يتبع المرء تصوراته في القضايا التي يطرقها، ومن ذلك تصوره للعلم. وقد حسب أقوام أنَّه يكمنُ في زيادة المحفوظات والتوسع في ترديد المنظومات، فيمضي عمره في حفظ النظم في النحو والتصريف وسماع شروحها ويتوسع في شواهد اللغة، حتى شاع بين عدد من الناس أنَّ بلاد شنقيط بلغت الغاية في هذه العلوم، فشدُّوا رحالهم إليها ثم أنَّهم بعد سنوات حينَ لا يعود الواحد منهم يحسن لهجته الأولى، يخرج متكلِّمًا متكلِّفًا النحو في حديثه الذي يجري ببطء، ويستحضر الأشعار عند كل صغيرة وكبيرة. على أنَّ هذا لم يكن دأب المحصِّلين من قبل من علماء وفقهاء، بالاستغراق في النحو فوق الحاجة. ولذا قال عالم القيروان، وشيخ المالكية في زمنه أبو محمد عبد الله بن إسحاق المغربي ابن التبان (371هـ): «ما أكثر أحد من النحو إلا حمَّقه»!
وقد شاع رمي المغرقين في النحو والتصريف بعدم الفطنة في تراثنا الأدبي، فيبطئ ذهنهم كأنه يقترب من بطء كلامهم، فصاروا مادة للسخرية، وقد جعلهم ابن الجوزي طرفًا لحديثه في كتابه (أخبار الحمقى والمغفلين)، وذكر من أخبارهم التي تدل على تبلُّد الذهن والقريحة. ومن ذلك ما حكاه عن شيخ بسجستان كان يتعاطى النحو، وكان له ابن فقال لابنه: إذا أردت أن تتكلم بشيء فاعرضه على عقلك، وفكر فيه بجهدك، حتى تقوِّمه ثم أخرج الكلمة مقوَّمة، فبينما هما جالسان في بعض الأيام في الشتاء والنَّار تتقد، إذ وقعت شرارة في جبة كانت على الأب وهو غافل، والابن يراه فسكت ساعة يفكر ثم قال: يا أبتِ أريدُ أن أقول شيئًا فتأذن لي فيه؟ قال أبوه: إن حقاً تكلَّم، قال: أراه حقًا، فقال: قل! قال: إني أرى شيئًا أحمرَ، قال: وما هو؟ قال: شرارةً وقعتْ في جبتك، فنظر الأب إلى جبته وقد احترق منها قطعة، فقال للابن: لمَ لم تعلمني سريعًا؟ قال: فكرت فيه كما أمرتني، ثم قوَّمت الكلام وتكلمت فيه، فحلف أبوه ألا يتكلمَ بالنحو أبدًا!
كان الفقهاء يدرسون الفقه دون أن يتوسَّعوا في النحو حدَّ الهوس، إنما يكتفون منه بما يحقق لهم آلة يفهمون بها الأدلة، أما أن يضحي الواحد من هؤلاء كحال بعض المتأخرين يفخر بحال شيخه الذي لا يتكلم إلا بشاهد شعري في كل مناسبة! فهذا لا يكون إلا على حساب غير ذلك من العلوم والمعارف، ولذا رموا من يفعل ذلك بالحمق، ممن يتكلَّف تقويم الألفاظ مع خواء المعنى، فما العلم في رجل يجيد ضبطَ لسانه لكنَّه لا يتكلَّم بشيء يجيده؟
إليكم محمد الحسن الددو، كانوا يفاخرون به بأنَّه ابن الدرس الشنقيطي في العلوم، لكنَّه ما أن يخرج في مقطع حتى يخيَّل إليك أنه صورة أعدَّت بالذكاء الصناعي، لا تكاد شفتاه تتحركان مع صوت يتكلَّف النحو والشواهد الشعرية، بلا ملامح وجه باستثناء سيل الدموع عند تصنِّع موعظة، وفي محتواه تجد الحمق كلَّه مرَّة بتهييج الناس للثورة، وأخرى بالحج دون تصريح، فضلًا عن كراماته المدَّعاة بأنه عرَف الاسم الثلاثي لرجل التقاه أول مرة دون سابق معرفة بزعمه، بفراسته العظيمة، لكنَّ فراسته لم تكن تعمل حين هيِّج الناس للثورات بأنَّ بلادهم ستضحي أطلالًا!
إنَّ العلم الحقيقي يكمن في التحقيق، ويتفاوت الناس في العقول وقدراتها على الربط والتحليل والنقد، وهذا محكُّ العلوم، لا مجرد المحفوظات التي يأخذ منها طالب العلم أوليات، ثم يدع الإغراق بما يزيد عن حاجته إلى ما هو أولى، وقد ذكر المتقدِّمون شيئًا شاع بين فئات من الناس لاحقًا، أنَّ من الحمق ألا يتكلَّم إلا بالفصحى في شارعه وأصحابه، مع أهله وجيرانه، وهذا من التصنُّع، قال ابن عقيل: «كان شيخنا أبو القاسم بن برهان الأسدي يقول: لأصحابه: إياكم والنحو بين العامة فإنه كاللحن بين الخاصة». وقال ابن الجوزي: «تكلم قوم من النحويين بالإعراب مع العوام فكان ذلك من جنس التغفيل وإن كان صوابًا لا ينبغي أن يكلم كل قوم إلا بما يفهمون»، هذا التكلُّف ليس من العلم في شيء، إنما لغاية الشهرة بين الناس.
والعجب ممن تكلَّف الرِّحلة، وعدَّد الإجازات، وفاخر بالمحفوظات، ثم لا هو حقق مسألة، ولا أبان عن قضية، وإن قيل له ما رأيك في مسألة؟ لم يكن ذا رأي، إذ لم يسعفه في ذلك حفظه، فكأنه حسب العلم في الذاكرة دون غيرها، لذا يتكلَّف حفظ كل ما قيل، فكيف وقد صار لزامًا في هذا العصر مطالعة علوم ومعارف لم تكن من قبل، حتى يتزن التفكير، أما أن يكون حيًا في هذا القرن لكنَّه كواحد ممن عاش قبل ألف عام! فهذا من البلاء في مختلف المسائل. فمن شرط الفقه معرفة الناس وأحوالهم، وظروف عيشهم، وما جدَّ في حياتهم، ويغش نفسه وغيره باعتقاد أنَّ ما هو عليه هو العلم. وفي ساعة التجريب لا يظهر منه فكر ولا رويَّة، بل يضيف قصة أخرى إلى تلك التي جمعها ابن الجوزي في كتابه عن أخبار حمقى، ممن حسبوا العلم بترديد ما حفظوه في كل مجلس وحين.
وقد شاع رمي المغرقين في النحو والتصريف بعدم الفطنة في تراثنا الأدبي، فيبطئ ذهنهم كأنه يقترب من بطء كلامهم، فصاروا مادة للسخرية، وقد جعلهم ابن الجوزي طرفًا لحديثه في كتابه (أخبار الحمقى والمغفلين)، وذكر من أخبارهم التي تدل على تبلُّد الذهن والقريحة. ومن ذلك ما حكاه عن شيخ بسجستان كان يتعاطى النحو، وكان له ابن فقال لابنه: إذا أردت أن تتكلم بشيء فاعرضه على عقلك، وفكر فيه بجهدك، حتى تقوِّمه ثم أخرج الكلمة مقوَّمة، فبينما هما جالسان في بعض الأيام في الشتاء والنَّار تتقد، إذ وقعت شرارة في جبة كانت على الأب وهو غافل، والابن يراه فسكت ساعة يفكر ثم قال: يا أبتِ أريدُ أن أقول شيئًا فتأذن لي فيه؟ قال أبوه: إن حقاً تكلَّم، قال: أراه حقًا، فقال: قل! قال: إني أرى شيئًا أحمرَ، قال: وما هو؟ قال: شرارةً وقعتْ في جبتك، فنظر الأب إلى جبته وقد احترق منها قطعة، فقال للابن: لمَ لم تعلمني سريعًا؟ قال: فكرت فيه كما أمرتني، ثم قوَّمت الكلام وتكلمت فيه، فحلف أبوه ألا يتكلمَ بالنحو أبدًا!
كان الفقهاء يدرسون الفقه دون أن يتوسَّعوا في النحو حدَّ الهوس، إنما يكتفون منه بما يحقق لهم آلة يفهمون بها الأدلة، أما أن يضحي الواحد من هؤلاء كحال بعض المتأخرين يفخر بحال شيخه الذي لا يتكلم إلا بشاهد شعري في كل مناسبة! فهذا لا يكون إلا على حساب غير ذلك من العلوم والمعارف، ولذا رموا من يفعل ذلك بالحمق، ممن يتكلَّف تقويم الألفاظ مع خواء المعنى، فما العلم في رجل يجيد ضبطَ لسانه لكنَّه لا يتكلَّم بشيء يجيده؟
إليكم محمد الحسن الددو، كانوا يفاخرون به بأنَّه ابن الدرس الشنقيطي في العلوم، لكنَّه ما أن يخرج في مقطع حتى يخيَّل إليك أنه صورة أعدَّت بالذكاء الصناعي، لا تكاد شفتاه تتحركان مع صوت يتكلَّف النحو والشواهد الشعرية، بلا ملامح وجه باستثناء سيل الدموع عند تصنِّع موعظة، وفي محتواه تجد الحمق كلَّه مرَّة بتهييج الناس للثورة، وأخرى بالحج دون تصريح، فضلًا عن كراماته المدَّعاة بأنه عرَف الاسم الثلاثي لرجل التقاه أول مرة دون سابق معرفة بزعمه، بفراسته العظيمة، لكنَّ فراسته لم تكن تعمل حين هيِّج الناس للثورات بأنَّ بلادهم ستضحي أطلالًا!
إنَّ العلم الحقيقي يكمن في التحقيق، ويتفاوت الناس في العقول وقدراتها على الربط والتحليل والنقد، وهذا محكُّ العلوم، لا مجرد المحفوظات التي يأخذ منها طالب العلم أوليات، ثم يدع الإغراق بما يزيد عن حاجته إلى ما هو أولى، وقد ذكر المتقدِّمون شيئًا شاع بين فئات من الناس لاحقًا، أنَّ من الحمق ألا يتكلَّم إلا بالفصحى في شارعه وأصحابه، مع أهله وجيرانه، وهذا من التصنُّع، قال ابن عقيل: «كان شيخنا أبو القاسم بن برهان الأسدي يقول: لأصحابه: إياكم والنحو بين العامة فإنه كاللحن بين الخاصة». وقال ابن الجوزي: «تكلم قوم من النحويين بالإعراب مع العوام فكان ذلك من جنس التغفيل وإن كان صوابًا لا ينبغي أن يكلم كل قوم إلا بما يفهمون»، هذا التكلُّف ليس من العلم في شيء، إنما لغاية الشهرة بين الناس.
والعجب ممن تكلَّف الرِّحلة، وعدَّد الإجازات، وفاخر بالمحفوظات، ثم لا هو حقق مسألة، ولا أبان عن قضية، وإن قيل له ما رأيك في مسألة؟ لم يكن ذا رأي، إذ لم يسعفه في ذلك حفظه، فكأنه حسب العلم في الذاكرة دون غيرها، لذا يتكلَّف حفظ كل ما قيل، فكيف وقد صار لزامًا في هذا العصر مطالعة علوم ومعارف لم تكن من قبل، حتى يتزن التفكير، أما أن يكون حيًا في هذا القرن لكنَّه كواحد ممن عاش قبل ألف عام! فهذا من البلاء في مختلف المسائل. فمن شرط الفقه معرفة الناس وأحوالهم، وظروف عيشهم، وما جدَّ في حياتهم، ويغش نفسه وغيره باعتقاد أنَّ ما هو عليه هو العلم. وفي ساعة التجريب لا يظهر منه فكر ولا رويَّة، بل يضيف قصة أخرى إلى تلك التي جمعها ابن الجوزي في كتابه عن أخبار حمقى، ممن حسبوا العلم بترديد ما حفظوه في كل مجلس وحين.