سافرت إلى الهند في عام 1352هـ رفيقا للشيخ محمود شويل -يرحمه الله-، وبعد شهر ونحن في (ملتان) نعد الشاي ظهرا ونحن قبالة الدرج؛ فإذا بعقالين يصعدان الدرج.. السيد عبدالله طه والسيد كامل عبد الجواد، لم أشعر إلا وأنا أقوم واقفا أضحك بصراخ، غمرتني الفرحة بجنة، ما أحسبني إذا وصلت إلى المدينة كأمر متوقع وحين أرى زوجي وابنتي أن أكون على حال من هذه الهيستريا. ودار العناق، لحظات مرت وأنا في غمرة هذه الحالة، أضحك وأضحك، كل ما في جسمي يرقص.
وحين جلسنا هدأت وكأنه لم يكن شيئا، وانصرفا، وما شعرت بوحشة حين غابا، المفاجأة في الغربة ورؤية المواطن قد سببت ذلك.
ومضت أشهر ونحن نأكل (الشباتي) و(الدال) فأوحشني (الخمير) وأنواع الأجبان والأسماك، وحين وصلنا إلى (كلكتا) رأيت الشيخ أبابكر أبا النور المدني وأبا الكلام آزاد الزعيم الهندي والمدني المكي، فلم أفاجأ ولم أتهستر، ولكن هذه الجنة من الفرح رأيتها في السوق التجارية حين أخذني عبد الأحد شويل ابن الشيخ محمود إلى السوق الكبير (سوبر ماركت)، فما شعرت إلا وأني أهتز فرحا.. أضحك وأضحك.. رأيت أنواعا من الخربز الخمير والليمون وعلب السردين وأنواع الجبن، شيء حرمت ستة أشهر، حين وجدته صرخت في رفيقي: (اشتر لنا من كل شيء) فقد كانت اللقمة من أي شيء هي كل الشيء ما ألذ طعمها!
ووصلنا (رانجون) واستوحشنا قليلا وإذا بمضيفنا السيد داود آتيا -يرحمه الله- يأخذنا في السيارة إلى المطار، كان الناس حديثي عهد بالطائرات، أباح لهم المطار أن يزوروه وأعدوا طائرة يركبها من يشاء بروبيات عشر تحلق فوق المدينة، يعرف أن الطائرة مركب لطيف، وقفنا في المطار ننتظر هؤلاء الذين يطيرون ويعودون، الهواء جميل والناس عليهم لمعة الترف، فرؤية الترف في صاحب الشظف قد تكون ممتعة إذا كان من الذين لا يحسدون الناس على ما آتاهم الله، وفي إحدى اللفتات رأينا فتى في يده كاميرا يلبس قميصا أخضر مغللا بزهرة بيضاء من الفل والياسمين، ولا يلبس بنطلونا وإنما قد أطلق على نفسه أن يلبس الشورت، نظرنا إليه يعد الكاميرا يستقبل الطائرة وكان جميلا جمال نصر بن حجاج، فتنة تمشي على الأرض.
وهبطت الطائرة، فأول من نزل منها فتاة تلبس ثوبا أخضر كقميصه على جبهتها صبغة حمراء هندوكية، نظرنا إليه وإليها فإذا هما توأمان من شدة الشبه بينهما، التقط لها صورة، أمسك بيدها، نحن لم نر الصورة في الكاميرا ولكن انطبعت لهما صورة في الوجدان، فقد كان الجمال رائعا لم أر لونا كلون الذهب يسطع ببياض مصفر صفرة الياسمين كلونها.. كلونه!
سكتّ وسكت الشيخ محمود سكتة إجلال لا نزوة فيها ولا هيستريا، وكأن مضيفنا شعر بما بنا، فقال: (هيا).. وكان ذلك ضروريا ليخفي ما بنا ولأن الجميلين قد ذهبا كأنما أخوها قال لها أو هي قالت له: (هيا)، ورجعنا إلى المنزل وصلينا المغرب وأكلنا العشاء وتمطى كل منا على سريره، ولا أدري كيف ذكرنا المنظر، فإذا بنا نضحك بصوت عال، غمرتنا جنة من الفرحة، حيث تمتع الوجدان بمنظر جميل، ومكثنا نضحك طويلا ونحن نتكلم بكلام لو دُوّن لكان عجبا، وهدأت قليلا فقد ذهبت الجنة، أقول للشيخ: (لقد أنستنا هذه صلاة العشاء، ولعلك نسيت راتبك كل ليلة) فاستغفر وقام يتوضأ كما توضأت، فالوضوء غسل للنفس، أنسانا ما كنا فيه، وبعد صلاة العشاء قام الشيخ إلى تهجده، وصار كل منا يطرد أن يذكر ذلك بعد.
فالغربة فاعلة ذلك والرؤية والمفاجأة لما يسر انفعال يحدث ما وصفناه، فهل جرب قارئ ذلك؟
1980*
* كاتب وصحافي سعودي «1906 - 1992».
وحين جلسنا هدأت وكأنه لم يكن شيئا، وانصرفا، وما شعرت بوحشة حين غابا، المفاجأة في الغربة ورؤية المواطن قد سببت ذلك.
ومضت أشهر ونحن نأكل (الشباتي) و(الدال) فأوحشني (الخمير) وأنواع الأجبان والأسماك، وحين وصلنا إلى (كلكتا) رأيت الشيخ أبابكر أبا النور المدني وأبا الكلام آزاد الزعيم الهندي والمدني المكي، فلم أفاجأ ولم أتهستر، ولكن هذه الجنة من الفرح رأيتها في السوق التجارية حين أخذني عبد الأحد شويل ابن الشيخ محمود إلى السوق الكبير (سوبر ماركت)، فما شعرت إلا وأني أهتز فرحا.. أضحك وأضحك.. رأيت أنواعا من الخربز الخمير والليمون وعلب السردين وأنواع الجبن، شيء حرمت ستة أشهر، حين وجدته صرخت في رفيقي: (اشتر لنا من كل شيء) فقد كانت اللقمة من أي شيء هي كل الشيء ما ألذ طعمها!
ووصلنا (رانجون) واستوحشنا قليلا وإذا بمضيفنا السيد داود آتيا -يرحمه الله- يأخذنا في السيارة إلى المطار، كان الناس حديثي عهد بالطائرات، أباح لهم المطار أن يزوروه وأعدوا طائرة يركبها من يشاء بروبيات عشر تحلق فوق المدينة، يعرف أن الطائرة مركب لطيف، وقفنا في المطار ننتظر هؤلاء الذين يطيرون ويعودون، الهواء جميل والناس عليهم لمعة الترف، فرؤية الترف في صاحب الشظف قد تكون ممتعة إذا كان من الذين لا يحسدون الناس على ما آتاهم الله، وفي إحدى اللفتات رأينا فتى في يده كاميرا يلبس قميصا أخضر مغللا بزهرة بيضاء من الفل والياسمين، ولا يلبس بنطلونا وإنما قد أطلق على نفسه أن يلبس الشورت، نظرنا إليه يعد الكاميرا يستقبل الطائرة وكان جميلا جمال نصر بن حجاج، فتنة تمشي على الأرض.
وهبطت الطائرة، فأول من نزل منها فتاة تلبس ثوبا أخضر كقميصه على جبهتها صبغة حمراء هندوكية، نظرنا إليه وإليها فإذا هما توأمان من شدة الشبه بينهما، التقط لها صورة، أمسك بيدها، نحن لم نر الصورة في الكاميرا ولكن انطبعت لهما صورة في الوجدان، فقد كان الجمال رائعا لم أر لونا كلون الذهب يسطع ببياض مصفر صفرة الياسمين كلونها.. كلونه!
سكتّ وسكت الشيخ محمود سكتة إجلال لا نزوة فيها ولا هيستريا، وكأن مضيفنا شعر بما بنا، فقال: (هيا).. وكان ذلك ضروريا ليخفي ما بنا ولأن الجميلين قد ذهبا كأنما أخوها قال لها أو هي قالت له: (هيا)، ورجعنا إلى المنزل وصلينا المغرب وأكلنا العشاء وتمطى كل منا على سريره، ولا أدري كيف ذكرنا المنظر، فإذا بنا نضحك بصوت عال، غمرتنا جنة من الفرحة، حيث تمتع الوجدان بمنظر جميل، ومكثنا نضحك طويلا ونحن نتكلم بكلام لو دُوّن لكان عجبا، وهدأت قليلا فقد ذهبت الجنة، أقول للشيخ: (لقد أنستنا هذه صلاة العشاء، ولعلك نسيت راتبك كل ليلة) فاستغفر وقام يتوضأ كما توضأت، فالوضوء غسل للنفس، أنسانا ما كنا فيه، وبعد صلاة العشاء قام الشيخ إلى تهجده، وصار كل منا يطرد أن يذكر ذلك بعد.
فالغربة فاعلة ذلك والرؤية والمفاجأة لما يسر انفعال يحدث ما وصفناه، فهل جرب قارئ ذلك؟
1980*
* كاتب وصحافي سعودي «1906 - 1992».