مجاهد عبدالمتعالي

للتو انتهيت من قراءة كتاب (ويبقى التاريخ مفتوحًا) لتركي الحمد.... نعم تركي الحمد الذي لم يحفظ السذج من كل مؤلفاته ومقالاته إلا عبارة وردت على لسان (أحد) شخصيات (إحدى) رواياته، مختزلين المفكر السياسي والروائي الجريء إلى (عبارة روائية) يمارسون بها وعليها كل عقدهم النفسية باسم الدين، متناسين أن هذا الاختزال الجائر جدًا طيلة ما يزيد على أربعة عقود من الكتابة (الصحفية والفكرية والروائية)، لم يؤثر في تركي الحمد (المفكر السياسي والروائي) بقدر ما كان فاتحة ليعرفه الكثير من القرَّاء المنصفين باعتباره (بطلًا ثقافيًا) وفق المعايير التي خطَّها لغيره في كتابه المشار إليه (ويبقى التاريخ مفتوحًا) إذ بدأه بمقدمة منهجية عن (فلسفة التاريخ) والتاريخ السياسي خصوصًا، ما بين قدرية وجبرية وما بين ذات وموضوع، ناسفًا وهم (نهاية التاريخ) حتى ولو جاءت على لسان فوكوياما فلا نهاية للتاريخ إلا بنهاية الإنسان على هذه الأرض كما يقول الحمد.

بعد هذه التوطئة سأطرح على نفسي السؤال التالي: لماذا (تركي الحمد) وليس غازي القصيبي مثلًا، والإجابة ببساطة - بحسب وجهة نظري- أن غازي القصيبي يحمل إضافة إلى مواهبه المتعددة رافعة اجتماعية اعتبارية تجعله من النخبة منذ ميلاده، فوالده هو عبدالرحمن القصيبي الذي شارك ضمن كوكبة الضيوف الرفيعة لافتتاح المسجد الكبير بباريس بعد الحرب العالمية الثانية، بينما تركي الحمد لم يحمل هذا الامتياز منذ الميلاد، وإن عاش وسط أسرة أكثر تحضرًا من غيرها مقارنة بعموم (الناس في تلك الفترة)، ولهذا تصح عليه صفة (البطل الثقافي)، إضافة إلى أن عقابيل التجارب الأيديولوجية التي مر بها كثير من النخبة منذ الخمسينات وحتى الثمانينيات الميلادية من القرن الماضي، تجاوزوها منزلقين إلى مراكز اعتبارية ضمن كوكبة التكنوقراط العليا أو الرأسمالية التجارية مع الطفرة النفطية، وقد حمتهم نسبيًا من غلواء الصحوة، بينما دفع (تركي الحمد) ثمن التجريب الأيديولوجي كاملًا منذ يفاعته وتجاوزه إلى فضاءات فكرية أرحب ليواصل الدكتوراه في العلوم السياسية وليعود ناضجًا بلا أورام أيديولوجية بقدر ما فيه من موهبة إبداعيه في المجالين (الفكر السياسي) و(الرواية العربية)، ومع ذلك انطلقت سهام (التجريح والقذف) تتجه إليه دون ترس يحتمي به ولو اعتباريًا مثل (منصب إداري رفيع، أو ثروة تجارية أرستقراطية) بقدر ما حماه - في ظني- ظل الرجال الكبار الحكماء الذين يدركون خسارة أمثاله من المفكرين والمبدعين المحسوبين على الدولة في تاريخها الأدبي والثقافي والفكري، والحماية كما أظنها (نسبية) وليست مطلقة.

هو في نظري يستحق لقب (بطل ثقافي) لأنه حتى هذه اللحظة 2024م وقد تجاوز السبعين من العمر لم ولن تجد على حسابه في وسائل التواصل سوى ما يغلب عليه طابع (الشتيمة والانتقاص والشيطنة لأدنى كلمة يصرح بها) على خلاف (مدعي البطولة الثقافية) ممن تحول إلى (شعبوي ثقافي/ براجماتي سلبي) فنحن نتحدث في هذا المقال عن (البطل الثقافي) وليس عن (أدعياء البطولة) الذين غلبوا بالمثابرة والميكافيلليه بلا موهبة، كثير من الموهوبين والمبدعين، وكلهم يعرفون بعضهم وليسوا محل حديثنا في هذا المقال.

تركي الحمد في كتابه (ويبقى التاريخ مفتوحًا) وخصوصًا في مقدمته تجد روح شفافة مغرقة في الإنسانية والتأمل الفلسفي مع صرامة فكرية تحاول الموضوعية التاريخية دون ادعاء تجاه (أبرز عشرين شخصية سياسية في القرن العشرين) وتلامس القارئ بشذرات من الذاتية النبيلة دون إسفاف، فكتب عن الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود بروح حرة رزينة منصفة، ولغة عالية مجيدة، لا تشم فيها ريحة (الشيوخ أبخص) بل فيها عبق (كاتب حر)، فمجد السيادة الملكية يكتمل بالأحرار يؤمنون بها، لا بالعبيد يهللون لها، وقد كان تركي الحمد كذلك.

لا أخفي القارئ وأنا أقرأ الكتاب شمولية المؤلف في معايير البطولة عبر التاريخ وقد انعكست علي إذ احترت بينه وبين مثقفنا الكبير (محمد العلي) أيهما يستحق لقب (البطل الثقافي) في جيلهم، فوجدت (محمد العلي) بطلاً يحمل روح (المسؤولية تجاه مرحلته ومجايليه الذين يعرفهم ويعرف عيوب تشرذماتهم الشللية جيدًا) ووجدت (تركي الحمد) بطلًا يحمل روح (المسؤولية تجاه مواقفه السابقة واللاحقة) بلا رفاق أو شلة قد تمكر ببعضها أحيانًا أكثر مما يمكر بها خصومها.

هل أضطر لاستعادة ما كتبه بليخانوف عن (الفرد في التاريخ) لعلي أتوسع في الكتابة عن تركي الحمد كبطل ثقافي قرر بصرامته وثباته وفردانيته واستقلاله (حتى في تقاعده المبكر) أن يترك مصير الاعتراف ببطولته إلى جيل آخر لن يشهده، هو (بطل) لأنه صمد على جميع المستويات كأنما عاش مناضلًا في سبيل (الحرية والكرامة) على مستواه الفردي (مفكرًا سياسيًا وروائيًا جريئًا)، حتى فتاوى تكفيره والمطالبة بمحاكمته، ليست إلا شواهد على ما حكاه بودلير في إحدى قصائده (الأمم لا تنجب العظماء إلا مرغمة) ولعل في هذه العبارة لبودلير ما يعزي تركي الحمد في طريق (بطولته الفردية) التي يعرف أثرها الإنساني على أجيال قادمة تستطيع احتمال (الاعتراف اللائق) متجاوزة (الاعتراف الاعتذاري) الذي يجيده الكثير الكثير من الناس حاليًا، بعد أن أسرفوا على أنفسهم بمضغ لحم شركائهم في الوطن فلم يسلم منهم أمير أو وزير أو مفكر أو مثقف أو شاعر أو حتى فنان مات على المسرح وهو يغني لهم (الله يرد خطاك)... صادروا على أنفسهم والناس حتى كلمة (رحمة الله عليه).

وأخيرًا لم أجد خاتمة تليق بتركي الحمد سوى قوله: «هل تعلمون أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يصنف أبناء جنسه وإخوته في الإنسانية إلى أحمر وأصفر وأبيض وأسود، وشرقي وغربي، وبين هؤلاء وهؤلاء أصناف وأصناف يقوم بينها القتال ويسود علاقاتها العنف وتسيل الدماء، حتى إذا ما بحثنا عن جذر المشكلة ولب الإشكال وجدنا أن العلة تكمن في الذات، وأن الصراع ليس إلا حول كلمة أو لفظة أو كره غذِّي به الإنسان مذ كان طفلًا بريئًا لا يدرك ولا يعي، نعم، إن الإنسان كائن وحشي، واعتذاري هنا من الوحش، إذ إن الوحش ما صار وحشًا إلا مضطرًا، أما الإنسان فإن توحشه اختيار ذاتي، وبهيميته عمل اختياري، نظرة بسيطة إلى عالم اليوم تثبت في اعتقادي كل ما ذهبنا إليه سابقًا من عفن الذات الإنسانية في سلوكها مع غيرها من الذوات الإنسانية وعدم استفادتها من مسار التاريخ الذي يقول كل شيء ويعلم كل شيء ولكن «لا حياة لمن تنادي».... بالعقل وحده وبترك عصبية الكلمات والأشياء، يستطيع الانسان أن يصبح إنساناً، وبالتالي ما لم يبلغ أن مجرد حياة إنسان واحد، فرد واحد، تساوي في قيمتها أية تجربة أو غايات تحاول أن تتجاوز الحياة ذاتها باسم كلمات وتعصبات ورغبات يخبرنا التاريخ أنها غالباً ما تنتهي إلى مقبرته الهائلة المليئة بالأجساد والأطماع والرغبات: «وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين» آل عمران. انتهى النقل من كتاب تركي الحمد: «ويبقى التاريخ مفتوحاً...».