين يدي ممنتجين سَجنوا الوعيَ في قارورة، ومقولة حاتم علي لا تُقلّل من المونتاج بالضرورة، بل قد تُكثّر منه، وتجعله في مقام أثير، يَخترق الحجبَ إلى مواطن إبداعيّة تجعلنا نتواضع أمام الطبيعة والحياة، ولا نَسجن الواقعَ بالنظريات الكبرى، ونتقوقع في حماها.
وبروفةُ الموتِ لا بدَّ أن تنقلنا إلى تَصوراتِ صُنّاعها، وكيف اختاروا القبر مسرحًا لأحداثِ ما بعد الموت؟ أو كيفَ نقلوا أحداثَ ما بعد الموت من تَفلسفٍ لا يتعلق بالحيز المكاني، إلى أنها تُدرَك بسطحٍ باطني متجسّم حاوٍ للشيء كالقبر؟
هؤلاء الصُنَّاع -صناع بروفة الموت- اشتغلوا بالمسرح، بل اهتمّوا به كثيرًا، وعوّلوا على نتائجِه، لدرجة أن صنعوا مسرحَهم مسرحَ الجَوّالة على أنقاضِ شُعبةِ المسرح في جامعة الملك سعود، وبما أنَّ ذلك الوقت كان المشايخ السَّلفيون يُحرّمون التمثيلَ، فإننا أمام مشهدٍ ليس سلفيًا، إنما أمام تحويل المسرح السلفي من المقولات إلى التجريب، إذ هؤلاء الصُنّاع تَخلّوا عن ضربِ الأمثال والتشبيهات وتقريب مشاهد الموت وما بعده نظريًا، إلى تمثيلِ الموت مسرحيًا. وبيان هذا أنَّ العربَ لا تَعرف فنَ التمثيل إلا بكونه متخيلًا ذهنيًا يتجلى بالشعر وسحر البيان، وبما أنَّ هذا الفن المتخيّل يُفضِي إلى الكذب ومراوغةِ الجد في الحياة، كَرِهَه السلفيون، وفي هذا يقول القرآن: «والشعراء يتبعهم الغاوون/ ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون»، فكانوا في أمرهم كأفلاطون حين رأى أنَّ الفنونَ تَضرّ بالمجتمع لأنها تُعلي من شأنِ العواطف، إلا أنَّ أرسطو غيّر المعادلةَ ووضع للفن وظيفةَ التطهير، وقد اتّبع صُنّاعُ بروفةِ الموت أرسطو، وتركوا آباءهم السلفيين يُسامرون أفلاطون، واتخذوا من الاستثناء في الآية «إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات» منهجًا لأسلمةِ الفنون.
إذن فِعلُ هؤلاء الصُنّاع ينتمي لمفهوم المسرح بوصفه مكانًا يكتمل فيه الطقس، وبوصفه مُطهِّرا، كما هي نظرية أرسطو في المسرح، التي تُسَاعد المتفرجَ على التَخلّص من مشاعره الفائضة، ولكن باستحضار التَّطهير الإسلامي، المتعلق بالتقديس، أي أن يُرفع الإنسانُ عن كل ما يَشينه في الحياة، ومن هذا ما جاء في القرآن: «ونحن نُسبّح بحمدك، ونُقدّس لك»، أي نُطهّر أنفسنا لك. إلا أنَّ بروفةَ الموت لم تُوصِل هؤلاء إلا إلى طُرقٍ مسدودة، كانسداد منافذ القبر، لهذا تَحوّل بعضُ الممثّلين إلى إرهابيين، كما جرى لمحمد شظاف الشهري، وهو أحد ممثلي مسرح الجوالة؛ إذ فَجَّر نفسَه في حادثةٍ إرهابية عام 2003م، وكأنَّه بهذا الفعل أوصل رسالةً إلى حزبه بأنَّ بروفةَ الموت لا تكفي.
التفاتة:
«هل يجوز أن نضع كاميرا في القبر، لنرى عذاب الكافرين»؟! هذا سؤالٌ طرحه -حقيقةً- أحدُ الأشخاص على مفتٍ، وربما كان يأمل أن يجدَ الإجابةَ الشافية التي تمنحه فرصةَ إكمال تقنية بروفة الموت.