لا تستنكر ترددى في مواطن الإقدام، فقد علمتني أمي الخوف من العفاريت والأشباح، وحدثتني ستى (جدتى) طويلا في شؤون «البعبع» و«الدجيرة» و«هول الليل»، فطبعتاني على التردد، وهيأتاني للخوف في جميع
مواطن الإقدام. إذا رأيتني عنيدا في بعض مواقفى، فلا تستكثر هذا على إنسان نشأ في بيئة تدللـه، ولا تجرؤ على معارضته فيما يفيد، ولا يسرها شيئا ما يسرها إرضاؤه.. بكل وسائل التدليل الفاشلة.
لعلك تضحك كثيرا إذا علمت أننى أميل إلى ألوان من التخريف رغم كراهتي للخرافة والمخرفين.. ولكن ضحكك سيزول إذا علمت أننى ورثت سائر أنواع التخريف الشائعة في محيطى من عشرات الأجيال، وأن ما ورثته تغلغل في مجارى الدم من عروقي، وأن نقاوة الدم من هذا التلويث لا تكفيها إلا تطهير مستمر، ولا يستفيد منه إلا أحفادى بعد أجيال وأجيال. عندما هرعت إلى ستى (جدتى) في بعض المرات خوفا من كلب كان يطاردني، قالت: لا تخف، فإن الكلاب لا ترقى الدرج، وقد انطبعت هذه الفكرة في أعمق أعماق ما ينطبع فيه أمثالها، وظللت إلى سنوات طويلة من عمرى أعتقد عجز الكلاب عن ارتقاء الدرج!!
فهل يكفي مثل هذا للتدليل على تحري ما يجب أن نطبعه في أذهان أولادنا!
عندما فرح أبى بإهلالي في بيته لم يترك وسيلة من وسائل التدليل حتى غمرني بها، وعندما شعر بأن تدليله كاد يفسدني قلب «الجبة»، وأذاقني من ويلات العصا ما لا يحتمله ناشئ، ولو علم رحمه الله أنه أخطأ في الأولى، ولم يصب في الثانية، لجنبني التدليل صغيرا، وعلمني كيف أحترم نفسى من هوان العصا ومذلتها.
لو أتيحت لنا دراسة أحوال الجناة لوجدنا أن 90% من العتاة واللصوص والقتلة يعانون أمراضا نفسية انتقلت جراثيمها إليهم في بيوتهم من أم تجهل مبادئ التربية، وأب لا يعرف بناء الشخصية، ومحيط لا يقدر الغرائز، ولا يؤمن بفضائل التوجيه.
لا ينقصنا شيء، لكن ما ينقصنا توجيه الطفل في حياته الأولى، فالطفل العاصي، والطفل المغرور والطفل الذليل، والطفل البغيض الذي لا يضمر الخير في الحياة.. كل هؤلاء ضحايا تناط آثامهم بكواهلنا، ونسأل أمام الله عن جميع ما يقترفون.
إذا رأيتنا أنانيين لا نؤمن إلا بمنافعنا، وإذا رأيتنا عبيدا لا نطيع إلا من يسومنا، وإذا رأيتنا ظالمين لا ننصف إلا من نخشى أن ينالنا، فثق أن مربيتنا كان ينقصها التوجيه العالى.
سمعت إنسانا تصدى للوعظ، يجدف على أهل الحياة، ويصورهم فيها بأبشع ما يمثل التصوير، فحملت ما رأيت على الغباء وجهل حقائق الوعظ!! ثم ترددت عليه، فرأيته يتربص بالناس، ويجاهد لأذاهم.. مؤولا ما يقرأه في مسائل الدين، ليتسع لما يشعر من هوى نحو أذاهم، فعلمت أن في أعماقه خفايا بعيدة الغور.
وصادفتني ظروف وصلتنى بأوشاجه، وهيأت لي دراسته، فاكتشفت في خفاياه ضميرا ينطوي على كراهية للناس، وحقدا عليهم، فعلمت أن في نفسه مرضا يستعصى على العلاج، وأن تحصيله في مسائل الدين لم يلامس روحه ليهذبها، أو سجاياه ليطبعها على الرأفة، والعطف وإيثار الناس بالمحبة والخير !!!
1943*
* أديب وصحفي ومؤرخ سعودي «1905 - 1984»
مواطن الإقدام. إذا رأيتني عنيدا في بعض مواقفى، فلا تستكثر هذا على إنسان نشأ في بيئة تدللـه، ولا تجرؤ على معارضته فيما يفيد، ولا يسرها شيئا ما يسرها إرضاؤه.. بكل وسائل التدليل الفاشلة.
لعلك تضحك كثيرا إذا علمت أننى أميل إلى ألوان من التخريف رغم كراهتي للخرافة والمخرفين.. ولكن ضحكك سيزول إذا علمت أننى ورثت سائر أنواع التخريف الشائعة في محيطى من عشرات الأجيال، وأن ما ورثته تغلغل في مجارى الدم من عروقي، وأن نقاوة الدم من هذا التلويث لا تكفيها إلا تطهير مستمر، ولا يستفيد منه إلا أحفادى بعد أجيال وأجيال. عندما هرعت إلى ستى (جدتى) في بعض المرات خوفا من كلب كان يطاردني، قالت: لا تخف، فإن الكلاب لا ترقى الدرج، وقد انطبعت هذه الفكرة في أعمق أعماق ما ينطبع فيه أمثالها، وظللت إلى سنوات طويلة من عمرى أعتقد عجز الكلاب عن ارتقاء الدرج!!
فهل يكفي مثل هذا للتدليل على تحري ما يجب أن نطبعه في أذهان أولادنا!
عندما فرح أبى بإهلالي في بيته لم يترك وسيلة من وسائل التدليل حتى غمرني بها، وعندما شعر بأن تدليله كاد يفسدني قلب «الجبة»، وأذاقني من ويلات العصا ما لا يحتمله ناشئ، ولو علم رحمه الله أنه أخطأ في الأولى، ولم يصب في الثانية، لجنبني التدليل صغيرا، وعلمني كيف أحترم نفسى من هوان العصا ومذلتها.
لو أتيحت لنا دراسة أحوال الجناة لوجدنا أن 90% من العتاة واللصوص والقتلة يعانون أمراضا نفسية انتقلت جراثيمها إليهم في بيوتهم من أم تجهل مبادئ التربية، وأب لا يعرف بناء الشخصية، ومحيط لا يقدر الغرائز، ولا يؤمن بفضائل التوجيه.
لا ينقصنا شيء، لكن ما ينقصنا توجيه الطفل في حياته الأولى، فالطفل العاصي، والطفل المغرور والطفل الذليل، والطفل البغيض الذي لا يضمر الخير في الحياة.. كل هؤلاء ضحايا تناط آثامهم بكواهلنا، ونسأل أمام الله عن جميع ما يقترفون.
إذا رأيتنا أنانيين لا نؤمن إلا بمنافعنا، وإذا رأيتنا عبيدا لا نطيع إلا من يسومنا، وإذا رأيتنا ظالمين لا ننصف إلا من نخشى أن ينالنا، فثق أن مربيتنا كان ينقصها التوجيه العالى.
سمعت إنسانا تصدى للوعظ، يجدف على أهل الحياة، ويصورهم فيها بأبشع ما يمثل التصوير، فحملت ما رأيت على الغباء وجهل حقائق الوعظ!! ثم ترددت عليه، فرأيته يتربص بالناس، ويجاهد لأذاهم.. مؤولا ما يقرأه في مسائل الدين، ليتسع لما يشعر من هوى نحو أذاهم، فعلمت أن في أعماقه خفايا بعيدة الغور.
وصادفتني ظروف وصلتنى بأوشاجه، وهيأت لي دراسته، فاكتشفت في خفاياه ضميرا ينطوي على كراهية للناس، وحقدا عليهم، فعلمت أن في نفسه مرضا يستعصى على العلاج، وأن تحصيله في مسائل الدين لم يلامس روحه ليهذبها، أو سجاياه ليطبعها على الرأفة، والعطف وإيثار الناس بالمحبة والخير !!!
1943*
* أديب وصحفي ومؤرخ سعودي «1905 - 1984»