لفوبيا الكاميرا مكان واضح على المستويين المؤسسي والمجتمعي، ولكنهما نقيضان مستويان على سطح المرآة العاكسة، فالأولى مبرراتها هزيلة وزائفة، والثانية مبررة ومقبولة لأنها تصبح شديدة الخطورة على المجتمعات التقاليدية التي وجب احترامها
لقد تداول النقاد مصطلح المرايا في تيار نقدي حديث، في محاولة سبر أغوار الواقع من خلال الأعمال النقدية، وسُطرت كتب عديدة بين المرايا المحدبة والمرايا المقعرة، فقد حظيت صورة المرآة بذاك الاهتمام الشديد في الدراسات الأدبية في المجال النقدي في النصف الثاني من القرن المنصرم، ومنها مفهوم المرايا المسطحة أو المستوية، ولهذا فقد فرض الموضوع نفسه، الكاميرا والمرايا المتوازية، وما تحدثه من عوامل نفسية في جوانب مجتمعاتنا.. فهناك أربعة أشكال وأوضاع معروفة للمرايا، المرآة العادية حينما تكون منفردة، تعكس كل ما يوجد أمامها في صدق وأمانة دون تزييف أو تشويه أو مبالغة وسميت بالمرايا المستوية. أما المرآتان المتوازيتان فتقدمان صورا لا نهائية لكل ما يقع بينهما في متاهة خداعة ووهمية. والمرآة المقعرة، تقوم بتصغير الأشياء بشكل مخل يشوه حقيقتها لكن المرايا المحدبة تقوم بتكبير كل ما يوجد أمامها وتزييفه حسب زاوية انعكاسه فوق سطح المرآة.
فإذا ارتأينا أن المرايا المقعرة والمرايا المحدبة والمتوازية والمستوية هي أدوات نقدية لعوالم المجتمع، فإن الكاميرا ـ الإعلام المرئي ـ في يومنا هذا هي أداة من أدوات المرايا المستوية كما يجب أن تكون، إلا أنها تتحول في عالم تسوده فوبيا الصورة إلى مرايا متوازية كما صنفها النقاد الحداثيون. بما تحمله من خواص المتاهة الخداعة والوهمية في ظل هذه الفوبيا.
وللصورة المسطحة مفعولها السحري في التسلل إلى الوجدان الجمعي وهنا تكمن الخطورة.
فللكاميرا سحرها ولها عنفوانها في الكشف عن أغوار النفس الداخلية قبل الخارجية وبالتالي المجتمع، ولعل الاهتمام بالتفاصيل الخارجية عامل حرفي فُتحت له أبوب الجامعات والأكاديميات العربية والعالمية للتعامل مع التأثير والتأثر بزواياها وحركاتها وأنواع إضاءتها في أطياف المجتمع، لأن تلك خاصية من خواصها الانعكاسية ولها مدلولاتها العتيدة في التأثير على من يتلقاها.
ولهذا كان السؤال الملح وهو: إلى أي مدى يتعامل مع الكاميرا المسؤولون من كوادر وشخصيات عامة وأعلام دول بعد أن تسلل نوع منها إلى أبعد مما يجب؟ ولقد دأب العامة على استقبال الكاميرا بنوع من التحفز وأحيانا نوع ثقيل من التزيي ولبس القناع خوفا وتأمينا من تسلل خواصها لكشف أغوار النفس وما يدور في بواطن الوعي، وفي ردهات المؤسسات الأهلية منها والرسمية. تلك مشكلة كبيرة في ارتداء القناع، ولهذا فقد ظهر فيلم اضحك الصورة تطلع حلوة لأحمد زكى عام 1999 لكي يكشف قناع مجتمع بأكمله بما له وما عليه. لأن في موروثنا النفسي أن يضحك المرء أمام الكاميرا فور التقاط الصورة، لكي يخفِ ما يظهره عما يبطنه وهنا تكمن الخطورة في إعلامنا الحالي. ولعل الكاميرا اليوم من أهم عوامل الخوف الذي قد يصل إلى حد الفوبيا لدى كثير من الشخصيات العامة، فلم يعد الأمر كما تعلمه ودرسه الدارسون والمتخصصون في فنون الزوايا واللقطات بحسب ما يقتضيه الخبر الصحفي إذا ما اعتبرنا أن الصورة في حد ذاتها خبر صحفي حسب مقتضيات الخبرة الصحفية في فنون الخبر وأدواته، ومن جهة أخرى أصبح الأمر أشد ضراوة وأكثر جرأة إلى أن يصل إلى التعدي على الحقوق الشخصية والحياة الخاصة. حتى أصبح في حياة المجمتع العربي برمته شبح هذه الفوبيا، فأصبحت تلعب هذه الفوبيا على مستويين:
المستوى الأول: على الصعيد المؤسسي.. المستوى الثاني: على الصعيد المجتمعي.
فإذا ما تطرقنا للمستوى المؤسسي في الوطن العربي فسنجد أن هناك العديد من الشخصيات العامة ترفض فجائية الكاميرا خوفا من المرور بين الحقيقة والقناع، وتجنبا لأهم خاصية من خواص المرايا المستوية التي تكشف الحقيقة كما هي دون زيف أو مواربة، حينها نقع جميعا كمجتمع في منطقة المرايا المتوازية بما تحمله من خاصية المتاهة الخداعة والوهمية، بالرغم من أن ثقافتنا العربية والإسلامية تأسست على مراقبة الذات في السر والعلن لمن تحمل عبء المسؤولية، فحين يصبح الإنسان في مصاف الشخصيات العامة فلا بد أن يكون ظاهره باطنه وباطنه ظاهره ويعلم أن لكل فرد في مجتمعه نصيبا في أدائه وتصرفاته وأخلاقياته وعاداته وتقاليده، ومن هنا يتحتم عليه أن يجعل من ظاهره مرآة لباطنه لأن الكاميرا أصبحت في مفهوم المرايا المسطحة الكاشفة لبواطن الأمور ولم يعد لنا سبيل لتقبل فكرة ومقولة اضحك الصورة تطلع حلوة. فلمذا إذا تلك الفوبيا التي نلحظها على كل من تبوأ مركزا مرموقاً؟ ولماذا يتحتم علينا أن نضحك للصور لكي تطلع حلوة؟ فالكاميرا يجب أن تتحرك بدون استئذان في كل ركن من أركان مؤسساتنا العربية والمحلية بدون خوف، لأنها منا وإلينا ومن خاف منها أو ترقبها أو استعد لها كان من المقنعين الذين يرفضهم المجتمع بأسره، لأنهم من فئة أو من جماعة اضحك الصورة تطلع حلوة بينما قد يكون في داخله بكاء ونحيب وتشنج لا يعلمه سواه.
أما على المستوى المجتمعى فالعكس هو الصحيح، من زاوية الحرية الشخصية واحترام خصوصية الفرد وخاصة في مجتمعاتنا العربية ذات الحدود والخطوط الحمراء، التي أصبح للفوبيا الكاميراتية فيها قسط كبير حرصا على شديد الخصوصية والحرية الشخصية في هذه المجتمعات، ولذلك نرى لهذه الفوبيا مكانا واضحا على كلا المستويين المؤسسي والمجتمعي، ولكنهما نقيضان مستويان على سطح المرآة العاكسة، فالأولى مبرراتها هزيلة وزائفة وغير مقبولة إلى أبعد مدى، والثانية مبررة ومقبولة لأنها تصبح شديدة الخطورة على هذه المجتمعات التقاليدية التي يجب أن نحترمها ونقدرها، إلا أن كليهما يستويان بمرارة شديدة على سطح مستو من الفوبيا العاكسة لدواخل النفس وللمجتمع بجميع مستوياته.