ربما قد يلفت انتباهك ويثير استغرابك وفضولك معا، أن تجد افتتاحية ( كاتب غربي) لكتابه يذكر فيها ( عصر الجاهلية ما قبل الإسلام) . فالباحث البريطاني ( بيتر بيرك) ، يقول في مقدمة كتابه ( الجهل - تاريخ للظاهرة من منظور عالمي):( يسمي العرب عصر ما قبل الإسلام "عصر الجاهلية». وخلال عصر النهضة، نظر الإنسانيون إلى ما أطلقوا عليه أولا "العصور الوسطى» على أنها عصور الظلام. وفي القرن السابع عشر، وصف اللورد كلارندون، المؤرخ للحرب الأهلية الإنجليزية آباء الكنيسة بأنهم «أنوار عظيمة").
الكتاب الذي نقله للعربية بندر الحربي ، ونشرته ( دار الرافدين) يستهدف - بحسب مؤلفه - أولا، عموم القراء فكل قارئ، وفقا لبيرك ( يمثل مزيجًا متفردًا من المعرفة والجهل، أو كما أفضل وصفه، بمجموعات متعددة من المعارف والجهالات، فمن المؤكد أنَّ هذا الموضوع يحظى باهتمام عام وواسع. أما الفئة الثانية فهم الباحثون والأكاديميون، وليس لأولئك الذين يشاركونني التخصص على وجه التحديد، بل إلى المتخصصين في شتى الميادين المعنية بدراسة الجهل. وهنا، أرجو، بل وأتوقع أن يصير هذا الجهد الرامي إلى تقديم «صورة شاملة عما أنجز وما يزال بإمكاننا إنجازه مصدر إلهام لبعض الباحثين).
أنواع الجهل والكوارث
الكتاب الذي يؤكد أنه قد لا يبدو الجهل الذي يُعرّف بأنه ( حالةٌ من غياب المعرفة)، موضوعا جديرا بالبحث في ظاهره، هو جزء مهم من نشاط يتنامي ويصب في الاهتمام بهذا المجال، مُحفزًا بأمثلة صارخة عن جهل رؤساء بارزين في العقدين الأخرين. واليوم، يشهد المجال المتعدد التخصصات المعروف باسم «دراسات الجهل» تناميا على مدى الثلاثين عامًا الماضية، كما يوضح الفصل الثاني، رغم أن المؤرخين لم يتحدثوا عن هذه الدراسات إلا من وقت قريب. فعبر خمسة عشر فصلا إضافة إلى المقدمة والخاتمة ، خاض الكتاب في مناقشة ( الجهل في المجتمع. ما الجهل ؟ آراء الفلاسفة حول الجهل.. الجهل الجماعي. دراسة الجهل. تاريخ الجهل... الجهل في الدين.الجهل في العلم... الجهل في الجغرافيا... عواقب الجهل ، الجهل في الحرب. الجهل في مجال الأعمال . الجهل في السياسة... المفاجآت والكوارث... الأسرار والأكاذيب... آفاق المستقبل المجهولة... تجاهل الماضي. المعرفة الجديدة والجهل الجديد). ويبدو الآن، أنَّ الوقت قد حان للتعرف على دور الجهل (ومنه التجاهل المتعمد) عبر التاريخ.
يقول بيرك: لقد بت أؤمن بأنَّ هذا الدور لم يُعط حقه من الاعتبار، مما أدى إلى سوء الفهم وإصدار أحكام غير صحيحة، بجانب ارتكاب أخطاء أخرى ذات عواقب وخيمة في كثير من الأحيان. وتظهر هذه القضية على نحو جلي في الأوقات التي تكون فيها تحركات الحكومات إزاء قضية تغير المناخ على سبيل المثال محدودة ومتأخرة. ومع ذلك، فإنَّ ما أسعى إلى إيضاحه هو أن أنواع الجهل والكوارث المترتبة عليه، متعددة ومتباينة.
ثغرات في المعرفة
خلال غوصه لتفكيك ماهية الجهل عبر التاريخ يذهب بيرك إلى أن تأثيرات الجهل " سطعت في أوقات مظلمة بقدرٍ كبير»، و«أوقات مليئة بالوحشية والجهل». وخلال عصر التنوير، كان يُنظر إلى الجهل على أنه أساس «الاستبداد»، و«التعصب» و«الخرافة»، التي كان من المتوقع أن تُمحى في عهد تسوده المعرفة والتفكير العقلاني. فعلى سبيل المثال، أعلن جورج واشنطن أنَّ «أساس دولتنا لم يُوضع في عصر مظلم ملؤه الجهل والخرافة». استمرت أفكار مشابهة لهذه في الظهور حتى أوقات أبعد. فمثلا، استخدم أصوليون مسلمون مثل المصري سيد قطب مصطلح «الجاهلية» للإشارة إلى فترات لاحقة، مستهدفين على نحو محدد الولايات المتحدة الأمريكية. وكان الجهل أحد الوحوش الخمسة» التي تعهد السياسي الليبرالي ويليام بيفريدج بهزيمتها (مع الفقر، والمرض، والفساد السياسيّ، والبطالة). وقد صار تقرير بيفريدج الأساس الذي قامت عليه دولة الرفاه البريطانية التي أسستها الحكومة العمالية في عام 1945. وحديثا في الولايات المتحدة، ذهب تشارلز سيميتش إلى حد قول إنَّ «الجهل المتفشي الذي يكاد يكون غباء هو هدفنا القومي الجديد»، في حين وصف روبرت بروكتور، وهو مؤرخ في مجال العلوم، زماننا بأنه «عصر الجهل الذهبي».
ومع وعينا بأننا نمتلك معارف كثيرة لم تكن متاحة للأجيال السابقة، نكاد نغفل عما كانوا يعرفونه ونحن نجهله. والأمثلة على هذه الثغرات في المعرفة - التي ستبحث فيما بعد ـ تمتد من الإلمام بالأدب الكلاسيكي اليوناني والروماني إلى المعرفة العملية بعلوم الحياة الطبيعية.
جهل النساء
وفي إزاحة الموضوع مدار البحث نحو ما هو متعلق يـ ( الجندر / الجنس ) يرى الكتاب أن ( من العوامل الرئيسة التي أسهمت في توجه علم المعرفة نحو البعد الاجتماعي ظاهرة نشأت خارج نطاق الفلسفة ، ألا وهي الحركة النسوية؛ إذ طوال التاريخ، كان الرجال يتجاهلون أو يستخفون بالمعارف والمصداقية التي تمتلكها النساء، معتمدين على فكرة أنَّ «ما لا أعرفه ليس بمعرفة». ومن الأمثلة الشائعة على المعرفة التي لا تُعد موثوقة، عبارة fabulae aniles أو حكايات العجائز المستخدمة منذ الرومان القدماء حتى أوروبا في بداية العصر الحديث.
في القرن الثامن عشر، وبصورة خاصة في إنجلترا، شهدت مهنة التوليد تغيرا جذريًا عندما بدأ الأطباء والجراحون الذكور بالتدخل في هذا المجال، الذي كانت النساء قد احتكرنه لفترات طويلة. مزودين بالمبضع، وهو ابتكار حديث آنذاك، وقد رأى هؤلاء الرجال في القابلات النساء عدم الكفاءة والمعرفة. وتعرضت القابلات لوضع صعب حيث كان جهلهن بالأساليب الطبية الجديدة نتيجة حرمانهنَّ من فرص التعليم العالي لأنهنَّ نساء ليس إلا. شهدت أوروبا الحديثة المبكرة تشجيعًا ملحوظا على إبقاء النساء في حالة من الجهل في العديد من الميادين. ومثال من الأمثلة البارزة على النظرة الذكورية السائدة هو العمل الذي صاغه الأسقف فرانسوا فينيلون في القرن السابع عشر، الذي تناول فيه تعليم البنات، ولا سيما المنتميات إلى عائلات مرموقة.
علم الانثروبولوجيا والاثار
في مجال علم الأنثروبولوجيا، لا يمكن الزعم بأن الباحثين الذكور قدروا النساء كليًا، لكن يبدو أنهم لم يعطوا الأهمية الكافية لدورهنَّ في العديد من الثقافات، وفي كل الأحوال، لم تتوافر لهم الفرصة على الدوام لمشاهدتهن أو التحاور معهن. ومع ذلك، دخلت طائفة من النساء الحقل الأنثروبولوجي في وقت مبكر نسبيًا، ومنهن بالتسلسل الزمني: روث بندیکت " عالمة أنثروبولوجيا أمريكية بارزة ومن مؤسسي الأنثروبولوجيا الثقافية"، وزورا هيرستون " كاتبة، وأنثروبولوجية، وصانعة أفلام أمريكية "، وأودري ريتشاردز " عالمة اجتماع وأنثروبولوجية بريطانية" ، ومارغريت ميد " عالمة أنثروبولوجيا أمريكية" ، وروث لاندس عالمة أنثروبولوجيا أمريكية . كان الأثر الأولي لعالمات الأنثروبولوجيا هو ملء الثغرات المعرفية من خلال الإدلاء بمعلومات أكثر عن تجارب النساء مقارنةً بما كان بمقدور علماء الأنثروبولوجيا الذكور فعله. فعلى سبيل المثال، استطاعت ميد في دولة ساموا أن تناقش مواضيع الجنس مع الفتيات. وفي باهيا بالبرازيل، ألقت روث لاندس الضوء على دور الكاهنات في الدين الأفريقي البرازيلي. في هذه المجالات، أبرزت النساء الثغرات التي أوجدتها هيمنة الرجال على هذه الأقسام العلمية. وبعد ذلك، في مرحلة لاحقة، بدأت الباحثات بطرح أسئلة مغايرة لتلك التي طرحها نظراؤهن الرجال. اعتبرت ماري دوغلاس، على سبيل المثال، مُحدّثة في علم الأنثروبولوجيا بما أتت به من «مسائل نسوية مرتبطة بطبقتها الاجتماعية الوسطى اهتمامات بالمنزل، ووجبات الطعام، وأعمال الصيانة، والطقوس المنزلية للتنظيف، والتسوق، وبالمثل بجسم المرأة». وفي مرحلة ثالثة، توسّعت النظريات الأنثروبولوجية لتشمل موضوعات كانت مُهملة في السابق مثل قضايا النوع الاجتماعي.
تاريخ الجهل
وإذا كان روبرت ديماريا " أستاذ متخصص في الأدب البريطاني للقرن الثامن عشر" يرى أنه لم يكتب بعد تاريخ المعرفة الذي يولي تاريخ الجهل قدرًا مستحقا. فإن الكتاب يوضح تعرض المؤرخين بالمثل للانتقاد لتجاهلهم النساء، ما أدى إلى محاولات سد هذه الفجوة وتشجيع الاهتمام بتاريخ هذا الجهل. لطالما وصفت النساء بأنهنَّ "مستترات عن التاريخ»، ما يعني أن المؤرخين السابقين كانوا يتجاهلون تاريخ نصف البشرية. في الحقيقة، ظهرت ثلاثة أمثلة بارزة لتاريخ النساء ـ وقد كتبها رجال ـ باللغات الفرنسية والألمانية والإنجليزية خلال القرن الثامن عشر : مقال في الطباع والعادات وعقل النساء عبر العصور المختلفة لعام 1772 لأنطوان توماس وتاريخ الجنس الأنثوي بين عامي 1788 و 1800 لكريستوف ماينرز؛ وتاريخ النساء لعام 1796 لويليام ألكساندر كان الكتاب والناشرون يعنون على نحو واضح جذب اهتمام النساء بالتاريخ، ما يشكل دليلًا إضافيًا يتعارض مع الافتراض التقليدي بأنَّ النساء كُن جاهلات.
تمكنت الباحثات من إغلاق الثغرات التاريخية التي لم يلاحظها زملاؤهن من الرجال. تحدثت ماري ريتر بيرد عن كيف أغفل الرجال أهمية دور النساء في تشكيل التاريخ بأدوارهن ككاهنات، وملكات، وقديسات، ومارقات، وباحثات أو ربات بيوت. على سبيل المثال، قدمت لوسي سالمون، أستاذة في كلية فاسار الأمريكية، بحثًا حول الخدم. موضوعات غريبة اقترن الجهل في كثير من الأحيان بالأمية. ففي سرده لأصول «الخرافات» (التي نشير إليها اليوم بـ«الأساطير»)، أشار العالم الفرنسي برنار دو فونتينيل) إلى أن الجهل والهمجية بدأتا تنحسران بعد اختراع الكتابة. يُبرز العمل الذي خلّده نيكولا دي كوندورسيه)، «مخطط تقدم العقل البشري، الأهمية الكبيرة للكتابة والطباعة باعتبارها عوامل رئيسة في تعزيز المعرفة وتراجع الجهل عبر التاريخ. هذا العمل الذي يعتبر من أبرز المؤلفات حول تطور المعرفة الإنسانية، لم ير النور إلا بعد وفاة مؤلفه، الذي تعرض للإعدام بالمقصلة خلال الأحداث الدموية للثورة الفرنسية. اليوم، وبعد زمن طويل، عاد مؤرخون للبحث في موضوع الجهل دون أن يقيدوا أنفسهم بالافتراضات الويغية التي تتحدث عن انخفاضه الحتمي. لقد كان كورنيل زويرلاين وبعض زملائه الألمان يدرسون الدبلوماسية والإمبراطورية من هذا المنظور، كما حرر زوير لاين كذلك مجموعة من المقالات حول هذا الموضوع. في الوقت الراهن كوربان، المؤرخ الفرنسي الذي عُرف منذ وقت طويل بتركيزه على موضوعات غريبة بدءًا من الروائح وحتى الأجراس، نشر دراسة حول ما كان مجهولًا عن الأرض في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. وفي عام 2015، أقيم مؤتمر في المعهد التاريخي الألماني في لندن تحت عنوان " الجهل وعدم المعرفة في الامتداد الحديث المبكر». ومع ذلك، لا يزال هناك العديد من المجالات الأخرى التي تتطلب الاستكشاف.
شكوى قديمة
باختصار، كما ذكر الكتاب، نحن بحاجة إلى التفكير في المعارف والجهالات بصيغة الجمع بدلًا من المفرد، مع الأخذ في الاعتبار أن ما يعتبر معرفة شائعة أو حكمة تقليدية يختلف من مكان لآخر ومن زمن لآخر. «المعرفة الجديدة تجعل أنواعًا جديدة من الجهل ممكنة». بالعودة إلى سي. إس. لويس، «ربما كل معرفة جديدة تخلق مجالا لنفسها من خلال خلق جهل جديد». يجب أن نفكر مرتين قبل وصف أي فرد، أو ثقافة أو فترة زمنية بأنها جاهلة، ذلك أنَّ ثمة الكثير بقدر كبير لمعرفته . شكوى قديمة، لكنها باتت مبررةً أكثر فأكثر في وقتنا الحالي. بالعودة إلى مارك توين، «نحن جميعًا جاهلون، لكن في أشياء مختلفة». المشكلة هي أن الأشخاص الذين يمتلكون السلطة في كثير من الأحيان يفتقرون إلى المعارف التي يحتاجونها، في حين أنَّ الذين يمتلكون هذه المعارف يفتقرون إلى السلطة.
بيتر بيرك
مؤرخ وكاتب بريطاني
ولد عام 1937 .
خريج جامعة أكسفورد
خبير في التاريخ الاجتماعي للمعرفة
نشر ستة وعشرين كتابًا تُرجمت إلى أكثر من واحد وثلاثين لغة.
من عام 1962 إلى عام 1979، كان عضوًا في كلية الدراسات الأوروبية بجامعة ساسكس
انتقل إلى جامعة كامبريدج
متزوج من المؤرخة البرازيلية ماريا لوسيا جارسيا بالاريس-بيرك
من أهم أعماله:
الثقافة الشعبية في أوروبا الحديثة المبكرة (1978)
علم الاجتماع والتاريخ (1980)
التاريخ والنظرية الاجتماعية (1991)
أصناف التاريخ الثقافي (1997)
الجهل: تاريخ عالمي (دار نشر جامعة ييل 2023)
الكتاب الذي نقله للعربية بندر الحربي ، ونشرته ( دار الرافدين) يستهدف - بحسب مؤلفه - أولا، عموم القراء فكل قارئ، وفقا لبيرك ( يمثل مزيجًا متفردًا من المعرفة والجهل، أو كما أفضل وصفه، بمجموعات متعددة من المعارف والجهالات، فمن المؤكد أنَّ هذا الموضوع يحظى باهتمام عام وواسع. أما الفئة الثانية فهم الباحثون والأكاديميون، وليس لأولئك الذين يشاركونني التخصص على وجه التحديد، بل إلى المتخصصين في شتى الميادين المعنية بدراسة الجهل. وهنا، أرجو، بل وأتوقع أن يصير هذا الجهد الرامي إلى تقديم «صورة شاملة عما أنجز وما يزال بإمكاننا إنجازه مصدر إلهام لبعض الباحثين).
أنواع الجهل والكوارث
الكتاب الذي يؤكد أنه قد لا يبدو الجهل الذي يُعرّف بأنه ( حالةٌ من غياب المعرفة)، موضوعا جديرا بالبحث في ظاهره، هو جزء مهم من نشاط يتنامي ويصب في الاهتمام بهذا المجال، مُحفزًا بأمثلة صارخة عن جهل رؤساء بارزين في العقدين الأخرين. واليوم، يشهد المجال المتعدد التخصصات المعروف باسم «دراسات الجهل» تناميا على مدى الثلاثين عامًا الماضية، كما يوضح الفصل الثاني، رغم أن المؤرخين لم يتحدثوا عن هذه الدراسات إلا من وقت قريب. فعبر خمسة عشر فصلا إضافة إلى المقدمة والخاتمة ، خاض الكتاب في مناقشة ( الجهل في المجتمع. ما الجهل ؟ آراء الفلاسفة حول الجهل.. الجهل الجماعي. دراسة الجهل. تاريخ الجهل... الجهل في الدين.الجهل في العلم... الجهل في الجغرافيا... عواقب الجهل ، الجهل في الحرب. الجهل في مجال الأعمال . الجهل في السياسة... المفاجآت والكوارث... الأسرار والأكاذيب... آفاق المستقبل المجهولة... تجاهل الماضي. المعرفة الجديدة والجهل الجديد). ويبدو الآن، أنَّ الوقت قد حان للتعرف على دور الجهل (ومنه التجاهل المتعمد) عبر التاريخ.
يقول بيرك: لقد بت أؤمن بأنَّ هذا الدور لم يُعط حقه من الاعتبار، مما أدى إلى سوء الفهم وإصدار أحكام غير صحيحة، بجانب ارتكاب أخطاء أخرى ذات عواقب وخيمة في كثير من الأحيان. وتظهر هذه القضية على نحو جلي في الأوقات التي تكون فيها تحركات الحكومات إزاء قضية تغير المناخ على سبيل المثال محدودة ومتأخرة. ومع ذلك، فإنَّ ما أسعى إلى إيضاحه هو أن أنواع الجهل والكوارث المترتبة عليه، متعددة ومتباينة.
ثغرات في المعرفة
خلال غوصه لتفكيك ماهية الجهل عبر التاريخ يذهب بيرك إلى أن تأثيرات الجهل " سطعت في أوقات مظلمة بقدرٍ كبير»، و«أوقات مليئة بالوحشية والجهل». وخلال عصر التنوير، كان يُنظر إلى الجهل على أنه أساس «الاستبداد»، و«التعصب» و«الخرافة»، التي كان من المتوقع أن تُمحى في عهد تسوده المعرفة والتفكير العقلاني. فعلى سبيل المثال، أعلن جورج واشنطن أنَّ «أساس دولتنا لم يُوضع في عصر مظلم ملؤه الجهل والخرافة». استمرت أفكار مشابهة لهذه في الظهور حتى أوقات أبعد. فمثلا، استخدم أصوليون مسلمون مثل المصري سيد قطب مصطلح «الجاهلية» للإشارة إلى فترات لاحقة، مستهدفين على نحو محدد الولايات المتحدة الأمريكية. وكان الجهل أحد الوحوش الخمسة» التي تعهد السياسي الليبرالي ويليام بيفريدج بهزيمتها (مع الفقر، والمرض، والفساد السياسيّ، والبطالة). وقد صار تقرير بيفريدج الأساس الذي قامت عليه دولة الرفاه البريطانية التي أسستها الحكومة العمالية في عام 1945. وحديثا في الولايات المتحدة، ذهب تشارلز سيميتش إلى حد قول إنَّ «الجهل المتفشي الذي يكاد يكون غباء هو هدفنا القومي الجديد»، في حين وصف روبرت بروكتور، وهو مؤرخ في مجال العلوم، زماننا بأنه «عصر الجهل الذهبي».
ومع وعينا بأننا نمتلك معارف كثيرة لم تكن متاحة للأجيال السابقة، نكاد نغفل عما كانوا يعرفونه ونحن نجهله. والأمثلة على هذه الثغرات في المعرفة - التي ستبحث فيما بعد ـ تمتد من الإلمام بالأدب الكلاسيكي اليوناني والروماني إلى المعرفة العملية بعلوم الحياة الطبيعية.
جهل النساء
وفي إزاحة الموضوع مدار البحث نحو ما هو متعلق يـ ( الجندر / الجنس ) يرى الكتاب أن ( من العوامل الرئيسة التي أسهمت في توجه علم المعرفة نحو البعد الاجتماعي ظاهرة نشأت خارج نطاق الفلسفة ، ألا وهي الحركة النسوية؛ إذ طوال التاريخ، كان الرجال يتجاهلون أو يستخفون بالمعارف والمصداقية التي تمتلكها النساء، معتمدين على فكرة أنَّ «ما لا أعرفه ليس بمعرفة». ومن الأمثلة الشائعة على المعرفة التي لا تُعد موثوقة، عبارة fabulae aniles أو حكايات العجائز المستخدمة منذ الرومان القدماء حتى أوروبا في بداية العصر الحديث.
في القرن الثامن عشر، وبصورة خاصة في إنجلترا، شهدت مهنة التوليد تغيرا جذريًا عندما بدأ الأطباء والجراحون الذكور بالتدخل في هذا المجال، الذي كانت النساء قد احتكرنه لفترات طويلة. مزودين بالمبضع، وهو ابتكار حديث آنذاك، وقد رأى هؤلاء الرجال في القابلات النساء عدم الكفاءة والمعرفة. وتعرضت القابلات لوضع صعب حيث كان جهلهن بالأساليب الطبية الجديدة نتيجة حرمانهنَّ من فرص التعليم العالي لأنهنَّ نساء ليس إلا. شهدت أوروبا الحديثة المبكرة تشجيعًا ملحوظا على إبقاء النساء في حالة من الجهل في العديد من الميادين. ومثال من الأمثلة البارزة على النظرة الذكورية السائدة هو العمل الذي صاغه الأسقف فرانسوا فينيلون في القرن السابع عشر، الذي تناول فيه تعليم البنات، ولا سيما المنتميات إلى عائلات مرموقة.
علم الانثروبولوجيا والاثار
في مجال علم الأنثروبولوجيا، لا يمكن الزعم بأن الباحثين الذكور قدروا النساء كليًا، لكن يبدو أنهم لم يعطوا الأهمية الكافية لدورهنَّ في العديد من الثقافات، وفي كل الأحوال، لم تتوافر لهم الفرصة على الدوام لمشاهدتهن أو التحاور معهن. ومع ذلك، دخلت طائفة من النساء الحقل الأنثروبولوجي في وقت مبكر نسبيًا، ومنهن بالتسلسل الزمني: روث بندیکت " عالمة أنثروبولوجيا أمريكية بارزة ومن مؤسسي الأنثروبولوجيا الثقافية"، وزورا هيرستون " كاتبة، وأنثروبولوجية، وصانعة أفلام أمريكية "، وأودري ريتشاردز " عالمة اجتماع وأنثروبولوجية بريطانية" ، ومارغريت ميد " عالمة أنثروبولوجيا أمريكية" ، وروث لاندس عالمة أنثروبولوجيا أمريكية . كان الأثر الأولي لعالمات الأنثروبولوجيا هو ملء الثغرات المعرفية من خلال الإدلاء بمعلومات أكثر عن تجارب النساء مقارنةً بما كان بمقدور علماء الأنثروبولوجيا الذكور فعله. فعلى سبيل المثال، استطاعت ميد في دولة ساموا أن تناقش مواضيع الجنس مع الفتيات. وفي باهيا بالبرازيل، ألقت روث لاندس الضوء على دور الكاهنات في الدين الأفريقي البرازيلي. في هذه المجالات، أبرزت النساء الثغرات التي أوجدتها هيمنة الرجال على هذه الأقسام العلمية. وبعد ذلك، في مرحلة لاحقة، بدأت الباحثات بطرح أسئلة مغايرة لتلك التي طرحها نظراؤهن الرجال. اعتبرت ماري دوغلاس، على سبيل المثال، مُحدّثة في علم الأنثروبولوجيا بما أتت به من «مسائل نسوية مرتبطة بطبقتها الاجتماعية الوسطى اهتمامات بالمنزل، ووجبات الطعام، وأعمال الصيانة، والطقوس المنزلية للتنظيف، والتسوق، وبالمثل بجسم المرأة». وفي مرحلة ثالثة، توسّعت النظريات الأنثروبولوجية لتشمل موضوعات كانت مُهملة في السابق مثل قضايا النوع الاجتماعي.
تاريخ الجهل
وإذا كان روبرت ديماريا " أستاذ متخصص في الأدب البريطاني للقرن الثامن عشر" يرى أنه لم يكتب بعد تاريخ المعرفة الذي يولي تاريخ الجهل قدرًا مستحقا. فإن الكتاب يوضح تعرض المؤرخين بالمثل للانتقاد لتجاهلهم النساء، ما أدى إلى محاولات سد هذه الفجوة وتشجيع الاهتمام بتاريخ هذا الجهل. لطالما وصفت النساء بأنهنَّ "مستترات عن التاريخ»، ما يعني أن المؤرخين السابقين كانوا يتجاهلون تاريخ نصف البشرية. في الحقيقة، ظهرت ثلاثة أمثلة بارزة لتاريخ النساء ـ وقد كتبها رجال ـ باللغات الفرنسية والألمانية والإنجليزية خلال القرن الثامن عشر : مقال في الطباع والعادات وعقل النساء عبر العصور المختلفة لعام 1772 لأنطوان توماس وتاريخ الجنس الأنثوي بين عامي 1788 و 1800 لكريستوف ماينرز؛ وتاريخ النساء لعام 1796 لويليام ألكساندر كان الكتاب والناشرون يعنون على نحو واضح جذب اهتمام النساء بالتاريخ، ما يشكل دليلًا إضافيًا يتعارض مع الافتراض التقليدي بأنَّ النساء كُن جاهلات.
تمكنت الباحثات من إغلاق الثغرات التاريخية التي لم يلاحظها زملاؤهن من الرجال. تحدثت ماري ريتر بيرد عن كيف أغفل الرجال أهمية دور النساء في تشكيل التاريخ بأدوارهن ككاهنات، وملكات، وقديسات، ومارقات، وباحثات أو ربات بيوت. على سبيل المثال، قدمت لوسي سالمون، أستاذة في كلية فاسار الأمريكية، بحثًا حول الخدم. موضوعات غريبة اقترن الجهل في كثير من الأحيان بالأمية. ففي سرده لأصول «الخرافات» (التي نشير إليها اليوم بـ«الأساطير»)، أشار العالم الفرنسي برنار دو فونتينيل) إلى أن الجهل والهمجية بدأتا تنحسران بعد اختراع الكتابة. يُبرز العمل الذي خلّده نيكولا دي كوندورسيه)، «مخطط تقدم العقل البشري، الأهمية الكبيرة للكتابة والطباعة باعتبارها عوامل رئيسة في تعزيز المعرفة وتراجع الجهل عبر التاريخ. هذا العمل الذي يعتبر من أبرز المؤلفات حول تطور المعرفة الإنسانية، لم ير النور إلا بعد وفاة مؤلفه، الذي تعرض للإعدام بالمقصلة خلال الأحداث الدموية للثورة الفرنسية. اليوم، وبعد زمن طويل، عاد مؤرخون للبحث في موضوع الجهل دون أن يقيدوا أنفسهم بالافتراضات الويغية التي تتحدث عن انخفاضه الحتمي. لقد كان كورنيل زويرلاين وبعض زملائه الألمان يدرسون الدبلوماسية والإمبراطورية من هذا المنظور، كما حرر زوير لاين كذلك مجموعة من المقالات حول هذا الموضوع. في الوقت الراهن كوربان، المؤرخ الفرنسي الذي عُرف منذ وقت طويل بتركيزه على موضوعات غريبة بدءًا من الروائح وحتى الأجراس، نشر دراسة حول ما كان مجهولًا عن الأرض في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. وفي عام 2015، أقيم مؤتمر في المعهد التاريخي الألماني في لندن تحت عنوان " الجهل وعدم المعرفة في الامتداد الحديث المبكر». ومع ذلك، لا يزال هناك العديد من المجالات الأخرى التي تتطلب الاستكشاف.
شكوى قديمة
باختصار، كما ذكر الكتاب، نحن بحاجة إلى التفكير في المعارف والجهالات بصيغة الجمع بدلًا من المفرد، مع الأخذ في الاعتبار أن ما يعتبر معرفة شائعة أو حكمة تقليدية يختلف من مكان لآخر ومن زمن لآخر. «المعرفة الجديدة تجعل أنواعًا جديدة من الجهل ممكنة». بالعودة إلى سي. إس. لويس، «ربما كل معرفة جديدة تخلق مجالا لنفسها من خلال خلق جهل جديد». يجب أن نفكر مرتين قبل وصف أي فرد، أو ثقافة أو فترة زمنية بأنها جاهلة، ذلك أنَّ ثمة الكثير بقدر كبير لمعرفته . شكوى قديمة، لكنها باتت مبررةً أكثر فأكثر في وقتنا الحالي. بالعودة إلى مارك توين، «نحن جميعًا جاهلون، لكن في أشياء مختلفة». المشكلة هي أن الأشخاص الذين يمتلكون السلطة في كثير من الأحيان يفتقرون إلى المعارف التي يحتاجونها، في حين أنَّ الذين يمتلكون هذه المعارف يفتقرون إلى السلطة.
بيتر بيرك
مؤرخ وكاتب بريطاني
ولد عام 1937 .
خريج جامعة أكسفورد
خبير في التاريخ الاجتماعي للمعرفة
نشر ستة وعشرين كتابًا تُرجمت إلى أكثر من واحد وثلاثين لغة.
من عام 1962 إلى عام 1979، كان عضوًا في كلية الدراسات الأوروبية بجامعة ساسكس
انتقل إلى جامعة كامبريدج
متزوج من المؤرخة البرازيلية ماريا لوسيا جارسيا بالاريس-بيرك
من أهم أعماله:
الثقافة الشعبية في أوروبا الحديثة المبكرة (1978)
علم الاجتماع والتاريخ (1980)
التاريخ والنظرية الاجتماعية (1991)
أصناف التاريخ الثقافي (1997)
الجهل: تاريخ عالمي (دار نشر جامعة ييل 2023)