عبدالوهاب بدرخان

أكثر من مئة إنسان، بينهم أطفال ونساء، تحولوا قطعًا وأشلاء متفحّمة في «مدرسة التابعين» شرقي مدينة غزّة. كان ذلك ردًّا إسرائيليًا أوليًا على بيان لقادة دول الوسطاء، الولايات المتحدة ومصر وقطر، دعوا فيه إلى «استئناف» مفاوضات وقف إطلاق النار وتبادل الرهائن والأسرى. وفيما كانت واشنطن تفاوض إيران وتحذّرها مع وكلائها من سقوط قتلى مدنيين إسرائيليين في ردّهم على الاغتيالات، تواصل إسرائيل المجازر اليومية في قطاع غزّة بهدف قتل يحيى السنوار بعد إسماعيل هنيّة.

أكثر من 150 مدرسة، حكومية أو تابعة لوكالة «الأونروا»، دُمّرت حتى مع تحوّل معظمها مراكز إيواء للنازحين، ولا تزال خيام النازحين هدفًا دائمًا للطائرات والمسيّرات. الذريعة الجاهزة لدى جيش الاحتلال هي وجود مسلّحين بين المدنيين. ووسط السخط والاشمئزاز والإدانة حول العالم أمام هذه الوحشية الإسرائيلية، وعلى الرغم أن الـ«سي إن إن» لم تتردّد في إعلان أن «مدرسة التابعين» قصفت بأسلحة أمريكية، اكتفى البيت الأبيض بإبداء «قلق بالغ» إزاء «تقارير» سقوط قتلى مدنيين في غزة. ماذا يعني القلق؟ لا شيء. باتت المجازر واقعًا عاديًا عند واشنطن، فهي تبدأ بالتشكيك في «التقارير» الموثّقة بالصوت والصورة، وتنتظر تبريرات القتلة، ثم تمضي إلى الأكاذيب اليومية عن جهود لوقف إطلاق النار تعرف أنه لن يحصل وأن بنيامين نتنياهو لا يريده.

ثمة سقوط مريع للاعتبارات الإنسانية في سلوك هذه الإدارة الأمريكية. أصبح ميؤوسًا منها عالميًا، بسبب أخلاقياتها المنهارة وتماهيها اللامحدود مع التوحّش والإرهاب الإسرائيليَين. أكثر ما استطاعته مجرّد دعوات كلامية إلى إسرائيل لـ«اتخاذ التدابير اللازمة لتجنّب استهداف المدنيين»، وقد ردّ عليها بنيامين نتنياهو بأن نسبة الضحايا في غزّة هي «الأدنى» في كل الحروب. كانت تلك كذبة أخرى نالت الاستحسان والتصفيق الغبي في الكونجرس. لم تتوقف المجازر اليومية منذ انتهاءٍ معلنٍ للعمليات القتالية الرئيسية، ولم تعد هناك مستشفيات وما بقي منها يعمل بطاقة بسيطة لا تصلح لمعالجة الإصابات الخطيرة ولا يُمكن لأصحابها المغادرة لتلقي العلاج، فلا معابر مفتوحة إلى القطاع لا شمالًا ولا جنوبًا. هذا وضع لا إنساني يقول العاملون في الإغاثة إنه غير مسبوق إلا في ممارسات الجيش النازي.

علّق البيت الأبيض على رفض بتسلئيل سموتريتش الاتفاق المقترح لوقف إطلاق النار بأنه «سخيف ومضلل» و«يعرّض حياة الرهائن (الإسرائيليين) للخطر» و«يتعارض مع مصالح الأمن القومي لإسرائيل»... لكن البيت الأبيض هذا لم يبدِ رأيًا في دعوة سموتريتش إلى «تجويع مليوني فلسطيني في غزّة حتى الموت» كإجراء «مبرّر وأخلاقي» لاستعادة الرهائن. كانت عواصم العالم والعرب تأخرت كثيرًا في استنكار هذه الدعوة المكشوفة إلى الإبادة الجماعية، ربما لأنها لا تزال تعتقد أن قائلها ليس صاحب قرار في إسرائيل، لكنها تلمس أكثر فأكثر أنه مع ايتمار بن غفير لا يؤثران فقط بل يمليان آراءهما على نتنياهو الذي لا يحتاج أساسًا إلى من يشحذ تطرّفه. والأهم أن العالم يعرف الآن أن التجويع يُمارس تنفيذًا لسياسة قررتها حكومة إسرائيل.

وفي أي حال باتت الظاهرة الأكثر إقلاقًا فعلًا تتمثّل في أن المجتمع الإسرائيلي يزكّي التطرف، كما كشفت أحداث معتقل «سديه تيمان» وبروز رأيٍ عامٍ يدعم بوضوح تعذيب الأسرى الفلسطينيين والتصرّف بأجسادهم حتى الموت. هذه الواقعة، وهي ليست معزولة، تؤشّر إلى تفشي «سموتريتشية» عنصرية- فاشية في العقول. وتُظهر استطلاعات الرأي على الدوام أن مَن لديهم مآخذ على ممارسات الجيش في حرب غزّة، لاعتبارات قانونية أو «أخلاقية»، لا يتخطون الـ %4. أما التأييد لمواصلة الحرب فلم يقلّ أبدًا عن 55 - %60 بتوازٍ وتناقض مع تأييد «صفقة الرهائن» بنسبة %68، وفي الفترة الأخيرة كان تأييد الاغتيالات بـ %69 والحرب ضد لبنان بـ %62. هذه الأرقام تضمر أن المجتمع يمنح «مشروعية» لا يحتاجها متطرّفو الكنيست والحكومة للمضي في الإبادة الجماعية، ولأن «النصر» لم يتحقّق في غزّة، فإن زمرة المتطرفين في الحكومة تسعى الآن إلى حروب بلا نهاية.

ما كان يأمله البيان الأمريكي- المصري- القطري، عدا تشديد القادة على أن «الوقت حان لوقف إطلاق النار»، هو إظهار إرادة دولية- إقليمية لإنهاء حرب إسرائيل على غزّة بهدف إيجاد مبرر يقنع إيران و«حزب الله» وسائر الميليشيات بعدم الردّ على اغتيال رئيس المكتب السياسي لـ «حماس» والقائد العسكري لـ «الحزب» في الضاحية الجنوبية لبيروت، لئلا يتدحرج الردّ إلى توسيع الحرب على مستوى إقليمي. لكن البيان لم يتضمّن أكثر من الدعوة إلى «استئناف» مفاوضات الهدنة، وهذه حوّلتها إسرائيل إلى دوامة شروط لا تنتهي إما للضغط ميدانيًا على المفاوض الآخر «حماس» بارتكاب المزيد من التقتيل والتجويع والتدمير أو لاقتناص أي فرصة لاغتيال هذا المفاوض (هنيّة ومن بعده السنوار) لأنها لا تعترف بوجوده وتريد إنهاء الحرب على طريقتها وبشروطها، إذ أعلن نتنياهو أكثر من مرة (في مجلة «تايم» أخيرًا) أن الحرب تتوقف يوم «استسلام حماس». ومع أن الإدارة الأمريكية تعرف أن نتنياهو هو مَن يُفشل المفاوضات إلا أنه موقن بأن واشنطن لن تقدم يومًا على كشف مَن يعرقل الاتفاق، بل ستواصل اتهام «حماس».

توصّلت حملة الاتصالات الأمريكية، المباشرة أو بالواسطة مع إيران و«حزبها» وميليشياتها، إلى خفض احتمالات الحرب الموسّعة وإبقاء الردّ على الاغتيالات «مضبوطًا». وعلى الرغم من أن واشنطن وحلفاءها لا يزالون يخشون ردّ إيران وأتباعها إلا أن خشيتهم الكبرى هي من نتنياهو «المجنون»، كما باتوا يصفونه، خصوصًا أنه هو من يستدعي الآن الحرب «الشاملة» ولا يرى من واشنطن سوى التشجيع سواء بتعزيز قواتها أو بمنح إسرائيل 3.5 مليارات دولار لإنفاقها العسكري، أي لزيادة الوحش توحّشًا، وكيف لا يفعل ما دامت أمريكا سمحت بالتوحّش؟

* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»