مجاهد عبدالمتعالي

يظهر أن بعض من يكتب عن الحداثة يستبطن في اللاوعي سؤال الهوية (المتورم عربياً) بسبب جرح (الفوات الحضاري)، ولهذا كان سؤال الهوية ملعباً (أناركياً/لا سلطوياً) بالمعنى الفوضوي السلبي للتشغيب على (نظام الدولة الحديثة) من قبل (الأصولية الدينية) حتى الآن رغم ما يراه أحد الأصدقاء من استقرار الحداثة على المستوى (البيروقراطي/الحكومي والأهلي) بشكل طبيعي مطمئناً قارئه بأن الحداثة (منتشرة في كل جوانب حياة المجتمع) ومستغرباً الصراع القديم بين (مشايخ وأدباء) حول الحداثة.

بينما الواقع يشهد أن (الأصولية الدينية) راوغت ولا تزال عبر (سؤال الهوية) في تلونها كما فعل الإخوان المسلمون في بعض الدول العربية وكما يفعل (حزب الدعوة/الوجه الشيعي لأدبيات الإخوان المسلمين) في العراق حالياً، ولهذا فإن الشيطان يكمن في التفاصيل التي تناسيناها في ما سمي (الأدب الإسلامي/أبوالحسن الندوي) وصولاً إلى (إسلام السوق/باتريك هايني)، لنجد أن بنكاً يقوم بلعبة (لغوية) في تعريب اسمه ليصبح (مصرفاً) فيستأثر بحصة أكبر من المودعين الذين تحركهم (أدبيات) الإسلام السياسي حتى في (سوق الأسهم) شراءً وبيعاً، أكثر مما يحركها التحليل الاقتصادي، وهنا نعود إلى معركة (اللغة) بين الأدباء والأصوليين التي يقلل البعض من شأنها.

سؤال الهوية هو (كعب أخيل) بالنسبة للحداثة، وما دام (سؤال الهوية) سببه (البحث عن معنى) فإن هناك مسلكين للفرد كاستجابة لهذا السؤال: فإما طريق الحداثة في (العقلانية، الفردانية، المنطق العلمي) وصولاً إلى كامل دسم (المواطنة)، وإما طريق ما قبل الحداثة وصولاً إلى كامل دسم (داعش).

أعود لسؤال الهوية المرتبط بالحداثة التي قد يختزلها البعض تجوزاً في (النظام البيروقراطي للدولة في قطاعيها الحكومي والأهلي) وهذا معقول لكنه يستبطن ولو بشكل غير مقصود تحجيم (معركة الشعراء والأدباء مع الأصولية الدينية) متناسين أهمية (اللغة) في سؤال (الهوية) بل هي الركن الركين فيها عند علماء الاجتماع، وقدحها المعلى عند الناس (ديوان العرب/الشعر) لأن فيه (إعادة تشكيل للوجدان الشفاهي) للمجتمع، وانعكاس ذلك على أدبيات تتحدث عن (مواطن ومجتمع) أو تتحدث عن (إسلامي وجماعة)، فالواقع الحداثي يحتاج (لغة حديثة)، وبالإمكان تفريغ الواقع الحداثي من معناه عبر الممانعة اللغوية، يكفي التأمل لمسيرة (القهوة/البن) من التحريم إلى التحليل لارتباط كلمة قهوة بالمعنى الكلاسيكي في التراث العربي (أحد أسماء الخمر)، فكيف بالمفردات الأكثر تجريداً مثل (مواطن)، التي أربكت العقل الأصولي فقاومها بأدبيات (الوطن/الوثن).

ولهذا فمن الطبيعي أن يكون ميدان الصراع (الحداثي) مع (الأصولية الدينية) حول مجالين: (اللغة) و(المرأة)، الذي تحدثت عنه في كتاب (حجامة العقل/ بين العدمية والأدلجة) 2011، ثم بتفصيل وتوسع في كتاب (أضحية المعبد/المرأة واللغة) 2014.

ولنحفر أكثر بحثاً عن جذور طمرتها رمال التاريخ العربي لمعرفة بداية معارك الأصولية ضد أحد أقدم أركان الحداثة وأقصد به (العقلانية) ولماذا كانت حول (اللغة)؟! لنرجع ألف سنة للخلف لنرى أجداد الأصولية وهم يصرون أن مبتدأ اللغة (توقيفي) من عند الله، وصولاً إلى أن (اللغة العربية) هي اللغة الوحيدة للسماء، وكان خصومهم من العقلانيين يرون اللغة مولوداً (اصطلاحياً) وفق تفاعل الناس مع بيئاتهم وواقعهم، وقد ترتب عليها مسائل تاريخية خارج نظرنا الحالي، وصولاً إلى زمننا في الخلاف حول (الدولة) مدنية أم دينية؟! لنرى الأصولية ترى في الدولة (معنى دينياً توقيفياً من عند الله) يختبئ هذا المعنى (التوقيفي) تحت ركام من التخريجات الأيديولوجية للإسلام السياسي خلاصتها (ولاية الفقيه/المرشد)، بينما المعنى (الاصطلاحي) الذي يقرره الناس في مواثيق الأمم المتحدة عن طبيعة (الدولة المدنية) خروج على هذه الدلالة التوقيفية، وقد راح ضحيته (فرج فودة) لأنه (أنكر معلوماً من الدين بالضرورة) في المعنى (التوقيفي) عندهم لكلمة دولة، وقد سار رئيس تحرير سابق عندنا في خطى فرج فودة حول (الدولة المدنية) ثم توقف لا لضعف موقفه وحجته بقدر ما في (الأصولية الدينية) من عجرفة في تكرار العنت والعنف، فلا أقل عندها من سحق اجتماعي لا هوادة فيه عاشه مثلاً محمد جبر وخديجة العمري لأنهما (شعراء حداثة)، أقول مثلاً.... لأن هناك من يريد شطب صراع (اللغة) وصراع (المرأة) باعتباره هامشاً لغوياً وجندرياً تجاوزناه ببساطة لأن المرأة قادت سيارتها، والشعراء لهم هيئة تطبع دواوينهم، بينما المسألة أعمق غوراً منذ سؤال الأصوليين (هل اللغة توقيفية أم اصطلاحية؟) والمطلع على ثمرة هذا الخلاف الأصولي سيكتشف انعكاساته (التناحرية)، التي تؤكد انتصار مدرسة (التوقيفيين) على مدرسة (الاصطلاحيين) حتى لحظتنا التاريخية الراهنة فالدعوة إلى (التجديد) الشعري خروجاً على (تقعيدات الفراهيدي/786م) وصولاً إلى (التجديد) الفقهي خروجاً على (تقعيدات الشافعي/820م) سيرتطم بتراكم تاريخي يستمد جموده من (التوقيفية) في اللغة، صحيح أن المسألة ليست على سطح النقاش الثقافي، لكنها مطمورة في (اللاوعي) التاريخي وأظنها تقوده حتى الآن، حتى ولو أنكرها (العقل الواعي) لأي مفكر (إسلامي) ولو كان في حداثوية (طارق رمضان) وبراغماتيته.

لنلاحظ موقف رجال الدين من (تجديد/ تحديث/ تأويل الخطاب الديني) وكلها كلمات تؤدي إلى أن (اللغة اصطلاحية) وهذا ما يربك كل العقول (التوقيفية) لتراوح مكانها بدافع الإلف والعادة، أو بدافع المحافظة على القاموس (القديم) لكثير من رجال الدين الحاليين، على خلاف (العقلانية الرشدية/ابن رشد) وموقفها الحداثي من المرأة في الأندلس مما لا يتسع المقال لذكره، لكنه يؤكد ارتباط (اصطلاحية اللغة) بالنظرة العقلانية للمرأة باعتبارها شريكة لا تابعة.

تخيلوا رجل دين (توقيفياً) يستمع إلى عبارة على لسان مفكر عربي يتحدث عن (أهمية (الهرمنيوطيقا في النظر للنص مع مراعاة البعد الفينومينولوجي) أو يتفاجأ بشاعر حداثي يقول: يجب علينا (تفجير اللغة من داخلها) إنها مصطلحات ومجازات مرعبة لإمكانه العقلي، تكاد تشبه (قنبلة ذرية) في أرض (الدلالة اللغوية الثابتة/التوقيفية) في عقله، وعقله المختزل في (ذاكرة بلا تفكير) التي يكفي أن (يحفظها المريد عن شيخه، وشيخه عن شيخه، في سلسلة طويلة من السند المتصل للحفظ وليس الفهم) وصولاً إلى أن (صحة السند) مقدم على (معقولية المتن)، فكيف نستغرب أن بعض (كوادر داعش/ أكاديميين ومبرمجين ومهندسين وأطباء) لكنهم بلا (حداثة/عقلانية، فردانية، منطق علمي).